قراءات سياسية فكرية استراتيجية

زيارة نتنياهو إلى الجنوب السوري: قراءة في الجغرافيا المتوترة وحدود النار المفتوحة

في التاسع عشر من تشرين الثاني 2025، حطّ “رئيس الوزراء الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو في منطقة جنوب سوريا، برفقة وزيرَي الدفاع والخارجية، ورئيسَي الأركان وجهاز الشاباك، والزيارة، التي تمت تحت غطاء أمني كثيف، لم تكن مجرد جولة ميدانية بل إعلانا صريحا عن تحوّل في مقاربة “إسرائيل” لحدودها الشمالية، وعن محاولة لرسم مشهد جديد في واحدة من أكثر النقاط التهابا في الشرق الأوسط.

لا يمكن قراءة هذه الزيارة، في عمقها، خارج سياق الجغرافيا السياسية التي لطالما حكمت العلاقة بين دمشق وتل أبيب، ولا خارج اللحظة الإقليمية التي يتقاطع فيها الانكشاف السوري مع الارتباك الإيراني والقلق الإسرائيلي من تمدّد محور المقاومة نحو خطوط الجولان المحتل.

جنوب سوريا.. عقدة الجغرافيا وحدود الإمبراطوريات القديمة

الكتابة عن الجغرافيا لا تعالج بتضاريس صامتة، بل مسرحا دائما لتوازنات القوى ومرايا للتاريخ، والجنوب السوري، في هذا المعنى، ليس مجرد مساحة حدودية؛ بل هو “حافة الإمبراطوريات” منذ قرون.
من هنا مرّت جيوش الرومان والبيزنطيين والعثمانيين، وهنا تتقاطع اليوم خطوط النار بين “إسرائيل” وإيران وسوريا وحزب الله.

منذ عام 2011، تحوّل الجنوب السوري إلى فسيفساء من القوى؛ فصائل معارضة سابقة، وميليشيات موالية لإيران، ووحدات من الجيش السوري، إلى جانب الوجود الروسي المحدود والمراقب، وهذا الخليط جعل المنطقة أقرب إلى “منطقة تماس إقليمي” أكثر منها حدوداً وطنية.

في هذا المشهد الممزّق، تأتي زيارة نتنياهو كرسالة مزدوجة إلى الداخل “الإسرائيلي” بقدرة الدولة على فرض معادلات الردع خارج الحدود، وإلى الخارج بأن “تل أبيب” لن تسمح بتشكّل جبهة جديدة ضدها في حوران والقنيطرة.

رمزية التوقيت: حين تتكلم الجغرافيا بلغة الأزمة

تأتي الزيارة في لحظة إقليمية متوترة، حيث تتسارع العمليات العسكرية في الجولان ومحيطه، في ظل ما يشبه “تسخينا متعمدا” لخطوط التماس بين “إسرائيل” والسلطة في دمشق، فمنذ أسابيع، شهدت مناطق درعا والقنيطرة والسويداء غارات “إسرائيلية” متكررة استهدفت مواقع عسكرية داخل الأراضي السورية، بدعوى منع تحوّل الجنوب إلى جبهة جديدة تهدد أمن “إسرائيل:، كما سُجّل نشاط متزايد لطائرات استطلاع “إسرائيلية” في أجواء المنطقة.

في هذا السياق، تأتي زيارة نتنياهو لتكرّس ما يمكن تسميته بـ”عقيدة الجنوب النشط”، وهي ترجمة ميدانية لمبدأ الأمن الاستباقي الذي يحكم الذهنية العسكرية الإسرائيلية، فـ”إسرائيل” لا تريد انتظار تشكّل أي تهديد محتمل على حدودها، بل العمل على إجهاضه داخل العمق السوري، في منطقة تعتبرها امتدادا مباشرا لأمنها القومي.

