قراءات سياسية فكرية استراتيجية

موت الشرعية الدولية

في 21 اذار 2003, نشرت جريدة The Guardian البريطانية مقالة للسيد ريتشارد بيرل ( Richard Perle) تحت عنوان: “الشكر لله على موت الأمم المتحدة.” في ذلك الحين كان السيد بيرل يشغل منصب استشاري لوزارة الدفاع الأميركية. في مقالته تلك أظهر بيرل امتعاضه عن عجز مجلس الامن عن اصدار قرار يشرعن الحرب الاميركية على العراق. و يبقى لنا, يخلص بيرل, الاعنماد على استعداد الدول للحفاظ على التوازن الدولي من خارج عمل المؤسسات الاممية. و هذا برأيه الخيار الوحيد لواقع الفوضى الدولية التي أدت الى ما أسماه “الفشل الحقير” للأمم المتحدة. خلاصة القول بالنسبة لبيرل, الأمم المتحدة اما ان تكون مطواعة للسياسة الأميركية او لا تكون.
كان المطلوب ترويض الأمم المتحدة مع صعود الأحادية الأميركية. و لعلّ البرنامج الانتخابي للرئيس الأميركي بيل كلينتون في العام 1992 يكشف ذلك., حيث حدد هدفا” استراتيجيا” هو ادماج الأمم المتحدة في السياسة الخارجية الأميركية. و على ذلك مورست ضغوط أميركية مالية و سياسية و أمنية على الأمم المتحدة كي تبقى ضعيفة. و كثيرا” ما قوبلت الخطة الاصلاحية لبطرس غالي بالرفض الاميركي حينا” و اللامبالاة احيانا” كثيرة. فلا الجيش الأممي تحقق, ولا الأزمة المالية للمنظمة الأممية وجدت حلا” جذريا” لها. و لا قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بعملية السلام في الشرق الأوسط تم العمل على تطبيقها.
نحن في هذه الجهة من العالم نأسف, لا بل نستنكر و نستهجن و ندين عجز الامم المتحدة بكافة هيئاتها عن وقف العدوان الصهيوني على فلسطين ولبنان. مثال على ذلك قرارات مجلس الأمن 2712 و 2728 و 2735 لم تطبق بسبب رفض اسرائيل لها في جو من الصمت العالمي المريب. من جهتها حاولت الجمعية العامة للأمم العامة للأمم المتحدة من خلال القرارين 21/10ES و22/10ES الدعوة الى هدنة انسانية او وقف فوري لاطلاق النار, و لكنها سقطت كلها امام العنجهية الصهيونية في رفضها الاذعان للقرارات الدولية. و هكذا,فكل مشروع أممي يتضمن اي ادانة لاسرائيل على جرائمها الارهابية و اللاانسانية, تسقطه واشنطن بممارسة حق النقض في مجلس الأمن, او تعمل على اجهاضه من خلال دعمها العسكري و السياسي و المالي للكيان الصهيوني.
في رأينا, ان فشل الأمم المتحدة في تطبيق ميثاقها او في تنفيذ قراراتها اللصيقة بالصراع العربي- الاسرائيلي يقودنا الى طرح الاستنتاجات التالية:
1- ان القانون الدولي و القانون الدولي الانساني اللذان ينظمان العلاقات بين الدول في سياساتها الخارجية و مصالحها الحيوية في حالتي الحرب و السلم, هما اليوم خاضعين لهيكلية النظام العالمي الاحادي الجانب.
2- ان اية دراسة لمسار الامم المتحدة و عمل وكالاتها و مجالسها المتخصصة, تلحظ كيف ينحّى القانون الدولي جانبا” امام الضغوطات السياسية و المصالح الدولية القائمة على الاستئثار و الهيمنة لا العدالة و لا الحق. و هذا ما حذّر منه وزير الخارجية الفرنسية دومينيك دي فيلبان في 19 آذار 2003 في مجلس الأمن الى مخاطر تنحية الأمم المتحدة, و طغيان لغة الحرب على ما عداها. فلا شرعية دولية و لا قانون دولي مع تهديد سيادة الدول.
3- ان الدول الكبرى المسؤولة عن حفظ الأمن و السلم الدوليين عاجزة اليوم حتى في محاولتها التخفيف من معاناة المدنيين الذين يتعرضون للفتل و التجويع و التهجير. و أننا لا نرى اي تقسير للدعم الغير مسبوق لحرب الابادة الصهيونية بحق الشعبين اللبناني و الفلسطيني سوى ان اسرائيل كيان غاصب فوق القانون عدا القانون التلمودي الذي منحها الحق في القتل. صحيح ان

منطق الغزو قائم منذ فجر التاريخ, اما ان يحصل ذلك امام أنظار الامم المتحدة, فيعني أننا نعيش في عالم متوحش تسيطر عليه شريعة الغاب. و ماذا يبقى من القانون الدولي الانساني عندما تعلن وزيرة خارجية المانيا أن “لاسرائيل الحق بقصف المدنيين.”

