في سوريا الجديدة التي خرجت من رماد نظام البعث تحت سلطة هجينة، نصفها أمني ونصفها جهادي بقيت البنية المريضة فلا دولة حقيقية، ولا سلطة قابلة للمساءلة، فقط منظومة تسيطر وتترك المناطق تنفجر على إيقاعها الخاص.
وجبل العرب، تلك الكتلة الجغرافية الشاهقة التي ظلت لعقود خارج معادلات الانهيار السوري المباشر، تحوّل الآن إلى مركز الصدع، فالمنطقة التي كانت يوما تسمى خط دفاع طبيعي للجنوب تحوّلت إلى ساحة حرب مفتوحة، وسكانها ليسوا مجرد ضحايا، فهم يعيشون في صراع مزدوج بين تاريخهم المعزول عن المركز، وواقعهم المحاصر في دولة بلا سيادة.
جغرافيا لا تسامح: حين يصبح الارتفاع لعنة
السويداء ليست مجرد محافظة جنوبية، فهي صخرة تطل على خطوط النار من جميع الجهات، وحدودها ليست مجرد خطوطا إدارية، بل مفاصل توازن استراتيجي، فمن الشمال، طريق دمشق – درعا يمر قريبا، ومن الجنوب، العراق والأردن على بعد ساعات، ومن الغرب “إسرائيل” باستراتيجيتها التي تحمل طموح النفوذ، أما الشرق، البادية الممتدة وتشكّل خاصرة رخوة للدولة المركزية.
لكن جبل العرب، وبكل ارتفاعه وحصانته الطبيعية، لا يحمي أحدا من الانهيار السياسي، فالجغرافيا هنا لا تصنع مناعة، بل تضخّم التناقض، فالبنية الجغرافية التي وفرت للأهالي حصانة نسبية لم تُنتج عسكرة محلية من تلقاء ذاتها، بل فُرضت نتيجة طبيعية لنمط السلطة في دمشق فالمركز لا يثق بأحد، والجميع يتحسب من طبيعة النظام السياسي الجديد.
الاشتباكات الأخيرة لم تكن مجرد انفجار أمني، بل أيضا مشهد لمرض مقيم، فأكثر من 89 سقطوا خلال 48 ساعة، ومئات الجرحى، ونزوح جماعي، ثم تدخل الجيش السوري ليدّعي “فرض النظام”، في مشهد يُعيد إنتاج أحداث سابقة حدثت في الساحل على وجه الخصوص.
لكن ما يميّز هذه الجولة ليس فقط عنفها أو عدد من سقطوا، بل طريقة الرد، فالطائرات “الإسرائيلية” تحلّق فوق سماء الجنوب، وتقصف دبابات كانت في طريقها إلى المدينة، بحجّة حماية طائفة محددة، ولا أحد في دمشق يتجرأ على إصدار بيان اعتراض جدي، فلا احتجاج في الأمم المتحدة، ولا تصعيد في الإعلام، بل صمت فقط يوضح بأن زمن السيادة السورية انتهى منذ زمن، ولا أحد يريد الاعتراف بذلك.
النظام الجديد بلا وجه
منذ أن أصبحت هيئة تحرير الشام في عمق البنية الأمنية في دمشق، ولم يعد هناك أي وهم عن طبيعة السلطة، من يرفع اليوم شعار “مكافحة الإرهاب” يفعل ذلك كشكل بلا مضمون، بينما ينسّق ميدانيا مع تشكيلات تحمل عمق الأدبيات الجهادية.
لا مفارقة في ذلك، بل هذا ما يحدث حين تنهار السياسة وتُترك الأجهزة لتعيد إنتاج السيطرة بأي ثمن، حتى لو تحالفت مع نقيضها العقائدي.
لا دولة قادرة على احتواء الجنوب، ولا تنظيم قادر على فرض النظام دون قمع، وهذا ما يجعل جبل العرب أشبه بمنطقة رمادية، وليست خاضعة كليا للنظام الجديد، ولا متروكة تماما للمسلحين المحليين، فهي مساحة معلقة، ومفتوحة على تدخل خارجي دائم، وعلى توترات لا تُحل بل تتكرر.
حين تطلب المجتمعات الحماية من الخارج
المؤشر الأخطر لمستقبل الجنوب ليس عدد القتلى، بل نوع الخطاب الصاعد من الأرض، بعض الوجهاء المحليون بدأوا يطالبون بحماية دولية، وبعضهم أيد صراحة الضربات “الإسرائيلية”، وهذا ليس مجرد انحراف سياسي، بل فقدان كامل للثقة في قدرة الدولة — أي دولة — على أن تؤمّن الحماية.
وحين يتحوّل المرتفع الجغرافي إلى نقطة ضعف سياسية، تكون الكارثة وصلت إلى العمق، لأن المسألة لم تعد نزاعا طائفيا ولا حتى صراع مصالح، بل تحوّلت إلى سؤال وجود؛ فهل هناك من يمكنه ضمان شيء في هذا البلد بعد الآن؟
الجيش كظل باهت لدولة غائبة
الهجمات “الإسرائيلية” لم تسقط فقط جنودا سوريين، بل كشفت هشاشة المؤسسة العسكرية، ولم يكن لدى الجيش رد، أو حتى تفسير، فالقادة الميدانيون في الجنوب تلقوا أوامر بالانسحاب بهدوء، ففي بلد تُقصف فيه قواته النظامية داخل حدوده، ويُطلب منها ألا ترد، تصبح الدولة مجرّد خيال.
ما تبقى من الجيش يعمل كقوة شرطية، يدخل عند الحاجة لقمع تمرّد، وينسحب حين يُؤمر، ولا عقيدة واضحة، ولا استراتيجية، بل فقط انتظار التعليمات من مراكز قرار يتداخل فيها الأمن مع الدين، والعسكر مع الميليشيا، والسياسة مع السوق السوداء.
الجنوب كنموذج دائم “للفوضى المستقرة”
السويداء، أو جبل العرب كما يفضل الجغرافيون تسميته، كان دائما خاصرة بعيدة عن المركز، واليوم، هو البوصلة التي يمكن من خلالها قياس مستوى الانهيار السوري، فحين تصبح الجغرافيا الجميلة مسرحا للغارات، وحين يطلب الناس حماية الطائرات الأجنبية بدل مؤسساتهم، ندرك أننا أمام مشهد نهائي لما يُسمى الدولة.
ما يجري في الجنوب ليس نهاية صراع، لكنه بداية مرحلة جديدة من التفكك المنظم، الذي لا يحتاج إلى قصف دائم، بل إلى تجاهل ممنهج.
من يحكم لا يسيطر
السويداء اليوم ليست مجرد عنوان أخبار، بل ورشة مفتوحة لواقع ما بعد السيادة، وما يجري فيها هو تلخيص مكثف لما وصلت إليه سوريا منذ كانون الأول 2024؛ كيان يحمل اسم الدولة، لكنه بلا قرار، وجيش يحمل اسم الوطنية، لكنه بلا عقيدة؛ ونظام يحكم، لكنه لا يمثل.
في جبل العرب، كل متر مربع هو مفارقة، فالأرض المرتفعة أصبحت مكشوفة، والمجتمع الذي طالما عاش ضمن علاقة خاصة مع المركز أصبح في بؤرة الصراع، والهوية السياسية انشطرت بين رغبة في النجاة، وغضب من سلطة لم تعد تعرف حتى كيف تقوم بــ”الدعاية السياسية”.
المصدر: سوريا الغد