البعد الداخلي: نتنياهو في مواجهة عواصف تل أبيب

لا يمكن فصل الزيارة عن حسابات نتنياهو الداخلية، إذ تأتي في خضم أزمة سياسية داخلية خانقة، وتراجع حاد في شعبيته على خلفية الاحتجاجات ضد حكومته والملفات القضائية المفتوحة ضده.
في مثل هذه اللحظات، يلجأ القادة إلى “جغرافيا الانفعال”، وتحويل الأزمات الداخلية إلى مبادرات خارجية توحي بالحزم والقدرة على السيطرة، لذلك تبدو زيارة الجنوب السوري محاولة لإعادة تأكيد صورة “رجل الأمن الأول” في “إسرائيل”، ولإعادة تعريف القيادة عبر مشهد القوة الميدانية، لا الخطاب السياسي.

كما أنها تحمل رسالة موجهة للمؤسسة العسكرية التي تشهد توترا في علاقتها مع الحكومة، مفادها أن القيادة المدنية لا تزال تمسك بمفاصل القرار الأمني، وأن التنسيق بين الأذرع السياسية والعسكرية قائم رغم الخلافات المتزايدة داخل الائتلاف الحاكم.

الرسالة إلى دمشق وطهران: رسم خطوط النار الجديدة

أما الرسالة إلى دمشق، فهي أكثر تعقيدا، فزيارة نتنياهو داخل الأراضي السورية، حتى وإن كانت في مناطق قريبة من الجولان المحتل، تمثّل خرقا رمزيا لسيادة الدولة السورية، في لحظة صمت رسمي مريب من سلطة دمشق.
هذا الصمت يمكن قراءته على أنه إقرار ضمني بميزان القوى الراهن، الذي لا يسمح لسوريا بالرد، لكنه في الوقت نفسه يعكس إدراكا بأن التصعيد اللفظي لن يغيّر من الواقع شيئاً.

الرسالة واضحة لسلطات دمشق بأن الجنوب خط أحمر في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، فكل محاولة لإعادة تموضع القوات السورية أو إنشاء بنى عسكرية جديدة قرب خطوط التماس، تُعدّ في “تل أبيب” تهديدا مباشرا لمعادلة الردع التي أرستها منذ سنوات.
تشكّل الزيارة إعلانا عن مرحلة جديدة من “الردع العملي” لا تقوم على التصريحات أو التحذيرات، بل على تثبيت واقع ميداني يضمن لـ”إسرائيل” التفوق الاستخباراتي والجوي في المنطقة.
إنها رسالة مفادها أن الجغرافيا السورية، ولا سيما الجنوبية منها، باتت جزءا من منظومة الأمن “الإسرائيلي” الممتدة عبر الحدود، وأن أي تغيير في موازين القوى هناك سيُقابل بتحرك مباشر وفوري.

الزاوية الروسية: رقصة الحذر في الفراغ السوري

من زاوية موسكو، التي تراقب التطورات بصمت محسوب، تبدو الزيارة اختبارا لحدود الدور الروسي في سوريا بعد تراجع انخراطها المباشر منذ انشغالها بالحرب الأوكرانية، وزيارة وفد عسكري روسي إلى الجنوب السوري.
فروسيا التي ضمنت نسبيا استقرار الجنوب باتفاق 2018، تجد نفسها اليوم أمام واقع جديد يتآكل فيه نفوذها الميداني لصالح “إسرائيل” وتفوقها، فـ”الفراغ الروسي” في الجنوب السوري لم يعد فراغا جغرافيا فقط، بل استراتيجيا، تُعيد القوى الإقليمية توزيع أوراقها فيه وفق موازين دقيقة.
و”إسرائيل”، كعادتها، تتحرك حين تلمس هذا النوع من الفراغ، لأنها تدرك أن الجغرافيا لا تحتمل الانتظار.

