قراءات سياسية فكرية استراتيجية

في مئويته… أيعقل؟

يحتفل الشيوعيون بمئوية الحزب الشيوعي اللبناني، الحزب الذي مثل طليعة ثورية في نضال شعبنا في سوريا ولبنان من أجل الاستقلال من الاستعمار الفرنسي ودفاعاً عن قضايا العمال الفلاحين والكادحين، ولاحقاً وبعد انفصال الحزب إلى حزبين شقيقين في كل من سوريا ولبنان، استمر نضال الشيوعيين في ظروف العمل السري، ولاحقاً في ظروف أكثر سهولة من العلنية، زوداً عن القضية الوطنية المتمثلة في مواجهة العدوانية الصهيونية وتداعيات زرع الكيان الغاصب وتهجير الشعب الفلسطيني، ومن أجل العدالة الاجتماعية وصولاً لبناء الاشتراكية.
خلال مئة عام انخرط في صفوف الحزب عشرات الوف المناضلين الثوريين، ومنهم من قدم أغلى ما يملك دفاعاً عن مبادئه والتزاماً بتنفيذ خطة الحزب ومشروعه السياسي. كذلك، وتحت ظروف النضال القاسية، ترك قسم من أعضاء الحزب صفوفه، فالانتماء إلى حزب ثوري يتطلب مستوى من البذل والتضحيات قد لا يتحمله كل الأشخاص.
وثابر الحزب منذ تأسيسه على انتهاج سياسة ثابتة وواضحة في المسألة الوطنية: النضال ضد الاستعمار الفرنسي، موقف واضح من النازية والصهيونية، (باستثناء خطأ تأييد قرار تقسيم فلسطين)، تأسيس الحرس الشعبي وقوات الأنصار، القتال ضد مليشيات اليمين تحت شعار الدفاع عن عروبة لبنان ووحدة أراضيه وعن الثورة الفلسطينية، إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، المشاركة في مواجهة العدوان في العام ٢٠٠٦.
وانطلاقاً من فهم الشيوعيين اللينيني للنضال التحرري كشكل تاريخي خاص من النضال الطبقي بين الشعوب والامبريالية، بصفتها اعلى مراحل الرأسمالية، لم ينظروا الى القضية الفلسطينية كشأن خاص بالفلسطينيين، ناهيك عن التماس الحدودي المباشر مع الكيان الغاصب، وتداعيات هذا التماس على اللبنانيين عموماً والجنوبيين خصوصاً والذين كانوا دائماً عرضة للعدوانية الاسرائيلية في ظل نظام سياسي تابع لمراكز الغرب الامبريالية.
انتهت الحرب الأهلية بفرض تسوية اقليمية على الداخل اللبناني، أخرجت الشيوعيين من احتمال المشاركة في السلطة مع احزاب حلفائهم من الحركة الوطنية، وترافق ذلك مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وفي ظروف الضغط الاقليمي والداخلي توقف عملياً نشاطهم المسلح في جمول بالرغم من بقاء جزء من الارض اللبنانية تحت الاحتلال.
وساد في الحزب مناخ من الاحباط رافقه تخلي قسم غير قليل من قيادات الحزب وكادراته عن النشاط الحزبي. ونجح رفيق الحريري، رجل السعودية، الآتي بمشاريع اللبرلة الاقتصادية وشراء الذمم من استقطاب كادرات كثيرة من اوساط التنظيمات الشيوعية والقومية وحتى الاسلامية والنخب الاجتماعية. ولعبت هذه النخب دوراً هاماً في الحزب الذي اسسه الحريري ومؤسساته المختلفة، خصوصاً الاعلامية. ان انتقال هذه النخب الى مواقع سياسية نقيضة لما حملته سابقاً من قناعات والتزام، والمساحة الاعلامية التي مُنحت لها من ابواق الاعلام الخليجي ومؤسساته المختلفة، خلقت التباساً عند بعض الناس الذين اعتادوا سابقاً ان يروا في هؤلاء الاشخاص نماذج وطنية.
ولم يقتصر هذا التحول الخطير نحو اليمين عند نخب وجدت ضالتها في الارتزاق عند انظمة الخليج ووكلائها المحليين، انما كان للانهيار السوفياتي الأثر الكبير في الدعوات لمراجعة تجارب الشيوعيين وتبيان اسباب هذا الفشل، وهذا امر مشروع وضروري، ولكن قسماً غير قليل من الذين قاموا بهكذا نوع من المراجعة، ومن دون البحث في الظروف السوفياتية التي تسببت بالفشل، استسهلوا القاء اللوم على النظرية الماركسية اللينينية واعتبارها لا تتماشى مع العصر (تماما كما هو موقف اعداء الاشتراكية)، ووصل الحد ببعض القيادات السابقة لاعتبار الاشتراكية كذبة. وكان من تداعيات هذا التراجع او التأزم حدوث انشقاقات متتالية في الحزب بعناوين مختلفة في ظروف تعقد الصراع الاقليمي والداخلي.

