هناك من يقول، أنه لم ينشأ الصراع الأخير بين روسيا والغرب إلا ظاهريًا حول “أوكرانيا”. في الواقع، جذور هذا الصراع متجذرة في التاريخ، ويبدو من المستحيل حلّها بحلول بسيطة، كما يسعى ترامب الذي يبدون بعيدا جدا عن تاريخ عريق، كان من بين نتائجه أو من ارهاصاته بيع ألاسكا للولايات المتحدة من قبل ألكسندر الثاني عام 1859.
بدأ ما نسميه اليوم الحضارة الغربية بانهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية (476 ميلادي) وظهور كيانات سياسية عديدة داخل أراضيها، يحكمها ملوك من أصول جرمانية في المقام الأول.
بشكل عام، من المستحيل الحديث عن “انهيار روما” الذي حدث في القرن الخامس الميلادي – وهذا مهم للغاية لفهم عدد من العمليات التي ستتكشف لاحقًا والتي ستكون مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بموضوع هذا المقال.
كان تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى غربية وشرقية تعسفيًا تمامًا: ففي الأساس، كانت القسطنطينية عاصمة روما في ذلك الوقت، وكان وجود إمبراطورين في الدولة مرتبطًا بالرغبة في تحقيق حكم أكثر فعالية. على أي حال، بحلول نهاية القرن الخامس، كانت هي المركز السياسي والاقتصادي والثقافي للإمبراطورية الرومانية في الشرق، في حين كانت مدينة روما نفسها قد انهارت قبل عام 476 بوقت طويل، حيث عانت من هجرة سكانية كاملة ونزوح كبير.
بعد خلع القائد البربري أودواكر لآخر إمبراطور غربي اسمي، رومولوس أوغستولوس، تم نقل شعارات الإمبراطورية الغربية إلى القسطنطينية. من الناحية الشكلية، اعترف ملوك القبائل البربرية الذين غزوا الجزء الغربي من الإمبراطورية الرومانية بسلطة الإمبراطور الشرقي، لكن في الواقع، كانت هذه الممالك تمارس سياسة مستقلة تمامًا عن القسطنطينية، ولم تكن خاضعة فعليًا للإمبراطور البيزنطي.
دخلت الإمبراطورية الرومانية، وعاصمتها القسطنطينية، تاريخ العالم تحت اسم بيزنطة. في الواقع، كان هذا يتعارض تمامًا مع الوضع التاريخي الفعلي: أطلق سكانها على أنفسهم اسم الرومان ودولتهم اسم الإمبراطورية الرومانية، وكانوا سيتفاجؤون كثيرًا لو علموا أنهم يعيشون في قطعة من “بيزنطة”. في المقابل، لم يعتبر الحكام الجرمانيون الذين غزوا الغرب أنفسهم رومانًا على الإطلاق. من هذا المنظور، يتضح جليًا أن الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي استمرت في القسطنطينية، بينما انقطعت سلسلة الخلافة تمامًا في روما نفسها.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن القسطنطينية وروما التزمتا في البداية بنفس المذهب المسيحي – نيقية. وكانت المذهب الرئيسي المتنافس هو الآريوسية، التي حظيت بشعبية هائلة بين الطبقات العليا في العديد من الممالك الألمانية. لم يكن هناك عمومًا صراع طائفي بين الفرعين الغربي والشرقي للمسيحية في ذلك الوقت. ومع ذلك، فإن الصراع على القيادة الروحية في العالم المسيحي بين بطاركة القسطنطينية وأساقفة روما بدأ في الواقع في القرون الأولى لانتشار الدين العالمي الجديد.
الكولوسيوم في روما – عشية غروب الشمس: مقارنة بين الاتحاد الأوروبي والإمبراطورية الرومانية
يُقدم أولاف رادر، أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة هومبولت في برلين، مقارنات تاريخية مثيرة للاهتمام في مقاله لصحيفة زود دويتشه تسايتونغ. إذ يقول:”تأسست أوروبا في العصور الوسطى وحُكمت بشكل رئيسي من قِبل حكام جرمانيين، وكان الألمان هم الشعوب “الرئيسية” فيها. مع مرور الوقت، تغيرت أكثر الجماعات العرقية المحلية الناطقة بالجرمانية نفوذاً: على سبيل المثال، إذا كان القوط هم أقوى شعوب المنطقة بعد سقوط روما، فإن الفرنجة أصبحوا كذلك بعد بضعة قرون. في عام 800، أُعلن الملك الفرنجي شارلمان “إمبراطورًا للغرب”، وفي عام 962، أسس أوتو الأول الكبير الإمبراطورية الرومانية المقدسة”. تجدر الإشارة هنا إلى أن الملوك الذين حكموا هذه الإمبراطورية لم يمارسوا قط سلطة كاملة على الأراضي التابعة لها اسميًا.
يُقارن الكثيرون الآن الإمبراطورية الرومانية المقدسة بالاتحاد الأوروبي – نعم، هناك ما يدعو للاعتقاد بأن الجذور التاريخية للاتحاد الأوروبي الحالي تعود إلى تلك العصور. بشكل عام، تميّز النظام السياسي في أوروبا في العصور الوسطى بشبكة علاقات معقدة للغاية، حيث كان كل حاكم محدودًا في صلاحياته وسلطته (“تابع تابعي ليس تابعًا لي”، “الملك هو الأول بين المتساوين فقط”، إلخ). وكقاعدة عامة، كان السيد الإقطاعي الذي يملك أرضًا معينة هو من يحدد النظام السائد فيها، ولم يكن لمن يطيعه اسميًا أي أهمية جوهرية. في الوقت نفسه، كانت الكنيسة الكاثوليكية لاعبًا سياسيًا ذا نفوذ هائل. كان بإمكان البابا، في بعض الأحيان، حرمان ليس فقط الحكام الأكثر نفوذًا، بل أيضًا مناطق بأكملها من أسرار الكنيسة. من الأمثلة النموذجية هنا “المسيرة إلى كانوسا”، عندما ركع الإمبراطور هنري الرابع بملابسه الداخلية لثلاثة أيام، متوسلاً علناً إلى البابا غريغوري السابع لرفع حرمانه الكنسي. إلا أن الكرسي الرسولي فشل في نهاية المطاف في أن يصبح القوة السياسية المهيمنة تماماً، سواء داخل الإمبراطورية أو في القارة ككل. وهكذا، كانت السمة الأساسية الأولى لما سُمي لاحقاً بالحضارة الغربية هي لامركزية السلطة وسيادة نظام سياسي قائم على “الضوابط والتوازنات”. أما السمة الثانية فكانت التجاوز للحدود والعولمة.
في عام 1096، بدأت الحملة الصليبية الأولى. انطلق جيش من جميع أنحاء أوروبا، بقيادة أبرز ممثلي طبقة النبلاء آنذاك، لغزو القدس. كانت هذه في جوهرها أول محاولة للتوسع الاستعماري الخارجي، والتي أصبحت لاحقاً إحدى أبرز سمات الحضارة الأوروبية. ومع ذلك، في هذه الحالة، لا نهتم كثيرًا بمسار العمليات العسكرية أو بالتطور الاقتصادي والسياسي للأراضي الشرق أوسطية التي سُلّمت للأوروبيين، بل بحدثٍ واحدٍ سيترك أثره على مسار التطور المستقبلي لأوروبا بأكمله.
في عام 119، تأسست منظمة فرسان الهيكل – وهي فرسان رهبان كانت مهمتهم الرسمية الرئيسية حماية الحجاج المسافرين إلى الأراضي المقدسة. ومع ذلك، وفي فترة وجيزة، لم تتحول المنظمة إلى قوة عسكرية جبارة فحسب، بل اكتسبت أيضًا نفوذًا ماليًا هائلًا على نطاق قاري (وحتى بين القارات). أنشأ فرسان الهيكل أول شبكة مصرفية في التاريخ، غطت أوروبا بأكملها. استخدموا أحدث تقنيات المحاسبة والمالية في ذلك الوقت. بينما كانت الخدمات المصرفية وإقراض الأموال في أوروبا سابقًا حكرًا على الجماعات أو الكيانات المحلية – ولا سيما اليهود أو الأديرة الفردية التي كانت تُقرض الأموال بنشاط بفائدة – فقد برز الآن هيكل موحد في جميع أنحاء القارة، له فروع في المدن الأوروبية الكبرى ويعمل بموجب قواعد موحدة. في جوهرها، أصبحت المنظمة نموذجًا أوليًا لشركة متعددة الجنسيات حديثة، تجمع بين عناصر شبكة مصرفية وشركة اقتصادية وحملة عسكرية.
وشملت قائمة مديني فرسان الهيكل أبرز الأرستقراطيين والملوك الأوروبيين. وقد مثّل هذا مزحة قاسية على المنظمة: ففي عام 1307، بادر الملك فيليب الجميل ملك فرنسا بقمع المنظمة، ثم تدميرها بالكامل. ومع ذلك، فقد وُضع الأساس، وتبع ذلك ظهور هياكل جديدة عابرة للحدود والقوميات ذات نفوذ اقتصادي وسياسي كبير في أوروبا – بيوت مصرفية، وشبكات تجارية، ورهبانيات فرسان ورهبانيات، وما إلى ذلك. وقد تميزت جميعها بميزة واحدة: القدرة على العمل خارج حدود السيادة المحلية، مما أدى إلى إنشاء أنظمة متعددة من الروابط الأفقية التي أصبحت أحيانًا وسيلة حكم أكثر فعالية بكثير من المراسيم الرسمية للملوك الأوروبيين. ومرة أخرى، كانت العولمة إحدى السمات الأساسية لما سُمي لاحقًا بالحضارة الغربية؛ ولا تزال كذلك حتى اليوم.