المعادلة الإقليمية: خطوط النار تتقاطع في الجنوب

الجنوب السوري اليوم ليس مجرد ملف ثنائي بين سلطات دمشق و “تل أبيب”، بل نقطة التقاء ثلاث دوائر جيوسياسية متشابكة:

الدائرة التركية الساعية إلى توسيع نطاق نفوذها عبر دعم قوى محلية في الشمال والجنوب السوريين، وإبقاء حدود نفوذها الاستراتيجي مفتوحة نحو العمق السوري.
الدائرة “الإسرائيلية” التي تسعى لتأمين حدودها الشمالية ومنع أي تحركات عسكرية أو سياسية يمكن أن تغيّر معادلات الأمن في محيط الجولان.
الدائرة العربية التي تحاول إعادة سوريا إلى الفضاء الدبلوماسي العربي تدريجيا، من دون الاصطدام بالمصالح “الإسرائيلية” أو التركية في الميدان.
وبين هذه الدوائر، يتحرك نتنياهو في منطقة رمادية، مستفيدا من الغموض العربي حيال التطبيع ومن تشتت المواقف الإقليمية تجاه الوجود التركي، ليرسم واقعا ميدانيا جديدا قد يتحول في المستقبل إلى ورقة تفاوض حول مستقبل الجنوب السوري وحدوده الأمنية والسياسية.

الجنوب كمرآة للمستقبل السوري

في جوهر الأمر، تكشف الزيارة عن حقيقة مؤلمة أن الجنوب السوري لم يعد تحت سيادة واحدة، بل تحت سيادات متعددة متشابكة، فكل طرف يملك “حقاً جزئيا” في الأرض أو السماء أو القرار، دون أن يمتلك أحد القدرة على فرض سيطرة كاملة.
وهذا ما يجعل المنطقة أقرب إلى “فضاء أمن رمادي” حيث لا الحرب حرب كاملة، ولا السلام سلام مستقر، وتبدو زيارة نتنياهو كتحذير صامت بأن سوريا، في غياب توازن قوى واضح أو تسوية سياسية شاملة، ستظل ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية، فالجغرافيا التي لا يملكها أحد، يملكها الأقوى حضوراً.

حين تتحرك الخرائط قبل العناوين

ليست زيارة نتنياهو حدثا معزولا، بل فصل جديد في رواية طويلة من الصراع على الجغرافيا السورية، فهي تذكير بأن الحدود ليست خطوطاً على الورق، بل رواسب تاريخ وصدى لقوى تتنازع الذاكرة والسلطة والأمن.
في الجنوب السوري، تتحرك الخرائط قبل أن تُكتب العناوين، وتُرسم الوقائع قبل أن تُنطق الكلمات، فحين تضعف الدول، تستيقظ الجغرافيا، واليوم، في الجنوب السوري، تبدو الجغرافيا استيقظت فعلا.

زيارة نتنياهو إلى الجنوب السوري
الجغرافيا المتوترة وحدود النار المفتوحة – تحليل تفاعلي للخلفيات والتداعيات

النقاط الرئيسية في التحليل
الزيارة تمثل تحولاً في مقاربة إسرائيل لحدودها الشمالية
الجنوب السوري تحول إلى “منطقة تماس إقليمي” أكثر من كونه حدوداً وطنية
الزيارة تهدف إلى ترسيخ “عقيدة الجنوب النشط” والأمن الاستباقي
لا يمكن فصل الزيارة عن حسابات نتنياهو الداخلية وأزمته السياسية
الرسالة موجهة لدمشق وأنقرة برسم خطوط نار جديدة
الجنوب السوري أصبح ساحة للتنافس بين ثلاث دوائر جيوسياسية
الدور التركي المتنامي في المشهد السوري

الخلاصة: جغرافيا تستيقظ في فراغ السيادة
تكشف زيارة نتنياهو عن حقيقة أن الجنوب السوري لم يعد تحت سيادة واحدة، بل تحول إلى “فضاء أمني رمادي” تتنازعه سيادات متعددة. في غياب توازن قوى واضح أو تسوية سياسية شاملة، تظل سوريا ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية، حيث تتحرك الخرائط قبل أن تُكتب العناوين، وتُرسم الوقائع قبل أن تُنطق الكلمات.

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار