في العام 1952 قاد جمال عبد الناصر انقلابا عسكريا في مصر أطاح فيه بالملكية التي حكمت مصر منذ بداية القرن التاسع عشر والتي قادت مصر للوقوع تحت الاحتلال البريطاني من العام 1882 وحتى العام 1952.
عبد الناصر والتحرر الوطني
كان الهم الأساسي الذي يشغل بال جمال عبد الناصر هو موضوع تحرر مصر من الاحتلال الخارجي وتحقيق السيادة لبلاده. هذ قاده لأن يخوض مفاوضات لاجلاء القوات البريطانية عن مصر وهو ما تحقق بعد توقيع اتفاقية الجلاء في العام 1954 والتي أدت إلى انسحاب كامل القوات البريطانية في العام 1956. لكن عبد الناصر اكتشف ان هذا لم يكن ليحقق وحده الاستقلال الوطني. فلقد كان العالم يشهد تكتلات واحلافا تقيمها القوى الغربية لابقاء هيمنتها على الأقطار التي كانت تستعمرها وتحتلها تحت ذريعة تشكيل احلاف لمواجهة الشيوعية. هنا كان جواب عبد الناصر على ذلك هو في المساهمة في الدعوة لمؤتمر باندونغ الذي سيطلق مجموعة دول عدم الانحياز من دول العالم الثالث المستقلة حديثا عن الاستعمار الأوروبي.
هذا بحد ذاته لم يكن كافيا لحماية الاستقلال الوطني. هنا كان جمال عبد الناصر قد سبق له وكتب كتابا بعيد استيلائه على السلطة في مصر بعنوان فلسفة الثورة، وفي هذا الكتاب كان عبد الناصر قد حدد الدوائر الثلاث التي تشكل جزءا من مناطق النفوذ التي يمكن لها ان تحمي الأمن القومي المصري وهذه الدوائر هي الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الافريقية. هذا سيقود عبد النصر لدعم ثورات عربية وافريقية ضد الاستعمار الأوروبي في كل من اسيا وافريقيا بدءا من العام 1954.
التحرر من غائلة الفقر
بالتوازي مع دعم الثورات الوطنية في العالم العربي وافريقيا، فإن عبد الناصر كان مدفوعا باحساسه بالظلم الاجتماعي الاقتصادي الواقع على كاهل الفقراء من الشعب المصري الذين كانت تفوق نسبتهم في زمن الملكية تسعين بالمئة من الشعب. هذا ما جعله يقوم بإصلاح زراعي وزع عبره الأراضي للفلاحين الذي تحولوا بين ليلة وضحاها من اقنان للأرض وعبيد للاقطاعي، الذي استحوذ على هذه الأرض بطرق غير مشروعة، الى ملاك للأرض. هذه الخطوة ستستكمل في العام 1960 حين قام عبد الناصر باجراءات اشتراكية أمم فيها عددا كبيرا من الشركات وأطلق مشروع الدولة المديرة للاقتصاد والتي يجب عليها هي ان تدفع نحو التصنيع في البلاد عبر إقامة المصانع المملوكة من الدولة.
كان عبد الناصر قد توصل الى هذه النتيجة بعدما اصطدم بالطبقة الرأسمالية المصرية التي اكتشف انها تتبع بمصالحها للخارج ولا تشكل بورجوازية وطنية على غرار ما هو الحال في دول أوروبا الغربية وشمال اميركا.
لقد اكتشف عبد الناصر ما كتب عنه بعض المفكرين الماركسيين من وجود طبقة بورجوازية طفيلية نشأت ي دول العالم الثالث بالارتباط بالطبقة الرأسمالية الغربية، وقد عرفت هذه الطبقة بالبورجوازية الكومبرادورية التي كانت تابعة بمصالحها ووجودها للغرب. ولقد كانت هذه الطبقة بحكم تبعيتها للبروجوازية الغربية معادية لمصالح بلادها. هذا ما دفع بعبد الناصر الى اعتما التأميمات الكبرى في الإجراءات الاشتراكية التي قام بها في العام 1961. بموازاة ذلك ففإن عبد الناصر كان يأمل في أن تقوم الدولة بتحفيز نمو طبقة عاملة عبر تحفيز انشاء المصانع حتى تكون هذه الطبقة والطبقات المنتجة الأخرى عمادا للثورة ولمشروع التحرر الوطني الذي كان يقوده. هذا ما جعله ينادي بتشكيل تحالف بين قوى الشعب العاملة.