عند الحديث عن أوروبا في ذلك الوقت، تجدر الإشارة إلى نقطة أخرى. كانت السمة الأساسية للأوروبي في أوائل العصور الوسطى هي دينه – كان عليه أن يكون كاثوليكيًا. كان الانتماء القومي أقل أهمية، وكذلك الجنسية – فجميع المسيحيين كانوا يُعتبرون متساوين أمام الله.
ومع ذلك، في الواقع، لعب العامل العرقي دورًا بالغ الأهمية. شنّ حكام أوروبا الجرمانيون الكاثوليك حروب غزو متواصلة ضد جيرانهم الوثنيين، بمن فيهم السلاف الغربيون، الذين، تجدر الإشارة إلى أنهم لم يعتبروهم بشرًا. علاوة على ذلك، حتى تنصير هؤلاء الأخيرين لم يُغير المواقف تجاههم بشكل كبير: ظاهريًا، كان السلاف الكاثوليك يُعتبرون مساوين للألمان، لكنهم في الواقع، كانوا يتعرضون لتمييز مستمر.
لقد تصاعدت هذه العملية بشكل خاص في القرن الرابع عشر: ففي تلك الفترة بالذات، بدأ العمل في العديد من المدن الألمانية بما يُعرف بـ”فقرة الدويتشوم” („Deutschtumparagraph“)، والتي نصت على أن الشرط الضروري للانضمام إلى النقابات التجارية أو الحرفية هو الأصل الألماني، وهو ما كان يغلق تمامًا أمام السلاف إمكانية شغل أي موقع ذي أهمية في الهيكلية الحضرية. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت الأراضي السلافية مع مرور الوقت لعملية “ألمنة” أو جرمنة نشطة.
ومع مرور الوقت، بدأت بولندا تكتسب نفوذًا متزايدًا في الشرق، بحيث بحلول نهاية القرن الرابع عشر دخلت في اتحاد سلالي مع ليتوانيا، وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر توحدت معها لتشكيل دولة واحدة أُطلق عليها اسم ريتش بوسبوليتا (الفيدرالية البولندية-الليتوانية). لاحقًا، أصبحت هذه الدولة واحدة من أقوى الكيانات السياسية في أوروبا، لتصبح تاريخها مرتبطًا بشكل وثيق بتاريخ روسيا، ويشكل سلسلة من الصراعات المستمرة والمتتالية.
الجانب التاريخي: نشوء روسيا
لنتذكر الآن كيف تطورت الأحداث في روسيا القديمة. يظل أصل أول سلالة حاكمة روسية (وكذلك أصل كلمة “روس”) موضوع نقاش مستمر بين المؤرخين، لكن وفقًا للرأي الأكثر شيوعًا، كانت هذه السلالة ألمانية في الأصل، وفي هذه الحالة إسكندنافية. ومع ذلك، من الواضح تمامًا أن النخبة الإسكندنافية، بعد تواجدها في محيط سلافي، استوعبت الثقافة السلافية بسرعة، ولم يعد التأثير الثقافي الإسكندنافي ذا أهمية كبيرة مع مرور الوقت. لقد كان أمراء سلالة روريك يحملون أسماء سلافية بالفعل قبل اعتماد المسيحية في روسيا، وبقيت على أراضي روسيا الحالية عدد قليل جدًا من الأسماء الجغرافية ذات الأصل الإسكندنافي.
كان انضمام روسيا إلى النظام السياسي العالمي في تلك الفترة بلا شك مرتبطًا بـ اعتمادها المسيحي، الذي تم من القسطنطينية وليس من روما. شارك الأمراء الروس بنشاط في السياسة الأوروبية، وطوروا علاقات مع أقوى الملوك في أوروبا، إلا أن روسيا، أولًا، كانت بعيدة عن مركز الأحداث الأوروبية الكبرى، وثانيًا، بدأت تظهر الخلافات الطائفية بين الأرثوذكس والكاثوليك بعد الانقسام النهائي للكنيستين في عام 1054. وبالواقع، كانت الأميريات الروسية تقع منذ البداية على هامش السياسة الأوروبية.
أما نظام الحكم الذي أسسته سلالة روريك في روسيا فكان يُعرف بـ “النظام التسلسلي” بالروسية (лествичная): حيث كانت المدن، وأهمها كييف، تنتقل عادةً من الأخ الأكبر إلى الأخ الأصغر. وبهذه الطريقة، قسم الأمراء روسيا داخل الأسرة نفسها، مما أدى بالضرورة إلى التفتت الإقطاعي والصراعات الداخلية، وهو ما استغله المغول لاحقًا في القرن الثالث عشر.
الصدام الأوروبي مع روسيا ونشوء الدولة الروسية المركزية (الحملات الصليبية على روسيا)
في الوقت نفسه، تعرضت روسيا لهجمات من الأوروبيين، عبر فرسان النظام التيوتوني، الذين كانوا في الأصل معنيين بـ تعميد (وكثلكة) أراضي الوثنيين من البروسيون والسلاف في بحر البلطيق، وغالبًا مع تغريبها ثقافيًا. كان الهدف من الهجوم على الأراضي الخاضعة لأمراء نوفغورود وبسكوف هو التوسع الكاثوليكي.
ومن خلال هذه الحروب، ظهر نموذج أولي للصراعات العسكرية المستقبلية بين الحضارة الغربية والعالم الروسي: إذ سعى الأوروبيون في بعض الأحيان إلى إخضاع الروس سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا معًا. وقد كان هذا أحد الأسباب التي جعلت الأمير ألكسندر نيفسكي، الذي حارب الفرسان الألمان، يعتبر الأورطة المغولية أقل خطرًا على الدولة الروسية من الغرب. لاحقًا، ستتجلى هذه العناصر بوضوح في القرن السابع عشر خلال فترة الاضطرابات (سموتنويه فريميا) والعدوان البولندي الممنهج.
اختلفت عملية نشوء الدولة الروسية المركزية، كما أطلقت عليها الدراسات التاريخية، جذريًا عن أي عمليات اندماجية أو مركزية مماثلة في أوروبا الكاثوليكية. ففي السنوات الأخيرة من الهيمنة المغولية، تنافست عدة إمارات روسية على قيادة عملية توحيد روسيا، وكانت موسكو الأقدر على ذلك من حيث القوة والدهاء والبصيرة.
بدأت عملية تقوية موسكو وجمع الأراضي المحيطة بها في القرن الرابع عشر تحت حكم إيفان كاليتا، واستمرت على يد خلفائه، وانتهت عند إيفان الثالث، الذي قضى خلال حكمه على الهيمنة المغولية نهائيًا. استخدم أمراء موسكو المال والقوة العسكرية على التوالي للقضاء على استقلال باقي الأميريات الروسية، ضمًّا فعليًا معظمها إلى موسكو. وقد بُذلت جهود خاصة تجاه نوفغورود، التي كانت نظم إدارتها أقرب إلى النظم الأوروبية الغربية من بين جميع الكيانات السياسية الروسية، وتمت إلغاء استقلالها رسميًا في عهد إيفان الثالث.
بمعنى آخر، كانت النظام السياسي الروسي، على عكس النظام الغربي القائم على العديد من الروابط الأفقية المتشابكة، يقوم على مركزية واضحة وخضوع مطلق للحاكم. وقد تجلّى هذا بشكل واضح للغاية في عهد إيفان الرابع (الرهيب)، الذي بدأ إرهابًا ممنهجًا ضد أي مجموعات بويارية (النبلاء) معارضة، فعلية أو محتملة، وأتم بذلك عملية إنشاء الدولة الروسية المركزية، حيث لم يكن من الممكن وجود أي قوى منافسة لرئيس الدولة.
بالإضافة إلى الاختلاف الجوهري في النظم السياسية، كان أوروبا عند استقلال الدولة الروسية كيّانًا متجانسًا إلى حد كبير ثقافيًا، رغم الحروب الدينية (وغيرها) المدمرة، إذ شهد القرن السادس عشر صراعًا داخليًا واسع النطاق بين الكنيسة الكاثوليكية وصعود البروتستانتية. كما بدأت الدول الأوروبية، نتيجة نقص الموارد اللازمة للنمو الاقتصادي، في خوض حملات توسعية خارجية نشطة.
المرحلة الجديدة: عصر النهضة وعصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى
لنعُد إلى القرن الثالث عشر. يُعدّ غزو القسطنطينية على يد الصليبيين خلال الحملة الصليبية الرابعة (1204) أحد أبرز الأحداث في التاريخ الأوروبي الوسيط. فقد تعرّضت عاصمة الإمبراطورية الرومانية للنهب المروع، حيث قام اللاتينيون بنقل ثروات هائلة إلى الغرب، مما جذب انتباه المقرضين، الذين حولوا الأموال الكبيرة الموجودة بالفعل إلى ثروات أكبر بكثير. وأدى ذلك إلى ازدهار أوروبا، التي كانت حتى ذلك الوقت فقيرة نسبيًا. ويُعتبر غزو القسطنطينية عاملاً أساسيًا في ظهور النهضة الأوروبية، التي منحت الغرب هيمنة ثقافية استمرت لقرون طويلة.
