المطالبة السورية الأخيرة باستعادة الموقوفين في السجون اللبنانية، ومعظمهم متهمون في قضايا إرهاب مرتبطة بالتطرف، ليست تفصيلًا إجرائيا أو مسألة إنسانية عابرة، بل مفتاح لفهم هوية الدولة السورية الجديدة.
دمشق تجعل من هؤلاء المعتقلين اختبارا وعنوانا لتحركها يعكس ترابطا عميقا بين الحالة الجهادية التي وسمت السنوات الماضية، وبين السياسة الرسمية التي تسعى اليوم إلى إعادة هندسة المشهد الديني–السياسي داخل البلاد، وهذا الربط يكشف أن الدولة الناشئة لا تعيد تعريف سيادتها فحسب، بل تعيد أيضًا صياغة علاقتها بالإسلاميين في محاولة استيعاب ضمن هوية رسمية ذات طابع سلفي – مؤطَّر.
ملامح القضية
تشير تقديرات حديثة إلى وجود نحو2,000 سوري في السجون اللبنانية، بينهم حوالي800 متهمون بجرائم أمنية وإرهابية، وفي “مبنى الإسلاميين” داخل سجن رومية وحده، يقبع ما يقارب450 موقوفا، نصفهم تقريبا من السوريين.
في شباط 2025، لجأ عدد من الموقوفين السوريين في سجن رومية إلى إضراب مفتوح عن الطعام، في محاولة للضغط على السلطات اللبنانية، غير أن هذه الخطوة لا تغيّر من جوهر القضية، فهؤلاء الموقوفون، المتهمون بارتكاب جرائم إرهابية أو التورط في أعمال تهدد الأمن، يمثلون تحديا أمنيا وقانونيا معقّدا.
المسألة تتجاوز ظروف احتجازهم إلى سؤال سياسي أوسع، كيف ستتعامل الدولة السورية الناشئة مع مواطنيها حين يكونون جزءا من الظاهرة الجهادية التي أعادت رسم ملامح الإقليم؟
بيروت والقيود القانونية
المعادلة اللبنانية شديدة التعقيد، فالحكومة أكدت استعدادها للتعاون، لكنها اشترطت ألا يشمل التسليم من هم قيد المحاكمة، وأن يقتصر النقل على المحكومين بأحكام مبرمة، ما يعني أن نحو 370 محكوما تشملهم آلية تسليم، فيما يظل مئات الموقوفين في وضع قانوني معلق.
بيروت هنا تحاول الموازنة بين الضغوط الحقوقية التي تنتقد أوضاع السجون، والضغوط السياسية الداخلية التي تخشى من أي خطوة قد تُقرأ كتنازل لصالح دمشق.
دمشق وإعادة تعريف الهوية
المطالبة باستعادة هؤلاء المعتقلين ليست مجرد خطوة إجرائية إنها جزء من إعادة صياغة هوية الدولة السورية، فاختيار التركيز على فئة من الموقوفين المتهمين في قضايا إرهابية يكشف توجها واضحا، فالسلطات السورية الجديدة لا تسعى إلى استعادة أبنائها كواجب سيادي، بل إلى إعادة دمج أكثر الفئات إشكالية ضمن مشروعها السياسي– الديني.
هذا المسار يتقاطع مع السياسات العامة ذات الطابع السلفي الرسمي التي بدأت بالتبلور منذ لحظة إسقاط النظام السياسي السابق وبروز سلطة جديدة ذات مرجعية دينية، فلم يعد يُنظر إلى التيار السلفي باعتباره خطرا يهدد وجود الدولة، بل أعيد توظيفه داخل المؤسسات الحكومية، وتم صياغة هوية دينية صريحة سلفية ظهرت بوضوحكإطار مُلزِم للمجتمع والدولة على السواء.
ضمن هذا السياق، تصبح المطالبة باسترداد المعتقلين السوريين في لبنان إعلان رمزي عن قابلية استيعاب الفئات الأكثر إثارة للجدل ضمن الهوية السورية الجديدة، فالمطالبة السورية وصلت وفق بعض التقارير لجميع المتهمين، سوريين أو غيرهم مثل محمد الأسير، وبهذه الصورة يتحول الملف من قضية قضائية عابرة إلى أداة لإعادة هندسة العلاقة بين الدين والسياسة، وإلى تكريس مشروع دولة ترى في السلفية المؤطرة رسميا أساسا لشرعيتها الجديدة.
أي سوريا تتشكل اليوم؟
الحديث عن المعتقلين السوريين في لبنان يكشف أكثر من مجرد خلاف قضائي بين دولتين؛ إنه نافذة لفهم طبيعة الدولة السورية الجديدة، فمن خلال هذا الملف تتضح ملامح مشروع سياسي – اجتماعي يعيد تعريف المواطنة والسيادة والدين ضمن منظومة واحدة:
لم تعد المواطنة عقدا يقوم على الحقوق والواجبات، بل أصبحت في جوهرها فعل ولاء مطلق للدولة، فحتى الفئات التي كانت تُعتبر في قلب “المعضلة الجهادية” يجري استيعابها.
عبر مطالبتها باستعادة الموقوفين من لبنان، تحاول تثبيت صورتها كحاضنة لكل من حارب معها سابقا، وهنا تقدم نفسها ككيان يرى في المعتقلين امتدادا للتيار الذي يشكّل أحد أعمدة هويته السياسية–الدينية، فالملف وسيلة لإعادة ربط الداخل بالخارج ضمن إطار واحد، يقدّم الولاء للعقيدة الجهادية بوصفه معيار الانتماء الأول، أكثر من الانتماء القانوني أو الوطني.
ربط السياسات العامة بالمرجعية السلفية الرسمية يكشف عن محاولة لإنتاج شرعية جديدة، تقوم على احتكار المجال الديني؛ من خلال إدماج الخطاب السلفي ضمن مؤسسات الدولة، وصياغة هوية وطنية تحمل طابعا دينيا مؤطرا، يعيد إنتاج السلطة ويمنحها غطاءً عقائديا.
“سوريا الجديدة” لا تُعرّف نفسها فقط عبر استعادة أبنائها من السجون، بل عبر صياغة مفهوم مغاير للمواطنة والهوية، وشرعية تُبنى على دين يُدار من قِبل الدولة، ومشروع لإعادة هندسة المجتمع وفق معادلة دينية–سياسية تُقدَّم بوصفها الضامن الوحيد للاستقرار والشرعية.
هوية قيد التشكيل
المعتقلون السوريون في لبنان ليسوا مجرد ملف قضائي عالق، بل نقطة التقاء بين الدين والسياسة والسيادة، والدولة السورية الجديدة تسعى عبرهم إلى إعادة تعريف نفسها، فهي دولة تستوعب الإسلاميين تحت مظلة رسمية سلفية الطابع، ودولة تذكّر جيرانها والعالم أنها ما زالت قادرة على بسط نفوذها على مواطنيها.
هل هذه الهوية الجديدة قادرة على الصمود وبناء دولة وطنية متماسكة، أم أنها مجرد تكتيك مرحلي لإعادة إنتاج السلطة؟ الإجابة لم تتضح بعد، غير أن المؤكد أن مصائر مئات الموقوفين السوريين في لبنان ستظل مؤشرا حيا على مسار تشكل سوريا الجديدة، وعلى التوازن الدقيق بين العقيدة والسيادة في المشرق كله.
المصدر: سوريا الغد