العروبة وسيلة لتحقيق غاية هي التحرر
كانت هذه هي العروبة التي نادى بها جمال عبد الناصر، عروبة الاستقلال الوطني، عروبة التنمية المستقلة، وعروبة تحرير الطبقات العاملة والفقيرة من الاستغلال. هكذا يمكن أن نفهم عروبة عبد الناصر الداعمة لثورة الريف في المغرب. وهكذا يمكن ان نفهم عروبة عبد الناصر الداعمة لحقوق السودانيين ومن ضمنهم جنوب السودان. وهكذا يمكن أن نفهم عروبة عبد الناصر الداعمة لحقوق الفلاحين من عرب وأكراد في شمال سورية. لقد كانت العروبة بالنسبة لعبد الناصر منصة ووسيلة لغاية تحرير الفلاحين والطبقة العاملة في اطار تحرير الوطن من الاستغلال الرأسمالي الغربي. لذلك فلم يكن عنده فارق بين استعمار يمثل رأسمالية غربية ورجعية عربية تمثل مصالح الاقطاع والرأسمالية العربية. هذا الذي جعل تجربة عبد الناصر في مصر شبيهة الى حد ما بالثورة الكوبية التي اعتمدت مشروع التحولات الاشتراكية في العام 1961 في نفس العام الذي اعتمد فيه عبد الناصر هذه التحولات.
ما تقدم هو الذي جعل العروبة التي نادى بها جمال عبد الناصر تختلف جذريا عن العروبة التي نادى بها حزب البعث بجناحه اليميني في زمن قيادة ميشال عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار له، والعروبة التي نادى بها الجناح العراقي لحزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين. لقد كانت تلك عروبة تنادي بحفظ مصالح الطبقة البورجوازية السورية والعراقية. لذلك فإن حزب البعث السوري (قبل العام 1966) انقلب على الوحدة السورية المصرية في العام 1961 بعد أسابيع قليلة على اطلاق عبد الناصر لمشروع التحول الاشتراكي وقيامه بتأميم كبرى الشركات الرأسمالية في سورية إضافة الى قيامه بإصلاح زراعي نزع ملكية الأرض من يد الاقطاع الرأسمالي السوري واعطاها لفقراء الفلاحين. وقد لقي البعث السوري دعما من قبل الأردن والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وبريطانيا آنذاك في انقلابه على عبد الناصر. أما في العراق فلقد استحوذ البعث في العام 1968 على السلطة بدعم أميركي سعودي على حساب القوميين العرب المدعومين من عبد الناصر.
في هذا الوقت الذي كان عبد الناصر يقود فيه هذه التغييرات كان هنالك تطور يحصل سيكون له تأثير على مجريات الاحداث في ما بعد. ففي خضم هجومه على الطبقة الاقطاعية والطبقة الرأسمالية، فلقد بدأت تتكون بيروقراطية متضخمة تحالفت مع كبار ضباط الجيش والتجأت اليها فلول الطبقة الرأسمالية المصرية والاقطاع طلبا للحماية. ولقد شكلت هذه نواة طبقة وسطى عليا تحالفت مع الطبقة الرأسمالية وطبقة الاقطاع وعقدت تحالفا بقيادة عبد الحكيم عامر، قائد الجيش، الذي سيتمرد على عبد الناصر بدءأ من العام 1961. وستبرز الخلافات بين الرجلين في عدد من الملفات أهمها الحرب اليمنية وستكون احد عوامل هزيمة العام 1967. ولقد وصل الامر بعب الحكيم عامر الى أن يحاول الانقلاب على عبد الناصر بعد الهزيمة باسابيع قليلة الا أن الأخير استطاع اجهاض المحاولة. لكن بعد وفاة عبد الناصر فإن تحالف الرأسمالية المصرية مع فلول الاقطاع وضباط الجيش والجهاز البيرقراطي للدولة سيقوم بانقلاب في السلطة يتمكن بموجبه من إيصال أنور السادات الى سدة الرئاسة والقيام بتحول كبير في السياسة المصرية.