اتجهت بعد ذلك الدول الأوروبية الغربية نحو مرحلة جديدة من التوسع الاقتصادي، المعروفة باسم عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى، والتي تحولت خلالها بعض الدول الأوروبية إلى إمبراطوريات استعمارية كاملة. بدأت إسبانيا والبرتغال، ولاحقًا هولندا وإنجلترا، بجهود ضخمة لاستكشاف المزيد من مصادر النهب والأسواق الجديدة لتصريف منتجاتهم.
على النقيض، كانت الدولة الروسية تتبع نهجًا مختلفًا في تأمين مواردها. أولًا، كانت الأراضي الشاسعة تجعل من الصعب حدوث أزمات زراعية كبيرة، على عكس أوروبا حيث كانت المساحة الصالحة للزراعة محدودة. ثانيًا، توسعت روسيا تدريجيًا نحو الشرق، وكان استكشاف سيبيريا دعامة اقتصادية ضخمة، مع الاحتفاظ بهذه الأراضي ضمن الدولة الروسية دون تحويلها إلى مستعمرات. كما لم تتبع موسكو سياسة إبادة جماعية تجاه الشعوب الأصلية، على خلاف ما حدث في كثير من المستعمرات الأوروبية.
غزو القسطنطينية وغدر روما واستغلال صراعات الروس الداخلية، والجدل حول إرث روما
في سياق إحياء الطموحات النيوعثمانية والبان تركية وتشجيع الغرب الخفي على ذلك، يثير الماضي في العلاقات الروسية–التركية اهتمامًا لا يقتصر على الأكاديميين فقط. بشكل عام، يُنظر إلى تاريخ تلك العلاقات من منظور الانتصارات الباهرة للسلاحين العثماني والروسي-سواء في عصر كاترين الثانية ومحمد الفاتح وبايازيد. أو يتم إعادة النقاش حولها غي مشروع كاترين الثانية “اليوناني”، فضلاً عن الأحداث التي وقعت بعد قرن من الزمن، وإن كانت أقل وضوحًا وتأثيرًا. لقد كانت أكثر الأمور غرابة، هو التخويف من إمكانية تكرار سيناريو حرب القرم في عام 1878، وهو ما بدا بمثابة ناقوس خطر مبالغ فيه بالنسبة لمنطق الواقعية.
الجدل حول إرث روما
دون شك فإن للعلاقات الروسية–العثمانية لها جذور أعمق. البداية الفعلية يمكن تحديدها بسقوط القسطنطينية في 29 أيار 1453، إذ شكّل هذا الحدث نقطة انطلاق للصراعات المستقبلية بين القوتين، اللتين كانتا تعتبران نفسيهما وريثتين للإمبراطورية البيزنطية الشرقية. كانت أراضي الأخيرة في أوجها تمتد إلى البلقان (الذين يعتبرون أنفسهم ورثة الرومان حتى اليوم)، والقوقاز، وساحل البحر الأسود، وهي مناطق دخلت تدريجيًا في مجال المصالح الجيوسياسية لكل من روسيا والدولة العثمانية، ما جعل المواجهة العسكرية بينهما حتمية.
فيما يتعلق بإرث روما، تجدر الإشارة إلى أن إيفان الثالث تزوج من ابنة أخت آخر إمبراطور بيزنطي، قسطنطين الحادي عشر، بينما ادعى محمد الثاني انتماءه لسلالة كومنينوس (1057–1185) وتبنى لقب قيصر الروم. لهذا السبب، رفض العثمانيون لفترة طويلة اعتبار الأباطرة النمساويين والروس أباطرة، وأرسلوا مفوضًا ثانويًا فقط لإجراء المفاوضات مع الأول. أما روسيا، فقد اعترفت بالإمبراطورية العثمانية رسميًا في 1739 عند توقيع معاهدة بلغراد مع آنا إيفانوفنا، رغم الانتصارات العسكرية الروسية الواضحة مثل الاستيلاء على أزوف وأوتشاكوف واحتلال القرم.
من أوغرا إلى أوكا: نهاية الهيمنة
المرحلة الثانية التي قربت الصدام بين البوابة العثمانية ا وروسيا الناشئة كانت في عام 1472. ففي ذلك العام، صدّت قوات موسكو بقيادة إيفان الثالث (المعروف بالمعظم) غزو جيش خان الأورطة الذهبية أحمد على نهر أوكا، دون خوض معركة فعلية، لتضع حدًا للتبعية السابقة. ومع ذلك، من الصعب تحديد من كان موسكو تابعة له بالضبط، إذ انهارت الأورطة في عام 1459، ولم تكن موسكو تابعة لخانات قازان أو أستراخان، أما العلاقات مع القرم فقد كانت تحالفية ضد أحمد، الذي سعى لإعادة السيطرة على القرم وإجبار موسكو على دفع الجزية مرة أخرى. لكن كلا الهدفين كانا بعيدين عن التحقيق لفترة طويلة. لم يستطع أحمد حماية العاصمة، حيث دمرها مقاتلو فياتسكا في 1471.
كانت الأورطة في أوائل سبعينيات القرن الخامس عشر لا تزال تمثل تهديدًا سياسيًا وعسكريًا، لكنها كانت على وشك الانهيار، ومصيرها كان محتومًا بعد وفاة أحمد. حتى لو خسر إيفان الثالث المعركة أو استأنف دفع الجزية، لكان ذلك مؤقتًا فقط، إذ انتهى مستقبل الأورطة الذهبية العسكري والسياسي مع حلول نهاية القرن الخامس عشر.
فيما يخص القرم، فقد دخل منذ النصف الثاني من القرن المذكور في دائرة اهتمامات إسطنبول، وفي عام 1478 اعترف بخضوعه لها. لذا لم يكن بإمكان أحمد أن يثبت نفسه طويلًا في شبه الجزيرة، إلا إذا اعترف بنفسه تابعًا للسُلطان، وهو أمر بدا مستبعدًا، إذ استهان خان بالقوة الفعلية للبوابة العثمانية، موجهًا رسالة لمحمد الثاني على شكل “يارليك”.
علاوة على ذلك، كانت الطموحات الغربية لأحمد تخضع لتصحيح واقع الحاجة لمعالجة قضايا معقدة في الشرق، والتي تطلبت جهودًا عسكرية كبيرة، إذ كان يسعى أيضًا لاستعادة السيطرة على خوارزم، الذي كان فيما مضى جزءًا من دولة الأورطة الذهبية، وكان متنازعًا عليه من قبل نسل الابن الخامس لجوتشي – شِيبان، وهي إحدى الأسر الأوزبكية القوية.
كان أحمد من السلالة المباشرة لتوكا-تيمور، الابن الثالث عشر لجوتشي. أما بشأن خط نسل باتو الذي حكم الخانية الذهبية، فما يزال الباحثون يختلفون حول الزمن الذي انتهى فيه وجوده على العرش. جدير بالذكر أنه، خلافًا للفهم الشائع، فإن مؤسس دولة القبيلة الذهبية باتو لم يحمل قط لقب “خان”، إذ تزامنت حياته مع حكم أربعة من خانات الإمبراطورية المغولية: جنكيز خان، أوقطاي خان، كيوك خان (الذي كان خصمًا شخصيًا لباتو)، ومينغو خان (الذي كان مرشح باتو). لذلك فإن شيوع التسمية “باتو خان” غير دقيق تاريخيًا، تمامًا كما لو أُطلق لقب “إمبراطور” على الأمير الروسي ألكسندر، قائد فوج روشوك في حرب 1877–1878 ضد الدولة العثمانية، في وقت كان القيصر ألكسندر الثاني حيًا. أما أول من حمل لقب خان في دولة القبيلة الذهبية المستقلة فكان مينغو تيمور (Mengu-Timur)، حفيد باتو، وذلك عام 1269. واستمر حكم سلالته حتى كيتشي محمد (Küchük Muhammad)، والد أحمد، الذي كان آخر خان للدولة. وبعد وفاته انهارت القبيلة الذهبية نهائيًا.
لكن لنعد إلى عام 1472 على ضفاف نهر أوكا، حيث لم يجرؤ أحمد على خوض المعركة، مكتفيًا بحضوره. كتب المؤرخ البولندي يان دلوغوش (Jan Długosz) عن الانتصار الاستراتيجي لموسكو قائلاً: “بتحرره من نير الغزاة، تحرر إيفان الثالث مع جميع دوقياته وإماراته وأراضيه، التي كانت خاضعة لسلطة المغول فترة طويلة”. بعد ثماني سنوات من هذا الحدث، حاول أحمد خان إعادة موسكو إلى تبعية الدولة الذهبية وإجبارها على استئناف دفع الجزية. وعلى الرغم من استعداد إيفان الثالث في البداية لتقديم بعض التنازلات، بل وحتى القبول باستئناف دفع الجزية، ظل في شمال شرق روسيا ترسّب ذهني ـ إدراكي يعترف بخان باعتباره صاحب السيادة الشرعية.
غير أن موقف إيفان الثالث تغيّر إثر الرسالة الشهيرة التي وجّهها إليه رئيس أساقفة نيجني نوفغورود، فاسيان (المعروف أيضًا بريلو)، والمعروفة باسم “رسالة على الأوغر”، بالروسية:” (Послание на Угре) “. منذ ذلك الحين توقفت السجلات الروسية عن إطلاق لقب «الملوك» (tsari) على خانات القبيلة الذهبية.
تمثِّل هذه الواقعة واحدة من اللحظات التي مارست فيها الكنيسة الأرثوذكسية دورًا سياسيًا حاسمًا في صياغة التاريخ الوطني الروسي. في تشرين الثاني 1480، انسحبت الأورطة إلى السهول، وفي كانون الثاني التالي قُتل آخر خان بارز من نسل جوتشي. وأسدل الستار نهائيًا على تاريخ الأورطة الذهبية ودولتهم. مع وفاة أحمد، لم تعد هناك حاجة للتحالف بين موسكو وباخيتشراي، وبدأت عداوة طويلة امتدت لعدة قرون، استمرت حتى منتصف القرن الثامن عشر، حيث كان آخر غزو للروس من قبل القرم عام 1769.
