عندما حطّ رئيس الوزراء الأسترالي أنطوني ألبانيزي في بكين في زيارته الرسمية الثانية منذ عام 2023، لم تكن الزيارة مجرد خطوة رمزية. فقد شكّلت جولته التي امتدت ستة أيام وشملت بكين وشنغهاي وتشنغدو، والتي التقى خلالها بالرئيس شي جينبينغ ورئيس الوزراء لي تشيانغ وعدد من كبار المسؤولين، إشارة واضحة إلى تحول دقيق لكن مؤثر في مشهد التوازنات الجيوسياسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ
وفي الوقت الذي تعزز فيه واشنطن جهودها لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي، تقوم إحدى أقرب حليفاتها — أستراليا — بانتهاج سياسة انفتاح تجاه بكين تتعارض بشكل متزايد مع استراتيجية الاحتواء الأمريكية
خلخلة استراتيجية مركزية
لسنوات، سعت الولايات المتحدة إلى بناء شبكة من التحالفات والاتفاقات مثل تحالف أوكوس والحوار الأمني الرباعي واتفاقات التموضع العسكري — بهدف مواجهة التمدد الصيني المتصاعد في آسيا والمحيط الهادئ. وكانت وحدة المواقف بين الشركاء الإقليميين تشكل حجر الأساس في هذه الاستراتيجية. غير أن انفتاح ألبانيزي على الصين، القائم على البراغماتية بدل المواجهة، يكشف عن تشقق في هذه الجبهة.
العلاقة مع الصين تعني وظائف في أستراليا. الأمر بهذه البساطة”، قال ألبانيزي قبيل مغادرته إلى بكين، مؤكداً رؤيته حيث تتفوق الاعتبارات الاقتصادية على الإيديولوجيا.
ولا تعني هذه السياسة تجاهلاً للاعتبارات الأمنية، إذ ما تزال أستراليا ملتزمة بتحالف أوكوس وغيره من التفاهمات الدفاعية، لكن الحكومة الأسترالية تحت قيادته تسعى إلى الاستقرار لا التصعيد، والحوار لا القطيعة
فك الارتباط عن واشنطن
يرى مراقبون أن دبلوماسية ألبانيزي تعكس إعادة تأكيد للمصلحة الوطنية الأسترالية في مواجهة سياسة خارجية أمريكية باتت أكثر ميلاً إلى الأحادية والتقلب. فقد ساهم نهج “أمريكا أولاً” الذي اعتمدته إدارة ترامب، إلى جانب مراجعة الاتفاقيات القائمة مثل تحالف أوكوس، في دفع كانبيرا نحو الاستقلالية الاستراتيجية.
تسير واشنطن في اتجاه يتعارض بوضوح مع مصالح أستراليا، وأي زعيم يُنظر إليه على أنه يتملق البيت الأبيض سيواجه مقاومة داخلية”، بحسب ما قاله مدير معهد العلاقات الأسترالية الصينية جيمس لورنسون.
هذه الملاحظة في غاية الأهمية. إذ تعتمد استراتيجية الاحتواء الأمريكية على رؤية استراتيجية مشتركة، لا مجرد التحالفات الرسمية. وتُظهر تحركات ألبانيزي كيف يمكن أن تتسبب المصالح الوطنية والاعتبارات الاقتصادية في إضعاف هذه الرؤية المشتركة — خصوصاً وأن الصين تمثل ما يقرب من ثلث إجمالي التبادل التجاري الأسترالي.
توازن محسوب
يعكس نهج ألبانيزي توجهاً متصاعداً بين القوى المتوسطة التي ترفض الاصطفاف بين معسكرين. فإدارته اختارت التحالف الانتقائي بدل الولاء المطلق. إذ بينما تحافظ أستراليا على التزاماتها الأمنية ضمن تحالف أوكوس، تسعى في الوقت ذاته إلى تطبيع العلاقات التجارية، وتعزيز التعاون في مجالات مثل الطاقة الخضراء، وتهدئة التوترات السياسية مع بكين. وهذا يمثل خروجاً عن منطق الاحتواء التقليدي الذي يفترض انقساماً واضحاً بين المعسكرات. فدبلوماسية ألبانيزي تحاول تجاوز هذا الاستقطاب
الأثر على استراتيجية الاحتواء الأمريكية
من المتوقع ان تكون النتائج المترتبة على الدبلوماسية التي يعتمدها البانيزي على استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين عميقة. فمن شأن هذا ان يؤدي الى تآكل وحدة التحالف الذي تحاول واشنطن اقامته في مواجهة الصين. إذ ان النهج المستقل الذي يعتمده من شأنه اضعاف التحالف الرباعي او الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين.
كذلك فإن النهج الذي يعتمده البانيزي قد يشجع دولا أخرى في شرق اسيا حليفة للولايات المتحدة مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا والفليبين وماليزيا وحتى تايوان الى ان تنتهج السياسة نفسها لجهة فتح خطوط علاقات متشعبة مع بكين بما يضعف استراتيجية الاحتواء الأميركية للصين.
ويدلل هذا على اعتماد استراليا لسياسة تعلي مصالحها الاقتصادية على حساب المواجهة الجيوسياسية الصلبة التي تعتبر مكلفة جدا على الصعيد الاقتصادي بالنسبة للقوى المتوسطة في خضم الصراع بين القوى الكبرى. وهذا سيجعل هذا من المحتم الولايات المتحدة، وخصوصا إدارة الرئيس دونالد ترامب ان تعيد النظر في استراتيجيتها وأن تتبنى نهجا أكثر مرونة تجاه مصالح شركائها خصوصا في شرق اسيا، وإلا فإن هذا قد يؤدي الى تفكك استراتيجيتها في مواجهة الصين في المحيطين الهادىء والهندي.
استراتيجية ناجعة يعتمدها البانيزي؟!
قد يعتبر البعض أن ألبانيزي يضعف موقف الردع الجماعي الغربي في مواجهة الصين، خصوصاً في ظل ما تعتبره القوى الغربي مواصلة بكين في عسكرة بحر الصين الجنوبي وتوسيع وجودها العسكري في أماكن مثل بحر تسمان. غير أن مناصري البانيزي يعتبرون انه يعبر عن نضج في إدارة السياسة الخارجية لأستراليا حيث يركز على السعي وراء تشبيك علاقات ينتج عنها منافع متبادلة
فعبر هذه الزيارة التي تركز على تعزيز العلاقات التجارية والتكنولوجية وتشبيك العلاقة في مجال الطاقة مع بكين، فإن البانيزي الذي رافقه في زيارته وفد كبير من رجال الاعمال الاستراليين، أعاد صياغة العلاقات مع الصين بعيدا عن استراتيجية الاحتواء الأميركية، بما يثبت ان القوى الإقليمية الثانوية قادرة على إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يخدم مصالحها بعيدا عن استراتيجيات المواجهة التي تعتمدها القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ويعتبر المراقبون ان البانيزي قد وجه رسالة واضحة الى الولايات المتحدة مفادها أن استراليا من الان فصاعدا ستعتمد سياسة تجاه الصين تعلي مصالحها لا مصالح الولايات المتحدة، وفي مواجهة شعار اميركا أولا الذي يرفعه ترامب، فإن واشنطن بات عليها ان تتوقع اعتماد كانبيرا شعار استراليا أولا.
المصدر: الأمة