او عندما يطالب وزير الدفاع الأميركي اسرائيل بأن “تقلّص” ضرباتها في بيروت, لا أن تتوقف عن قصف المدنيين.

4- ان حق النقض (veto) ليس حقا” قانونيا” بل مجرّد جائزة حصلت عليها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. انه يستند الى حق القوة لا الى قوة الحق, و بانه بذلك يكرّس الهيمنة السياسية و العسكرية للدول الكبرى التي طوعت لصالحها قواعد القانون الدولي, علما” انه لا يمنح الحق لتلك الدول في تفسير ذلك القانون.
5- سوف يذكر التاريخ ان حرب الابادة الصهيونية االمستمرة في فلسطين و لبنان تبقى الدليل الساطع و الأوضح على اهمال القرارات الدولية ذات الصلة. على صعيد آخر, نجد أن القانون الدولي الانساني, الذي هو مجموع القواعد الدولية التي تشكّل حدودا” لضبط استعمال السلاح المحرّم دوليا” ضد السكان الآمنيين, يخضع في تطبيقاته لأزدواجية المعايير. فأين هيبة القانون الدولي عندما تمارس واشنطن حق النقض في مجلس الأمن لاسقاط اي مشروع قرار يتضمن اي ادانة لاسرائيل على جرائمها العدوانية و الارهابية و اللاانسانية. وكيف توائم الولايات المتحدة بين دعوتها لحلّ الدولتين و استعمالها حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يتضمن ذلك الحلّ ؟ كما ان ازدواجية المعايير تبدو واضحة عندما تنتهك قاعدة عمومية القانون بلا تمييز بين الدول و الأمم و الشعوب. فالقرارات ذات الصلة بقضية فلسطين تندرج تحت الفصل السادس, اي انها صدرت مخففة, بينما صدرت قرارات خاصة بازمات العراق و ليبيا و افغانستان تحت الفصل السابع.
نعم, هناك حقوق عربية مشروعة نصت عليها القرارات الدولية, لكنها حقوق منتهكة, لان قواعد القانون الدولي مغيبة لدرجة انها تشكلت تهديدا” لوجود الأمم المتحدة في اصلها و اساسها. ان تجاهل تنفيذ قرارات قضية فلسطين يعتبر من ابرز اسباب ضعف الأمم المتحدة او انهيارها. فممثلوا الأمم غير المتحدة هم اليوم عاجزون عن تطبيق الميثاق تحت وطأة سياسة القوة التي تعتمدها بعض الدول الكبرى الداعمة للكيان الصهيوني في سعيه لأقامة “اسرائيل الكبرى” بحسب الاسطورة التلمودية. وعليه,الكيان الصهيوني افرغ مصادر العدالة الدولية من مضمونها التي جيرت لصالح الاقوياء و النافذين. و هذا ما جعل نتنياهو مطمئنا” الى قدرته على الرسم بالدم خرائط جديدة للشرق الاوسط.
فمن حق الشعوب الضعيفة ان تتمسك بالأمم المتحدة, و بكل مصادر القانون الدولي, و ان تترك لنتياهو ان يشكر اسياده و داعميه على موت الأمم المتحدة. وحتى اشعار آخر, على الاجيال القادمة ان تعلم ان الشرعية الدولية تفتقر الى قوة القانون و قوة الاخلاق و قوة الضمير و قوة الروح الانسانية.وباختصار شديد, ان سياسة القوة تبقى البديل القائم على ارض الواقع في ظل, كما اشار الى ذلك الدكتور عدنان منصور,”امبراطورية فاجرة و دولة متوحشة و غيبوبة مجتمع دولي.”

العميد البروفيسور كميل حبيب
عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والاداريةفي الجامعة اللبنانية

المصدر: رأي اليوم

اقرأ المزيد
آخر الأخبار