صندوق باندورا
في الواقع، لماذا أولينا اهتمامًا كبيرًا ببعض تفاصيل المواجهة على نهرَي أوكا وأوغرا عند الحديث عن جذور الصراع بين روسيا والبوابة العثمانية؟ السبب هو أن دولة الأورطة الذهبية كانت بمثابة نوع من الحاجز أو “العازل” أمام تحقيق الطموحات الجيوسياسية لدولتين تتنافسان على إرث الإمبراطورية البيزنطية الشرقية. أدى تفككها إلى فتح ما يمكن تسميته “صندوق باندورا” للصراعات الروسية-العثمانية المستقبلية.
كان هناك أيضًا حاجز آخر بين موسكو وإسطنبول، وهو الأمير تيمور، الذي دمر مدينة يلتس عام 1395، وبعد سبع سنوات كاد معركة أنقرة أن تُفني البوابة العثمانية، إذ كانت النصر فيها على يد أحد أعظم القادة العسكريين في أواخر العصور الوسطى – بايزيد الأول، الذي سحق الصرب في معركة كوسوفو 1389 والصليبيين عند نيقبولا 1396. أنقذت البوابة العثمانية فعليًا وفاة “الرجل الحديدي” في 1405، واستعادت القوات التركية قوتها بسرعة وعاودت التوسع، وكان ذروة هذا التوسع في أوروبا محطتين مهمتين: حصار فيينا عامي 1529 و1683.
بينما مرت ثلاثة عشر عامًا فقط بين معركة كوسوفو ومعركة أنقرة، فإن الصرب الذين قاتلوا حتى الموت في المعركة الأولى ضد بايزيد الأول، كانوا في الثانية وحدهم الذين لم يتركوا القتال رغم الهزيمة الواضحة والموت الوشيك، وهو جانب ثقافي مثير للاهتمام.
مهمة بوبل، أو الحلم الضائع لمملكة موسكو
واجهت الإمبراطورية الرومانية المقدسة أعظم قوة عسكرية في عصرها، مما دفعها للبحث عن حلفاء، وكان إيفان الثالث محل اعتبار في 1489، حيث أُرسل إليه سفراء بقيادة نيقولاي بوبل مع عرض لقب ملكي والانضمام إلى محاربة الأتراك.
لكن إيفان الثالث رفض العرض. أولًا، اللقب الملكي كان أقل من الإمبراطوري، وكان يعني عمليًا اعترافًا تابعًا، ولو شكليًا، للهابسبورغ، كما أنه كان يفتح المجال لمستقبل للضغط على موسكو من البابا، وفق ما نص عليه كونكوردات فيينا 1448، الذي وسع حقوق الكنيسة الكاثوليكية داخل الإمبراطورية.
ثانيًا، كان الهدف الأساسي لإيفان الثالث في السياسة الخارجية ليس مواجهة التهديد العثماني (الذي كان بعد لم يكن فعليًا بعد)، بل استعادة الأراضي من دوقية ليتوانيا الكبرى التي اعتبرها جزءًا من أراضيه، أي المقاطعات الجنوبية والغربية الروسية التي كانت تحت حكم آل روريك قبل فترة المغول، باستثناء بولوك.
بناءً على ذلك، كان الخصم الجيوسياسي الرئيسي لإيفان الثالث ليس البوابة العثمانية، بل مملكة بولندا الداعمة لليتوانيين، وهنا كانت نقاط التقارب الممكنة مع الهابسبورغ، بالنظر إلى علاقتهم المعقدة مع الياجيلون.
في النهاية، لم يتم تشكيل تحالف روسي-أوروبي ضد العثمانيين، جزئيًا بسبب عدم وجود مطالب إقليمية متبادلة بين موسكو وإسطنبول في أواخر القرن الخامس عشر، ولأن مصالحهما الجيوسياسية لم تتقاطع بعد بشكل كامل.
مع اعتراف باخيتشراي بالخضوع لإسطنبول ورغبة موسكو في السيطرة على قازان، والتي تم حلها مؤقتًا بأخذ المدينة عام 1487، أصبح الصراع محتومًا مستقبلًا.
مهمة بليشتشيف، أو قصة الدبلوماسي غير الدبلوماسي
في نهاية القرن الخامس عشر، كانت كلتا الدولتين تراقبان بعضهما البعض، مستعدتين للوقوف على خط البداية للصراع المستقبلي.
أرسل إيفان الثالث سفارة إلى السلطان بايزيد الثاني، لكن اختيار قائد البعثة كان غير موفق. خلال بعثته إلى البلاط العثماني في عهد السلطان بايزيد الثاني، انتهك ميخائيل بليشتشيف عمداً الأعراف الدبلوماسية المرعية، إذ رفض تسلّم الرداء الفاخر (الخلعة) والهدايا المالية، كما تجاهل الدعوة إلى العشاء الرسمي. في التقليد العثماني، لم يكن الرداء مجرد هدية تكريمية، بل رمزًا سياسيًا ذا دلالة واضحة على اعتراف المبعوث بمكانة السلطان وسموّه. لذلك فإن امتناع بليشتشيف عن قبول هذه الطقوس البروتوكولية شكّل رسالة مقصودة من موسكو: إعلان استقلالها السياسي ورفضها لأي مظهر من مظاهر التبعية لسلطة خارجية، في انسجام مع سياسة إيفان الثالث الرامية إلى تأكيد مكانة الدوقية الكبرى كوريثة لبيزنطة و”روما الثالثة”.
نتيجة لذلك، سُجن مؤقتًا، لكنه أُفرج عنه بسرعة، وقبل بايزيد الثاني بليشتشيف وسلمه برقيات لإيفان الثالث. سيكون بليشتشيف ليس الأول في إسطنبول الذي يُعرف بسلوكه غير الدبلوماسي، حيث فعل نفس الشيء الجنرال المساعد الأمير أ. س. مينشيكوف قبل حرب القرم. أما أسباب سلوك ميخائيل بليشتشيف غير الدبلوماسي، فكانت سياسية أولًا؛ إذ كان البواريك يتبع تعليمات إيفان الثالث بعدم الانحناء أمام السلطان، ورفض تسلّم الرداء الفاخر (الخلعة) والهدايا المالية، التي كانت في العرف العثماني رمزًا للسلطة والاعتراف بشرعية السلطان، أي اعتراف ضمني بسيادته ومكانته العليا.
كما كانت الأسباب ثقافية ودينية وأسطورية، إذ شكّل رفض هذه الطقوس جزءًا من سياسة موسكو لإبراز استقلالها السياسي واعتبارها وريثة بيزنطة و”روما الثالثة”، في موقف يعكس التحوّل الرمزي من الخضوع الخارجي إلى السيادة الذاتية، ويعبر عن البعد الروحي والثقافي للحاكم الروسي.
تبدأ القصة بتاريخ عام 1492، الذي اعتُبر نهاية الحقبة التاريخية القديمة في أوروبا، إذ لم تُحدَّد بعد مواعيد احتفال الفصح وفق التقويم الجديد للكنيسة. قبل ذلك بـ 570 عامًا، أي عام 1453، استولى الأتراك العثمانيون على القسطنطينية. وقد اعتبر الخبراء هذا الحدث تحوّلًا هائلًا في تاريخ العالم؛ فهو لم يُسقط الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت إحدى أقوى الدول في العالم آنذاك، فحسب، بل أزال آخر حاجز جغرافي بين القوى الغربية والدولة العثمانية الصاعدة بسرعة.
أدى هذا السقوط إلى تعقيد العلاقات الاقتصادية بين أوروبا وآسيا، إذ تأثرت طرق التجارة الرئيسية. كما ترتب على ذلك انتقال المركز الروحي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية إلى روسيا، ما عزز مكانة موسكو كخليفة بيزنطة الجديدة ومركز للسلطة الدينية والسياسية الأرثوذكسية في الشمال الشرقي. في 29 أيار1453، استولى الأتراك العثمانيون بعد حصار طويل على عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، القسطنطينية. ووفقًا للعلماء، كان لهذا الحدث تأثير هائل على مجرى التاريخ العالمي لاحقًا.
تتجاوز الأهمية التاريخية لبيزنطة حدود مساهمتها المباشرة في نشوء الحضارة الأوروبية والشرق أوسطية. فعند تقاطع العصور القديمة والعصور الوسطى، ظهرت بيزنطة على الساحة التاريخية كحاملة لأيديولوجيا جديدة – الديانة المسيحية المنتصرة. وكان الإمبراطور البيزنطي (الفاسيلوس) يلعب دور الهيمنة على العالم المسيحي، حيث كان يقود «مجتمع الدول البيزنطية» في مواجهة «الكتلة السياسية» الغربية. ويمكن اعتبار هذا المجتمع البيزنطي بمثابة نموذج أولي لفكرة “أوروبا الموحدة”.
وقد كان للحفاظ على عناصر الحضارة القديمة ونشرها في بيزنطة أهمية جوهرية لمصائر أوروبا التاريخية. ولعبت بيزنطة دورًا حاسمًا في تطوير الغرب، كحارسة للتراث القانوني للحضارة القديمة. ولأكثر من سبعة قرون، حمت بيزنطة أوروبا من الغزو المبكر للقوى الإسلامية، كما كانت وسيطًا فكريًا وتجاريًا بين أوروبا وآسيا. وكانت بيزنطة مصدرًا مباشرًا للحضارة العلمانية والروحية في أوروبا الشرقية، من بحر البلطيق وحتى البحر الأيوني.