عودة الرأسماليين
لقد ترافق التحول في مصر مع صعود دور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بدءا من العام 1965. ولقد ترافق ذلك مع بدء تراجع نفوذ الاتحاد السوفياتي في ذلك العام مع وصول ليونيد بريجنيف الى السلطة في الاتحاد السوفياتي ومناداته بالانفراج السلمي مع الولايات المتحدة عبر العودة الى مفاعيل اتفاقية يالطا والانكفاء الى مناطق النفوذ السوفياتية في شرق أوروبا وكتلة الدول الاشتراكية. هنا وجدت النخبة في الولايات المتحدة أنه بات يمكنها ان تتحرر من السياسات الاجتماعية التي اعتمدها الغرب في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي والتي تمثلت بإصلاحات جون ماينارد كاينز التي نادت بدور كبير للدولة في إدارة الاقتصاد عبر الانفاق على المشاريع الكبرى وإدارة المشاريع الاستثمارية ما أدى الى نشوء دولة الرعاية في الغرب.
لكن المحافظين الجدد كانوا يدعون الى العودة الى الليبرالية التقليدية التي تطالب بتقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد والمجتمع. لذا فلقد دعوا الى خصخصة القطاع العام وتقليص دور الدولة في الاقتصاد واطلاق يد الرأسماليين على غاربها. كانت هذه السياسات تصب في خدمة مصالح اوليغارشية تمركزت في الدرجة الأولى في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وكانت تسعى لبسط نفوذها عبر نقل نموذجها الى باقي بلدان العالم. ولقد وجدت هذه الاوليغارشية العالمية في تحالف طبقي كذلك الذي نشأ بين ضباط الجيش والبيرقراطية المصرية وفلول الاقطاع والرأسمالية المصرية حليفا طبيعيا لها. لذا فإنه كان من الطبيعي على أنور السادات أن ينتقل بمصر لتكون تحت النفوذ الأميركي. وكما حال مصر فإن الانقلابات التي دعمتها الولايات المتحدة في العالم ضد أنظمة التحرر الوطني قد قامت على يد طبقة شبيهة بالطبقة الرأسمالية المصرية.
لقد نجحت الولايات المتحدة التي تمثل مصالح الراسمالية العالمية منذ السبعينات من القرن الماضي ببسط هيمنتها على معظم انحاء العالم عبر التحالف مع الطبقات الرأسمالية في كل بلد وخصوصا في العالم الثالث، وعبر تدعيم هذا التحالف باكتساب ولاء الطبقة الوسطى العليا المشكلة من كبار ضباط الجيش والقضاة والبيرقراطية إضافة الى أصحاب المهن الحرة وطبقة التجار. اما حركات التغيير والثورة المعادية للامبريالية وحركات مكافحة الهيمنة، فلقد كان أحد أوجه قصورها هو في عدم تمكنها من تدعيم وضع الطبقات الفقيرة وحمايتها بتحالف يعقد مع الطبقة الوسطى الدنيا المشكلة من صغار الموظفين والحرفيين وأصحاب المهن. وان كان الزمن لم يمهل عبد الناصر لتدعيم هذا التحالف بما يدعم التوجه الاستقلالي لمصر، فإن دولا أخرى مثل كوبا في ظل فيدل كاسترو وايران في ظل الثورة الاسلامية استطاعتا تحقيق ذلك بشكل كلي، وسورية في ظل حافظ الأسد استطاعت تحقيق ذلك بشكل جزئي، مما مكن هذه الدول من تفادي الوقوع تحت الهيمنة الأميركية، فإن الدول التي فشلت في تحقيق ذلك شكلت فريسة سهلة للولايات المتحدة.
خلاصة
اذن فإن الدرس المستقى يكمن في أن الولايات المتحدة تشكل قاعدة للرأسمالية العالمية التي تحاول بسط سيطرتها على العالم عبر عقد تحالف مع طبقات رأسمالية تتحالف معها في مختلف الدول وعبر تحالفها أيضا مع الطبقة الوسطى العليا في كل بلد، وأنه على البلد الذي يريد أن يتحرر من الهيمنة الأميركية أن يستند الى طبقة وسطى دنيا تتحالف مع طبقات فقيرة في مواجهة الطبقة الوسطى العليا والطبقة الرأسمالية المرتبطة بمصالحها بالرأسمالية العالمية.