يمثّل لبنان نموذجًا فريدًا لتحليل الدولة والصراع الطبقي في بلدان الأطراف. فهو دولة مصممة تاريخيًا لتكون ضعيفة سياديًا، قوية في تفكيك المجتمع، ومرنة في خدمة الهيمنة الإمبريالية. هذه المقاربة تقدم قراءة ماركسية مركّبة، تجمع مفاهيم لينين وغرامشي وبولانتساز، إضافة إلى منظور سمير أمين وديفيد هارفي، مع أمثلة واقعية وتطبيقات تاريخية لتحديد مهمة الثوريين في مواجهة الإمبريالية والمشروع الصهيوني.
الدولة اللبنانية كأداة تبعية
وفق لينين، الدولة هي جهاز قسر طبقي. كما كتب في كتابه الدولة والثورة: «الدولة ليست سوى آلة لإخضاع طبقة اجتماعية لطبقة أخرى.» في لبنان، يُمارَس هذا القسر باسم إدارة التفكك، حيث تعمل الدولة على توزيع العنف والريع بما يمنع تشكّل كتلة طبقية موحَّدة. مثال على ذلك أزمة المصارف وسلسلة الانهيارات الاقتصادية، حيث تتحول الدولة إلى وسيط لصالح أصحاب المال، بينما الطبقات الشعبية تتحمّل العبء.
غرامشي يوضح أن الدولة تشمل المجتمع المدني، لكنه يشير إلى أن: «الهيمنة تتحقق حين تمارس الطبقة الحاكمة سلطتها عبر القيم والموارد الثقافية، وليس بالقوة وحدها.» في لبنان، تعمل الطائفية على تفكيك المجتمع المدني وتحويل الولاءات الاجتماعية إلى مذهبية، ما يمنع إنتاج إجماع وطني مستقل.
بولانتساز يؤكد أن الدولة هي تكثيف مادي لعلاقات القوة بين الطبقات. في لبنان، هذه العلاقات تنعكس في الصراع بين فصائل اقتصادية وطائفية، حيث يُدار الريع العام (العقارات، التراخيص، الخدمات) بشكل يحفظ مصالح البرجوازية التابعة ويعزز التبعية الخارجية. كما أن التدخل الأجنبي، سواء عبر الدعم العسكري أو الاقتصادي، يجعل لبنان ساحة للصراع بين المراكز الإمبريالية المختلفة، مما يزيد من هشاشة الدولة المحلية ويضعف إمكانات التنمية الذاتية.
في بلدان الأطراف، لا يظهر الصراع الطبقي في شكله “النقي” كما في مجتمعات الرأسمالية المتقدمة، حيث تتواجه البرجوازية الصناعية والبروليتاريا ضمن دولة قومية مستقرة نسبيًا. هنا، في فضاءات التبعية، يتخذ الصراع الطبقي أشكالًا مشوّهة، تُخفي جوهره خلف انقسامات أهلية، طائفية، ومناطقية، دون أن تلغيه. لبنان يشكّل مثالًا فاضحًا على هذا التشويه البنيوي.
التبعية كشرط بنيوي للصراع الطبقي
لبنان لم يكن يومًا اقتصادًا وطنيًا منتجًا، بل تشكّل منذ نشأته كـاقتصاد وسيط: مصارف، خدمات، تجارة، وساطة مالية مرتبطة بدورات رأس المال في المركز. وفق مقاربة سمير أمين، نحن أمام رأسمالية تابعة، حيث البرجوازية المحلية لا تتراكم عبر الإنتاج، بل عبر الريع: ريع مالي، ريع عقاري، وريع سياسي.
هذا الشكل من التراكم يُنتج برجوازية كومبرادورية، مصالحها مرتبطة عضويًا بالخارج، ما يجعلها عاجزة – بل غير راغبة – في خوض أي مشروع تنموي وطني. وهنا، يُقمع الصراع الطبقي مرتين: مرة اقتصاديًا عبر تفكيك الطبقة العاملة وإبقائها في الهشاشة، ومرة أيديولوجيًا عبر إعادة ترجمته إلى “توازنات طائفية”.
الطائفية كآلية هيمنة: الطائفية في لبنان ليست “بقايا تقليدية”، بل أداة حديثة لإدارة التناقضات. إنها ما يمكن تسميته، بلغة غرامشي، هيمنة قسرية-رضائية: تمنح الجماهير هوية وحماية وهميتين مقابل التخلي عن موقعها الطبقي. العامل والعاطل عن العمل والموظف الصغير (الكادحون) لا يُعرّفون أنفسهم ككادحين، بل كـ“أبناء طائفة”، بينما تُعاد صياغة الصراع الاجتماعي كصراع حصص بين زعماء.
الطائفية اذاً ليست إرثًا تقليديًا، بل أداة لإدارة المجتمع وتحويل الصراع الطبقي إلى ولاءات مذهبية. الأمثلة تشمل توزيع الوظائف العامة والخدمات وفق الانتماء المذهبي، التحكم بالدوائر الانتخابية وتجزئة المجتمع إلى مناطق طائفية، وتحويل الاحتجاجات الاجتماعية إلى مطالب محدودة «خدمية» بدل مطالب طبقية شاملة. هذا التفكك الطائفي يعمّق التفاوت الطبقي ويعيق تشكّل حركة اجتماعية موحدة.
سمير أمين في التراكم في الأطراف يشير: «تُسحب القيمة الزائدة من الأطراف إلى المركز عبر الهياكل الاقتصادية والسياسية المهيمنة.» هارفي يوضح في التراكم عبر نزع الملكية كيف تتحول الممتلكات العامة والأحياء التاريخية إلى أدوات تراكم رأسمالي، بينما الدولة الطائفية تُحوّل أي مقاومة أو احتجاج إلى نزاع هوياتي. هذا يبيّن أن الهيمنة الاقتصادية والسياسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسيطرة على الهوية الاجتماعية.
الدولة التابعة: أداة قمع بلا سيادة: الدولة في لبنان ليست حكمًا بين الطبقات، بل أداة في يد تحالف ريعي-طائفي. إنها دولة قوية في وجه الفقراء (ضرائب غير مباشرة، قمع، إهمال اجتماعي)، وضعيفة في وجه رأس المال والمصارف لأنها دولة البرجوازية الكمبرادورية. هذا ما يفسر المفارقة: خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر، وهي صيغة لبنانية خالصة لـقانون التراكم عبر النهب (ديفيد هارفي)، حيث جرى تحميل الكادحين كلفة الانهيار المالي، فيما حُصّنت المصارف وكبار المودعين الذين نقلوا أموالهم الى الخارج سياسيًا وقانونيًا.
الصراع الطبقي واللحظة الوطنية
في بلدان الأطراف، لا ينفصل الصراع الطبقي عن الصراع الوطني ضد التبعية. في لبنان، تتخذ هذه الجدلية شكلًا حادًا:
أي مواجهة جدية مع رأس المال المحلي تستدعي بالضرورة مواجهة شبكاته الخارجية (المالية، السياسية، والعسكرية)، وعلى رأسها المشروع الصهيوني. من هنا، يصبح الموقف من المقاومة، ومن العدو الصهيوني تحديدًا، كاشفًا طبقيًا: البرجوازية التابعة ترى في المقاومة تهديدًا للاستقرار الريعي، بينما ترى فيها الفئات الشعبية أحد أشكال الدفاع عن الوجود والكرامة في غياب دولة وطنية حقيقية.
المشروع الصهيوني عنصر بنيوي في الهيمنة الإمبريالية في المشرق، وظيفته كسر أي إمكان لتحرّر وطني أو تنمية مستقلة، وإبقاء لبنان في حالة استنزاف. أي خطاب رمادي تجاه المعركة مع العدو ليس حيادًا، بل اصطفاف مع الهيمنة. الانخراط الشيوعي في المقاومة واجب طبقي وأممي، مشروط بالاستقلال السياسي والتنظيمي وربطه بالتحرر الاجتماعي، وليس تعليقه باسم الاجماع لوطني.
في السبعينيات والثمانينيات، كان الحزب الشيوعي طليعياً في بناء المقاومة ضد الاحتلال، واضحًا في تحديد العدو، ورابطًا بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي. كوادره شاركت في شبكات الدعم الشعبي، تنظيم المقاتلين، وربطت المقاومة بالمطالب الاجتماعية للعمال والفلاحين.
لضمان استعادة الدور التاريخي وتجنب الوقوع في فخ الانتخابات المسبقة النتائج، ينبغي على الثوريين العمل على:
* الانخراط الصريح في المقاومة ضد المشروع الصهيوني وأدواته الداخلية.
* فك الارتباط بالمنظمات الليبرالية غير الحكومية وبتحالفات انتخابية تؤدي إلى إعادة إنتاج الوهم الديمقراطي.
* ربط القضية الوطنية بالتحرر الطبقي والاجتماعي.
* بناء تنظيم شعبي قادر على ربط المقاومة بالمجتمع، والنضال الطبقي بالتحرّر الوطني.
* استلهام التجربة التاريخية للحزب في تأسيس المقاومة وتطبيقها في السياق الراهن.
* تطوير ميدان عمل بديل يشمل التنظيم الشعبي، التربية السياسية، المقاومة الشعبية المدروسة، التعاون الاقتصادي البديل، التواصل الأممي، وإنتاج الإعلام الشعبي والتثقيف الجماهيري.
الكاتب: د. طنوس شلهوب