توزيع القوى وبعض من التاريخ
اعتُبرت الإمبراطورية البيزنطية لفترة طويلة واحدة من أقوى الدول في العالم، إلا أنها ضعفت في القرن الثاني عشر بسبب الصراعات الداخلية وهجمات الأعداء الخارجيين المتكررة وبدأت في الانهيار. ففي عام 1204، استولى الفرسان الأوروبيون المشاركون في الحملة الصليبية الرابعة على القسطنطينية ونهبوها بشدة.
بعد الدمار الذي أحدثه الصليبيون، انقسمت بيزنطة لفترة وجيزة إلى عدة دويلات. وفي عام 1261، أعاد ميخائيل الثامن باليولوج الإمبراطورية، لكنها لم تستعد مجدها السابق. كما اكتسب التجار من مدن الدولة الإيطالية نفوذًا كبيرًا في الإمبراطورية.
أما الأتراك العثمانيون الذين استقروا في آسيا الصغرى في القرن الثالث عشر، فقد بدأوا تدريجيًا بانتزاع أجزاء من الأراضي البيزنطية قطعة قطعة. وفي عام 1439، وبناءً على أمل الحصول على دعم من الغرب، وافقت السلطات البيزنطية على عقد الاتحاد الفلورنسي، الذي كان يهدف إلى توحيد الكنائس المسيحية الغربية والشرقية. ومع ذلك، وفقًا للمؤرخين، كانت هذه الآمال خائبة، إذ لم يستطع الغرب تقديم دعم ملموس لبيزنطة، كما كان سكان الإمبراطورية يعارضون فكرة الخضوع للبابا.
فعليًّا صمدت القسطنطينية أمام سلسلة طويلة من الحصارات العثمانية. فقد سمحت التحصينات الممتازة والموقع الجغرافي المميز للقسطنطينية بالصمود أمام 23 حصارًا خلال ما يقرب من ألف عام من وجود الإمبراطورية البيزنطية. أما المحاولة الناجحة للأتراك العثمانيين للاستيلاء على العاصمة البيزنطية في 29 أيار 1453، فلم تكن الأولى من نوعها. فقد سبقتها عدة حصارات شنتها الدولة العثمانية منذ أواخر القرن الرابع عشر خلال حكم الإمبراطور مانويل الثاني باليولوج (1391–1425).
حاول السلطان العثماني بايازيد الأول يلدرم (1389–1402) السيطرة على مضيق البوسفور وفرض سيطرته على القسطنطينية. بعد بناء قلعة أنادولوفي 1391، شرع بايزيد في حصار المدينة من البر والبحر لإجبارها على الاستسلام.
كان أول حصار عثماني فعلي للعاصمة البيزنطية في خريف 1394، نتيجة رفض الإمبراطور مانويل الثاني المشاركة في الحملات العسكرية التي قادها بايزيد في آسيا الصغرى. واستمر الحصار العثماني للقسطنطينية نحو ثماني سنوات، إلا أن المدينة نجت بفضل هزيمة العثمانيين في معركة أنقرة 1402 على يد الأمير التيموري تيمور (تيمورلنك)، وهو ما اعتبره البيزنطيون معجزة إلهية استجابة لصلواتهم للعذراء مريم.
بعد معركة أنقرة، دخلت الدولة العثمانية فترة من الصراع الداخلي الطويل بين أبناء بايزيد الأول على الخلافة: سليمان، موسى، ومحمد. وخلال هذه الفترة، خرجت بيزنطة من حيادها ودعمت أحد الأطراف في النزاع العثماني.
في 1403، تم التوصل إلى اتفاق في جاليبولي بين السلطان سليمان والتحالف المسيحي الذي شمل بيزنطة والبندقية وجنوة وصربيا ودوقية ناكسوس ورهبان رودس. دعمت بيزنطة سليمان، وفي أيار 1410 بدأ البيزنطيون، بمساندة محتملة من الجنويين (جينوى)، حصار جاليبولي كجزء من هذا التحالف.
في 15 حزيران 1410، هزم السلطان العثماني سليمان جيش أخيه موسى تشيلبي في ضواحي القسطنطينية بمنطقة كوسميديون، واستُقبل حليفه التركي استقبالا احتفاليًا في المدينة. إلا أن موسى استعاد المبادرة بانتصار على سليمان في شباط 1411، مما هدد القسطنطينية ووضعها أمام مخاطر جديدة. في صيف ذلك العام، حاصر جيش السلطان، المدعوم بتحالف مع البندقية وصربيا وولاشيا، العاصمة البيزنطية مجددًا.
خلال هذه الفترة، أرسل الملك الروماني-الألماني سيغموند رسائل إلى الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني بين 1410 و1412، يقترح فيها التعاون العسكري مع البابا يوحنا الثالث والعشرين ودعم الكنيسة لمواجهة التهديد العثماني. وأشار سيغموند إلى أن مصائب القسطنطينية كانت نتيجة خيانة البندقية، التي دعمت الأتراك مباشرة.
فضّلت بيزنطة، مع ذلك، التعامل مع الحاكم العثماني محمد في الأناضول، الذي عبرت قواته بمساعدة السفن البيزنطية والجنوية إلى الضفة الأوروبية، وهزم موسى في ربيع 1412، منهية الحصار ومكرسة نفوذ حاكم عثماني موالٍ لها في المنطقة.
بعد وفاة محمد الأول (1413–1421)، دعمت بيزنطة أخاه مصطفى كمرشح للعرش، لكنه هُزم على يد ابن أخيه مراد الثاني، الذي قرر معاقبة الإمبراطورية البيزنطية بحصار جديد في 1422. وصلت أولى الفرق العثمانية بقيادة ميخالوغلو إلى أسوار القسطنطينية في 10 حزيران، وانضم إليها السلطان مراد الثاني مع التعزيزات في 20 حزيران.
بعد حصار دام شهرين، كانت المحاولة الحاسمة في 24 آب، وفق توقيت الهجوم الذي حدده الفلكي مرسايتا، إلا أن البيزنطيين فسّروا انسحاب العثمانيين على أنه معجزة ظهور العذراء على أسوار المدينة.
أدى الاتفاق المبرم في شباط1424 إلى تثبيت تبعية الإمبراطورية البيزنطية للأتراك: التزمت بيزنطة بإعادة الأراضي على ساحل بحر مرمرة والبحر الأسود ودفع جزية سنوية قدرها 30 ألف قطعة فضية، مع التقيّد بعدم المساس بمصالح الدولة العثمانية، إضافة إلى اعتبار مغادرة الإمبراطور يوحنا الثامن باليولوج إلى مجمع فيرارا-فلورنسا في تشرين الثاني 1437 خرقًا لمعاهدة 1424، ما أثار غضب السلطان الذي خشي من تقارب سياسي محتمل بين بيزنطة والغرب.
وفي ربيع 1438، ظهرت قوات مراد الثاني قرب أسوار القسطنطينية خلال حملة السلطان على البحر الأسود، فتوجهت بيزنطة بسرعة إلى البندقية طلبًا للمساعدة. وقرر مجلس الشيوخ في 24 أيار 1438 أن الجمهورية على استعداد لإرسال السفن، بشرط تحمل البابا والإمبراطور البيزنطي تكاليف تسليحها. وبذلك أصبح «العامل العثماني» حاسمًا في توقيع الاتحاد 1439، الذي حدّد فعليًا مصير القسطنطينية في حال رفض الغرب تقديم المساعدة العسكرية.
في شتاء 1451–1452، أمر السلطان محمد الثاني الفاتح (1444–1446، 1451–1481)، على غرار بايزيد الأول، ببدء بناء قلعة روميلي (بوغاز-كسن) في أضيق نقطة لمضيق البوسفور، مما قطع القسطنطينية عن البحر الأسود، وهو الخطوة الأولى نحو الحصار النهائي للعاصمة البيزنطية، بينما حاول البيزنطيون عبثًا إلزام السلطان بالحفاظ على وحدة الأراضي البيزنطية.
بحلول منتصف القرن الخامس عشر، لم تكن الإمبراطورية البيزنطية تملك إلا القسطنطينية وضواحيها وجزءًا من شبه جزيرة البيلوبونيز»، كما تقلص عدد السكان من أكثر من مليون نسمة إلى نحو 50 ألف نسمة تقريبًا، ومع ذلك استمرت المدينة في الصمود أمام الغزاة.
كان آخر أباطرة البيزنطيين هو قسطنطين الحادي عشر باليولوج، الذي يصفه المؤرخون بأنه حاكم نشط وموهوب. وعلى الرغم من جميع الصعاب، حاول تحفيز رعاياه والبحث عن حلول للأزمة التي اجتاحت الإمبراطورية. أجرى مفاوضات مع الأتراك وسعى في الوقت نفسه لكسب دعم الدول الأوروبية، لكنه لم يتمكن من إحداث تغيير جذري.
كان السلطان العثماني محمد الثاني مصممًا على القضاء على ما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية، ومن بين الحلفاء الغربيين، لم يقدم الدعم سوى بعض المدن الإيطالية فقط، وكان دعمًا محدودًا لقسطنطين..