واذا كانت قيادة الحزب قد قرأت بشكل صحيح اهداف العدوان الصهيوني على لبنان في العام ٢٠٠٦ واتخذت موقفاً لا لبس فيه بالوقوف في خندق المقاومة واتخاذ جملة من الاجراءات التنظيمية والعملانية، بالرغم من ان حزب الله كان مشاركاً حينها في السلطة، وكان الحزب الشيوعي معارضاً وله انتقادات جدية على سياسة حزب الله الداخلية، الا ان هذا التمايز والاعتراض لم يمنع قيادة الحزب الشيوعي في حينه من فهم حجم الخطر المتمثل باحتمال نجاح التحالف الصهيوغربي من هزم المقاومة، لان في ذلك ليس هزماً لحزب الله كقوة سياسية (وحتى لو انها طائفية) بمقدار ما ستكون هزيمة لكل مشروع المقاومة في لبنان وفلسطين والمنطقة. وعليه، شارك الشيوعيون بما يملكون من امكانيات ضئيلة لا تقارن مع امكانيات حزب الله وقدموا في هذه المواجهة مجموعة من الشهداء الابطال. وبعد انتهاء العدوان وفشله وما رافقه من حملة داخلية لتحميل حزب الله المسؤولية عن العدوان، (امر عجيب ان تُحمل المقاومة المسؤولية عن العدوان والدمار، وهذا لا يصدر الا عن مستسلمين او خونة) فان الحزب الشيوعي دافع بلا هوادة عن حق شعبنا في المقاومة وهو الموقف المنسجم مع تاريخ الحزب الوفي لشهدائه والمؤكد على ثورية الحزب وطليعيته.

ليست الان المناسبة لتناول واقع الحزب السياسي والتنظيمي بعد المؤتمر الحادي عشر ووصول حنا غريب وكمال حمدان والعنداري وعمر الديب الى مواقع القرار وكيفية اخراج مجموعة من الكادر في عملية تطهير صيغ عنوانها تحت شعار التجديد، وتمثل مضمونها في الانتقال من مواقع اللينينية الى التروتسكية ويوجد الكثير ما يقال في هذا الصدد.
وبعض تجليات هذا التحول كيفية صياغة سياسة الحزب في مسألة الانتخابات النيابية، ومن هي القوى والشخصيات التي تقاطع معها الحزب ودعمها (مجموعات الأن جي اوز) وما هو اليوم موقف حلفاء الحزب في الانتخابات (الذين وصلوا الى الندوة النيابية او لم يصلوا) امثال مارك ضو ووضاح الصادق وعلي مراد وأضرابهم.

المسألة الاخرى اللافتة هي الموقف “الرمادي” للحزب في بداية معركة طوفان الأقصى، ومعركة الاسناد التي بدأها حزب الله في لبنان وبمشاركة بعض الفصائل الاخرى، وصولاً الى ما يصدر عن “شيوعيين” على مواقع التواصل من مواقف معادية للمقاومة وبعضها لا يختلف عن اطروحات اليمين من تحميل حزب الله المسؤولية عن الهمجية الصهيونية وبأننا غير معنيين بما يتعرض له الشعب الفلسطيني، وانه لماذا علينا تحمل الاعباء بنتيجة مغامرات حماس، وانه لا علاقة لنا بفلسطين طالما “العرب” تخلوا عنها، وان المعركة لا تعنينا لانها بين أذرع ايران واداة اميركا والخ.
أيعقل ان ينتهي الامر بحزب كان طليعياً وثورياً في كل معارك شعبنا وفي كل الساحات الى هذا الهزال في الذكرى المئوية لتأسيسه؟

د. طنوس شلهوب

اقرأ المزيد
آخر الأخبار