في عام 1452، بنى العثمانيون قلعة عند أضيق نقطة من مضيق البوسفور ومنعوا مرور السفن الأجنبية دون تفتيش. وأُغرقت سفينة البندقية التي حاولت انتهاك هذا الحظر، وأُعدم طاقمها. وبهذا توقفت حرية الملاحة في المضائق، وفقدت القسطنطينية أحد أهم طرق الحصول على التعزيزات والإمدادات.
في بداية عام 1453، بدأ العثمانيون التحضير للهجوم الحاسم على العاصمة البيزنطية. وأجبروا المدن البيزنطية في تراقيا على الاستسلام، وبدأوا في جمع جيش يُقدّر معظم المؤرخين أنه وصل إلى 80–100 ألف جندي. كما أولوا اهتمامًا بالغًا بتطوير المدفعية والأسطول، وأُرسلت معظم السفن العثمانية إلى منطقة القسطنطينية.
المعركة الأخيرة- نسخة روسية لصورة الحصار
وفق المراجع الروسية، فإن دفاعات القسطنطينية استمرت في عام 1453 مدة 57 يومًا، من 2 نيسان حتى 29 أيار، وكان من الممكن أن تكون ناجحة إلى حد كبير لولا سلسلة من الأحداث المأساوية. في أوائل نيسان 1453، وصلت الطلائع التركية إلى محيط القسطنطينية. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي كانت تمر بها الإمبراطورية البيزنطية، كانت مهمة العثمانيين صعبة. فقد كانت أسوار المدينة، وفقًا لتقديرات المؤرخين، من أقوى الأسوار في العالم. كما كان خليج القرن الذهبي مغلقًا بسلسلة تمنع مرور السفن التركية إليه. لقد كانت أكبر مشكلة واجهها المدافعون عن القسطنطينية تتمثل بنقص القوى البشرية. فقد تمكنوا فقط من حماية الاتجاهات الأكثر خطرًا بشكل كافٍ.
كان الجيش المدافع عن القسطنطينية صغيرًا نسبيًا، يبلغ نحو 7000 رجل، بينهم 2000 أجنبي. وكان قائد الدفاع عن أسوار المدينة هو القائد المرتزق جيوفاني جوستينياني، الذي دافع عن المدينة بنجاح. أما عدد العثمانيين المحاصرين للقسطنطينية، فكان أعلى بعشرة أضعاف تقريبًا، بين 50 و80 ألف جندي، بينهم 5000–10000 إنكشاري، وعدد من الجنود المسيحيين، بما في ذلك 1500 فارس صربي بقيادة جوراج برانكوفيتش. وكان هناك في المعسكر التركي، كمراقب عسكري، السفير المجري، الذي ساعد الأتراك، وفقًا لروايات المؤرخين، بنصائح حول كيفية ترتيب المدافع بشكل صحيح.
أدت مناورة محمد الثاني الناجحة يوم 22 نيسان، عندما أمر بسحب سفنه مباشرة إلى القرن الذهبي متجاوزًا الحاجز الحديدي، إلى إحباط معنويات المدافعين عن القسطنطينية جزئيًا. ازدادت المخاوف لدى المدافعين ليلة 24 أيار، عندما شهدوا خسوفًا للقمر، ما عزز شعورهم بالخطر والهلع.
في 27 أيار، عادت إحدى السفن التي أُرسلت عبثًا للبحث عن الأسطول الذي وعدت به حكومة البندقية، ولم يرسله مجلس الشيوخ بعد، ما عمّق شعور المدافعين بالعزلة والارتباك. خلال هذه الفترة، أُجبر الموكب الديني المنظم على التوقف بسبب الأمطار الغزيرة والبرد القارس، مما أضعف الروح المعنوية للمدينة أكثر.
مع ورود معلومات عن تدهور معنويات الدفاع عن القسطنطينية، أرسل محمد الثاني مبعوثين إلى المدينة في 21 أيار بعرض نهائي للاستسلام. رفض الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر العرض رفضًا قاطعًا، معلنًا أنه يفضل الموت مع مدينته على الخضوع للغزاة.
استشاط محمد الثاني غضبًا من إخفاقاته. وحثّه البعض م حاشيته السلطان على التراجع، لكنه عاند. أرسل الحاكم التركي عمال مناجم لحفر أنفاق تحت أسوار القسطنطينية، لكن المدافعين عن المدينة كشفوا هذه الخطة. في بعض الأماكن، نفخوا الدخان في الأنفاق، وفي أماكن أخرى، أغرقوها بالماء. عندما نصب العثمانيون أبراجًا هجومية على أسوار القسطنطينية، فجّروها. مع ذلك، لم تكن النجاحات الجزئية للبيزنطيين ذات أهمية تُذكر.
كانت المدينة تعاني من نقص في الغذاء. كان المدافعون عنها من البندقية وجنوة يتشاجرون فيما بينهم. عادت سفينة أُرسلت بحثًا عن تعزيزات محتملة خالية الوفاض. قرر مجلس الشيوخ إرسال أسطول البندقية في شباط 1453، لكن انطلاق الأسطول تأخر فعليًا حتى نيسان، وكان الوقت قد فات بحلول ذلك الوقت. غادرت سبع سفن حربية فينيسية العاصمة البيزنطية، مع طواقمها ومفرزة عسكرية يبلغ عدد أفرادها حوالي 700 رجل، هربًا من المدينة رغم تعهدهم بالدفاع عنها. كما فشل البابا نيقولاي الخامس في تنظيم تحالف واسع من الدول المسيحية وتجميع الأسطول الموعود سابقًا، إذ أرسل ثلاث سفن حربية جنوية فقط مع المؤن في نهاية آذار1453. وبهذا، ثبت خطأ حسابات الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر، الذي كان قد أكد الاتحاد مع روما بمرسومه الصادر في 12 كانون الأول1452، إذ لم يقتصر التخلف الغربي على عدم الدعم، بل أبرمت كل من البندقية وجنوة وجمهورية دوبروفنيك معاهدات سرية مع العثمانيين في حال سقوط المدينة.
في 25 أيار1453، عقد السلطان محمد الثاني مجلسًا عسكريًا قرر فيه الاستعداد لهجوم حاسم على القسطنطينية. تعرضت المدينة لقصف عنيف من المدافع، ثم منح السلطان قواته يومًا للراحة قبل بدء الهجوم. بدأ الهجوم على طول خط التماس ليلة 28–29 أيار، وواجه العثمانيون مقاومة شرسة من جميع سكان المدينة. لفترة من الوقت، لم يحقق الأتراك أي نجاح يذكر، ما أظهر قوة الدفاع البيزنطي رغم النقص في الدعم الخارجي.
وفقًا للمؤرخين الروس، لا تزال الظروف الكاملة لسقوط عاصمة الإمبراطورية البيزنطية مجهولة، لكن حدثين لعبا دورًا رئيسيًا: اختراق مجموعة صغيرة من الجنود العثمانيين عبر بوابة كيركوبورتا (بوابة السيرك)، التي استخدمها المدافعون عن المدينة لأعمال المراقبة والاستطلاع، وإصابة جوستينياني بجروح خطيرة، أثناء الدفاع عن الأسوار، وإجلاؤه مع جزء من فرقه بطريقة مفاجئة وغير منسقة، ما أحدث ذعرًا وفوضى بين المدافعين.
لاحظ الأتراك الارتباك في صفوف العدو فكثّفوا هجومهم. اندفع الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بنفسه إلى المعركة، لكنه سرعان ما قُتل. هرب معظم المدافعين عن المدينة أو لقوا حتفهم بأسلحتهم. لم يتمكن العثمانيون من أسر سوى عدد قليل ممن قاتلوا ضدهم. بعد اقتحامهم المدينة، ارتكبوا مجازر وقاموا بأعمال النهب والسلب.
المذبحة والدمار بعد سقوط القسطنطينية (نقيض لما يرد في التاريخ العثماني)
بعد سقوط القسطنطينية في 29 أيار1453، وثّق العديد من المؤرخين والمراقبين المعاصرين مشاهد العنف والدمار التي اجتاحت المدينة. فقد وصف نيكولو باربارو الطبيب من البندقية، الذي كان حاضرًا خلال الحصار، مشهد المدينة بعد سقوطها قائلاً: “تدفقت الدماء في المدينة كالمطر في المزاريب بعد عاصفة مفاجئة، وطفت الجثث في البحر مثل البطيخ في قناة.” دون شك فإن هذا الوصف يعكس حجم العنف الذي شهدته المدينة أثناء وبعد اقتحامها.
وفقًا للمؤرخ جورج سفرانتزيس، تعرضت الكنيسة الكبرى آيا صوفيا لانتهاكات جسيمة، حيث تم اغتصاب رجال ونساء داخلها. كما ذكرت مصادر أخرى غير مؤكدة مقتل فتى أرثوذكسي قام السلطان محمد الثاني بقتله، وهو يبلغ 14 عاما من العمر، لأنه فضل الموت على الوقوع في الأسر.
تورد مصادر أخرى أنه بعد سقوط المدينة، تعرضت الكنائس والأبنية التاريخية للنهب والتدمير. السلطان محمد الثاني سمح بمرحلة من النهب، حيث تم تدمير العديد من الكنائس الأرثوذكسية، لكن حاول منع تدمير كامل للمدينة. في 2 حزيران، وجد السلطان المدينة شبه مهجورة ونصف مدمرة؛ الكنائس دُنسَت ونهبت، والمنازل أصبحت غير صالحة للسكن، والمتاجر والمحلات أُفرغت. يُذكر أنه تأثر بشدة بهذا المشهد، وقال: “يا لها من مدينة سلمناها للنهب والتدمير.”
وفقًا لمؤرخين، تعرض سكان المدينة للقتل والاغتصاب، وتم بيع حوالي 30,000 مدني كعبيد في سوق النخاسة أو تم ترحيلهم قسرًا. هذه الحوادث تشير إلى حجم الفوضى والدمار الذي حل بالقسطنطينية بعد سقوطها.
في كل حال تظهر هذه القصص التاريخية حجم التناقض الشاسع بين المصادر التاريخية العثمانية، والأخرى الروسية في المقلب الآخر، والتي لا تزال مدار سجال لم ولن ينتهي رغم بعد المدة الزمنية.
الاعتقاد الرائج إنه بعد سقوط القسطنطينية، زالت الإمبراطورية البيزنطية تمامًا. لكن مركز الأرثوذكسية إلى الدولة الروسية. شكّل هذا أساسًا لمفهوم روما الثالثة.
وصف ستيفان زفايغ سقوط القسطنطينية بأنه “أروع لحظة في تاريخ البشرية جمعاء”، وهو أحد تلك الأحداث التاريخية التي “حددت مسبقًا السنوات والقرون القادمة، ومصائر مئات الأجيال، ووجّهت حياة الأفراد، وأمم بأكملها، أو حتى البشرية جمعاء”. عادةً ما يرتبط هذا الاضطراب الكبير في القرن الخامس عشر بالحد الزمني بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، كما حدده الباحث الألماني كريستوف كيلر (1685).
لقد كان هذا حدثًا عالميًا ذا أهمية تاريخية عالمية، إذ سقط مركز الثقافة العالمية، واختفى كنزٌ من الكنوز الثقافية، كان تأثيره محسوسًا في جميع أنحاء العالم. شكّل سقوط بيزنطة، في المقام الأول، وضعًا جيوسياسيًا جديدًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي فقدت على الفور توازن قوتها السياسية الذي دام قرونًا، والذي كان يعتمد على السلطة الدولية العليا للإمبراطورية البيزنطية. وجّهت خسارة القسطنطينية ضربةً قاصمة للعالم المسيحي بأسره، منهيةً بذلك عصر الحروب الصليبية، وموقعةً الغرب في مواجهة عدوٍّ قويٍّ في الشرق. وأدى سقوط القسطنطينية إلى قطع الطريق التجاري الرئيسي من أوروبا إلى آسيا، مما أجبر الأوروبيين على البحث عن طريق بحري جديد، وربما أدى إلى اكتشاف أمريكا وبداية عصر الاكتشافات. وقد مثّلت الهجرة الجماعية لليونانيين إلى إيطاليا نتيجةً لهذا الحدث المأساوي بداية عصر النهضة، الذي شهد انهيار النظام الديني القديم، وامتلأت العديد من جامعات أوروبا الغربية بالعلماء اليونانيين الذين فروا من بيزنطة.
وبذلك، بحلول منتصف القرن السادس عشر، كان هناك اختلاف جذري بين روسيا وأوروبا من حيث النظم السياسية والاقتصادية.
ومع ذلك، كان الغرب بالفعل يسعى منذ تلك الفترة للاستيلاء على روسيا اقتصاديًا؛ على سبيل المثال، كانت أنشطة التجار الإنجليز في أراضي دوقية موسكو، التي بدأت صدفة في البداية، تتطور تدريجيًا نحو التحكم في التجارة الخارجية الروسية بشكل احتكاري. ورغم تطور التبادل الاقتصادي بين الجانبين، الذي كان يعود بالنفع الأكبر على الجانب الإنجليزي مقارنة بالجانب الروسي، لم يتمكن إيفان الرابع (الرهيب) من الحصول على دعم ملموس من إنجلترا خلال الحرب الليفونية. وفي فترة الاضطرابات، بدأ البرلمان البريطاني في لندن فعليًا بطرح فكرة تحويل روسيا إلى حماية إنجليزية. وقد تم الحدّ من التوسع البريطاني في روسيا عمليًا فقط في منتصف القرن السابع عشر.
دور بولندا
منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن السابع عشر، كانت أوروبا الغربية تعيش حالة من الصراعات الدينية والسياسية. في هذا الوقت، دخلت روسيا في سلسلة من الحروب مع بولندا، الدولة التي ضمت بعض الأراضي التاريخية الروسية، والتي كادت في مرحلة ما أن تقضي على روسيا ككيان سياسي.
يجدر التذكير أن ريتش بوسبوليتا (الاتحاد الليفوني) نشأت نتيجة اتحاد مملكة بولندا مع دوقية ليتوانيا الكبرى، حيث كان جزء كبير من الأرستقراطية يتبع الديانة الأرثوذكسية. إلا أن في الدولة المتحدة الجديدة بدأت عملية تمييز منظمة ضد الأرثوذكس، وأُغلقت أمامهم جميع السلالم الاجتماعية تدريجيًا.
وقد كان مصير مشابه يهدد روسيا لاحقًا: فقد كان ديميتري الدجال الأول، الذي راهن عليه في البداية النبلاء البولنديون، قد وعدهم بـ إعادة كثلكة روسيا في فترة قصيرة جدًا. وخلال أحداث فترة الاضطرابات (Смутное время)، شارك اليسوعيون بنشاط، وكان خلفهم الفاتيكان. بشكل عام، كانت جميع تصرفات الأرستقراطية البولندية تجاه الأرثوذكس تتمتع بشعور مطلق بالتفوق والاستثنائية. في هذا الصدد، ظهر البولنديون كـ طلاب جديرين للفرسان الألمان، الذين خاضوا معهم حروبًا مستمرة سابقًا.
تاريخ الصراعات الروسية البولندية هو، في جوهره، تاريخ التقابل بين نظامين سياسيين متناقضين جذريًا: الأوليغارشية الأرستقراطية البولندية (الشلاختا) مقابل الحكم المطلق الروسي. وعلى الرغم من أن بولندا ضغطت على روسيا في البداية، فقد كانت النصر النهائي حليفًا لموسكو: فقد استعادت روسيا أولًا بعض الأراضي الروسية التاريخية، ثم قادت بولندا في النهاية نحو التفكك والانهيار.
بالتوازي مع ذلك، شهدت أوروبا عملية تاريخية جديدة تمامًا – وهي تشكّل الدول القومية، التي تميزت بإنشاء النظام الويستفالي، الذي وفَّق بين الكاثوليك والبروتستانت، وأكد السلطة المطلقة للدولة على أراضيها.
وقد أكد هذا الحدث مرة أخرى متانة البنية الداخلية الأوروبية وقدرتها على التكيف، فقد تمكنت أوروبا من جمع أطراف لم تكن في الأصل مستعدة لأي تسوية: فمن الصعب علينا اليوم تصور مستوى الكراهية الذي كان يشعر به ممثلو الطائفتين المسيحيتين المتنافستين تجاه بعضهم البعض. ومن الواضح أن هذا النظام من الروابط الداخلية غير المرئية والملتوية ساهم في تجميع أوروبا كوحدة واحدة، على الرغم من كونها تتألف من دول مستقلة متعددة.
ويمكن القول إن الدول الأوروبية استمرت في الحروب فيما بينها لثلاثمائة عام إضافية بعد ذلك، إلا أن أوروبا كمفهوم سياسي وثقافي ظلت متماسكة وغير متضررة.
النموذج الروسي
في هذا السياق، بدأت الإصلاحات في روسيا تحت حكم بطرس الأول، الذي نجح بالفعل في جعل روسيا جزءًا من السياسة الأوروبية العامة. ومع ذلك، لا يزال السؤال قائمًا حول مدى نجاحه الفعلي في تحقيق هذا الهدف.
فقد أصبحت الطبقة الحاكمة الروسية مبنية على النمط الأوروبي في مظهرها وسلوكها، مما منحها إمكانية الاندماج الجزئي في النظام السياسي الأوروبي في مراحل معينة.
وأصبحت الإمبراطورية الروسية واحدة من الدول القليلة التي تحدد السياسات على نطاق عالمي، وفي بعض الفترات كانت تعتبر القوة العالمية الأكثر تأثيرًا. ومع ذلك، كانت العلاقات الروسية-الأوروبية تعمل غالبًا على مستوى الأفراد البارزين أكثر مما كانت تعمل عبر هياكل مؤسسية مستقرة ومستدامة.
النموذج الروسي الحديث: التوتر مع الغرب واستقلال السيادة
يبدو هذا منطقياً تمامًا: فقد كان الأمراء الروس يقدّرون سيادتهم بشكل طبيعي، وظهور أي منظمات مرتبطة بما يُعرف اليوم بـ”الدولة العميقة” الأوروبية في روسيا كان يؤدي حتمًا إلى تقويض هذه السيادة وتدميرها.
يمكن أن ندرج ضمن هذه المنظمات دون مواربة، على سبيل المثال، اللوائح الماسونية، التي حُظرت نشاطاتها في أوقات مختلفة من قبل يكاتيرينا الثانية وألكسندر الأول، بالإضافة إلى عدد من الهياكل الأخرى المماثلة، التي غالبًا ما أدت وظائف الاستخبارات بشكل مباشر. إضافة إلى ذلك، كانت روسيا تتوسع باستمرار جغرافيًا، ولذا كان من المستحيل دمجها بشكل كامل في النظام السياسي الغربي الأوروبي. كما أن النخبة الغربية لم تكن مستعدة لاستيعاب الروس كأوروبيين، رغم أن النخبة البطرسبرغية كانت واثقة من انتمائها الروحي لأوروبا.
هذا أدى إلى تباينات واضحة: إذ بدأ النبلاء والمثقفون الروس ينظرون إلى بلادهم “بعيون أوروبية”، فلاحظوا فيها العديد من الاختلافات عن المعايير الغربية، مما أدى إلى ظهور الروسوفوبيا الداخلية ونموها. ومع ذلك، تفوقت روسيا ثقافيًا على جيرانها الأوروبيين؛ فقد أصبحت الثقافة الروسية ذروة الحضارة الأوروبية.
شاركت بطرسبورغ بنشاط في الشؤون الأوروبية، حتى أن الجيران المذعورين شكلوا بحلول منتصف القرن التاسع عشر تحالفًا ضخمًا ضدها، مما أدى إلى هزيمة روسيا في الحرب القرمية.
بعد ذلك، بدأت روسيا تدرك بوضوح أن الغرب ليس راغبًا في استقبالها ضمن صفوفه. ومن الناحية العملية، كانت هذه الفترة بداية سياسة احتواء روسيا، التي سيعيد الأمريكي جورج كينان التأكيد عليها بعد نحو قرن تقريبًا، وما زالت تمارس حتى اليوم.
وقد تصدى الغرب باستمرار للجهود الدبلوماسية الروسية، بما في ذلك السعي لتحرير الشعوب السلافية الأرثوذكسية تحت نير الدولة العثمانية. كما حاول التدخل صراحة في الشؤون الداخلية الروسية، كما حدث في عام 1863 خلال ثورة بولندا. فقد قدمت الدول الأوروبية دعمًا مفتوحًا لأعداء روسيا أو، على الأقل، لم تقدم أي دعم حقيقي.
خلال الحرب العالمية الأولى، شاركت الإمبراطورية الروسية ضمن أحد التحالفات الأوروبية إلى جانب بريطانيا وفرنسا، ومع ذلك، وجهت لندن ضربة من الخلف لروسيا: فقد قامت الاستخبارات البريطانية بكل ما في وسعها للإطاحة بالملكية وإدخال البلاد في فوضى ثورية. ونتيجة لذلك، لم تحصل روسيا، التي كان من المفترض أن تكون ضمن المنتصرين الذين يحددون النظام السياسي العالمي الجديد، إلا على ثورة دموية أخرى، حرب أهلية، وفقدان أراضٍ رئيسية. وبهذا، انتهى تواجد روسيا في السياسة الأوروبية بشكل فعلي.
الوضع المعاصر
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حصل الاتحاد السوفيتي على نصف أوروبا كمجال نفوذ، وبدأ في إعادة تشكيل العالم بشكل نشط. من جهتها، أنهت الدول الغربية خلال الحرب الباردة عملية التوحيد تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت انتصارها في المواجهة مع المعسكر الاشتراكي بمثابة لحظة انتصار غير مسبوقة. منذ ذلك الحين، ركزت جميع جهود الدول الغربية على ترسيخ هذا النجاح، الذي يتمثل في سيطرتها على العالم كله، حرفيًا.
من الواضح مدى سخافة محاولة إقناع الغرب بأن لروسيا مصالح وطنية مستقلة. لم تخض الولايات المتحدة وحلفاؤها الحرب الباردة من أجل الاعتراف بمثل هذه المصالح لأي طرف. واستغلت الدول الغربية السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي لترسيخ هيمنتها المطلقة، ولا تنوي التخلي عنها. وبالواقع، كل السياسة الخارجية الحالية للولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وحلفائهم المباشرين مبنية على انتصارهم في الحرب الباردة. وأي محاولة للمشاركة أو التنازل تعتبر تهديدًا لهذا الانتصار، وهو أمر غير مقبول إطلاقًا.
تكمن جذور سلوك الغرب في الصراع الأوكراني في هذا المنطق بالذات. فـ الحدود ما بعد السوفيتية بالنسبة لهم غير قابلة للمساس، وأي مراجعة لها تحمل خطرًا هائلًا، لأنها ستلغي السيطرة العالمية التي حققتها الحضارة الغربية. فـ “السيد” لا يتنازل ولا يشارك، بل يفرض شروطه، وإلا لم يعد “سيدًا”.
ويزداد الأمر وضوحًا مع روسيا – الدولة التي يُنظر إليها على أنها هُزمت سابقًا (كممثل للاتحاد السوفيتي). أي تنازل لها يعتبر غير مقبول إطلاقًا. لذلك ستواصل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها الضغط إلى أقصى حد، خاصة عندما تظهر موسكو استعدادها للتنازل. ويجب أن تفهم روسيا أخيرًا أن لا أحد في الغرب ينوي التعامل معها على قدم المساواة، لأن ذلك سيخالف عدة مبادئ أساسية للحضارة الغربية الحديثة. أولًا، الغرب بحكم طبيعته لا يتنازل لأحد ولا يحسب حساب أي طرف بجدية. ثانيًا، مثلما في العصور الوسطى، يتمتع الغرب بالوعي التام باستثنائيته الأيديولوجية والروحية.
أما اليوم، فالإيديولوجيا مختلفة، فقد كانت حتى وقت قريب الديمقراطية. فالدول الغربية تسمح لشعوبها باختيار أي حكام شكليين، لأن هؤلاء الحكام في النهاية يخضعون للنظام المعقد من الروابط الأفقية الذي تم بناؤه على مدى قرون.
ما حدث لاحقًا معروف: فقد كان على الاتحاد السوفيتي، الذي نشأ مكان روسيا، أن يبذل جهودًا هائلة لاستعادة الأراضي الروسية، ويمر بحرب عالمية أخرى تكبد فيها عشرات الملايين من الضحايا، ومن ثم أن يحافظ لعقود على صراع نظامي مع الغرب الجماعي المتمثل في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
وهكذا، كيف يمكننا وصف الوضع الراهن الذي نعيشه اليوم؟
التحولات المعاصرة في الحضارة الغربية
تتخلى الحضارة الغربية اليوم تدريجيًا عن الديمقراطية: إذ أخذت مطالب تقييد حقوق الأغلبية لصالح مختلف الأقليات تكتسب صفة رسمية متزايدة. وترتبط المبادئ الإيديولوجية الغربية الحالية بالحاجة إلى إعادة النظر في جميع المؤسسات الاجتماعية التقليدية، وعلى رأسها الأسرة، وبـ تدمير أي هوية تقليدية، بما في ذلك الهوية الجنسية، وبالتخلي عن رفع مستوى المعيشة أو حتى الحفاظ على مستواه الحالي لصالح أجندة بيئية غامضة، وما إلى ذلك. وكما كان الحال قبل ألف عام، تطلب الدول الغربية اليوم الاعتراف غير المشروط بالقيم التي تقدمها على الصعيد العالمي.
أتقنت الدول الغربية خلال قرون طويلة أساليب الاستعمار إلى درجة أن بعض الدول والشعوب أصبحت تطلب طوعًا الانضمام إلى مستعمراتها. ومع ذلك، فإن الجوهر لم يتغير: فـ أوروبا والولايات المتحدة لا تزال بحاجة إلى الموارد الروسية والأسواق الروسية. فرأس المال الغربي لا يمكنه العمل دون الاستعمار والتوسع، ولا ينبغي نسيان أن روسيا كانت عرضة ومخطط لاستعمارها منذ نحو خمسمائة عام.
وحدة الغرب وصعوبة التكامل الروسي
إن البحث عن أي انقسام داخل الدول الغربية اليوم يبدو عديم الجدوى تمامًا: فالغرب، بلا شك، موحد أكثر من أي وقت مضى. وكذلك، من العبث محاولة الاستناد إلى القيم المرتبطة بالسيادة الوطنية، إذ إن التفويض لصالح هياكل فوق وطنية ليس بالأمر الغريب على الحضارة الأوروبية تاريخيًا. وبقدر ما يمكن القول مع بعض التحفظات، فإن أوروبا اليوم – بالمفهوم الواسع للكلمة – تعود ببساطة إلى جذورها.
أما العودة إلى شعار ” الأمم الأوروبية”، الذي يكثر الحديث عنها من قبل القوى الأوروبية اليمينية، فلن تمنح روسيا ما ترغب فيه: فقد تعاملت عبر تاريخها مع كل من أوروبا المعولمة وأوروبا القائمة على الدول القومية، والسؤال مع أي أوروبا يكون من السهولة التعامل معها؟ هذا السؤال لا يزال مفتوحًا جدًا.
كما يظهر اليوم سخافة الدعوات الأخيرة إلى التكامل الروسي مع اوروبا. فذلك مستحيل من حيث المبدأ، إذ إن روسيا كبيرة ومعقدة جدًا لتندمج بسلاسة في النظام الأوروبي. وجميع المشاريع المماثلة كانت دائمًا تصطدم بنقطة أساسية واحدة: “امنحونا النفط والموارد الأخرى، وسنرى لاحقًا كيف تتصرفون”. وربما بعض الأوروبيين لم يكونوا معارضين لانضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنهم ببساطة لا يعرفون كيفية تحقيق ذلك عمليًا.
كل ما سبق يحدده أحد أكثر أنظمة الإدارة فاعلية وتعقيدًا وخطورة في تاريخ البشرية، والتي تم تطويرها على مدى قرون، ولا تزال تعمل بنجاح حتى يومنا هذا. روسيا والغرب يمكن أن يتعاونا كما حدث عبر القرون، لكنهما محكومان بالصراعات المنتظمة. وقد اعتاد الروس على التعامل مع مثل هذه التحديات. والسؤال اليوم يبقى: هل ستتمكن روسيا الحالية من مواجهتها؟
اللكاتب: د. زياد أسعد منصور – باحث في التاريخ الروسي