قراءات سياسية فكرية استراتيجية

“من القبور المؤجلة، إلى البذور المؤجلة…كيف نعيد للروح نبضها، وللوطن معناه؟؟”

ردّاً على رسالة إحدى طالباتي، التي كانت يوماً ما شعلة حياة وتطلعاً للمستقبل، وكتبت لي اليوم بمرارة، وباللهجة العامية، ما يلي:
«كلو ولاد بولاد
والله الوطن كذبة ركبتنا وركبت أهلنا والحمد لله. أنا بعتبر حالي سافرت عبلد مختلف الثقافة ووقعت عقد عمل معه هالبلد..
ما بقى اتأثر بأي حدث..
أكيد بزعل لكن بالنهاية البلد مو بلدي ووقت كانت بلدي ما حسنت اعمل شي..
بقى هلق وأنا بغير بلدي رح حاول كون منيحة مع الكل.. كرمال حالي مو كرمال حدا
ولغيت كل حساباتي الافتراضية
عم اقرأ هون وهون مو لاني بدي اقرأ لأن بيبعتولي وأنا بطبيعتي فضولية شوي
الانتماء فقدته من زمان
وللأسف فقدت الروح بعد ماما..
يعني حضرتك عم تحاكي موتى..
نحن شواهد مؤجلة والشاهدة هي اللي بتنحط عالقبر.. يعني نحن قبور مؤجلة..»

طالبتي العزيزة :

هذه الكلمات ليست مجرد شكوى عابرة، بل وثيقة جيلٍ كامل طُعن في ظهره. جيلٌ كان يملأ القاعات ضجيجاً بالحياة والحلم، فإذا به اليوم يشعر أنه شاهد قبر. هذه ليست طبيعة هذا الجيل، بل جروح حربٍ هزّت كل ايمانياته ، وقيمه التي تربى عليها ،وجعلت الوطن في نظره كذبة كبيرة، إذ كيف يمكن لهذا الجيل أن يقتنع بمن كان يسمى أبن وطنه وهو يستخدم منابر الجوامع ، ويحمل سلاحه ليرتكب مجازر بحق أهله، ويعدمهم ويصور دون أدنى شعور إنساني وليس وطني، وكيف يمكن لهذا الجيل أن يؤمن بالوطن وهو يسأل عن مذهبه، ودينه عند كل حاجز، ونقطة، ويطرد من عمله لمجرد هذا الانتماء، وغيره من إهانة الكرامة، والذل، والهوان، والجوع، وفقدان الأمل، وهو الذي احتضن أكثر من مليون و نصف من اللاجئين من محافظات أخرى دون تأفف، أو منة، كأهل، وأخوة.
في علم النفس يسمّي هذا بـ«الصدمة الجمعية» (Collective Trauma): حين تنكسر القيم التي أعطت للحياة معناها، فينهار معها الشعور بالانتماء.
فالوطن ليس تراباً فقط، ولا أناشيد ولا شعارات. الوطن هو عقد كرامة وحقوق ومصالح مشتركة. حين يُنتهك هذا العقد تُصاب الروح باليتم. ما تشعرين به يا عزيزتي مشروع ومفهوم، لكنه ليس قدراً أبدياً.
وهذا ليس موتاً… هذا رفضٌ للحياة القديمة
علم النفس الإيجابي يثبت أن الشعور بالموت الداخلي هو في جوهره صرخة رفض: الروح تقول “لا” لما جرى، وتطالب بمعنى جديد. والاعتراف بذلك، كما فعلتِ، هو أول خطوات التعافي.
اكشفي الجرح بدلاً من إنكاره لأن الاعتراف يخفّف التوتر ويبدأ الشفاء.
ابني وطناً صغيراً في قلبك: قيمكِ، صداقاتكِ، مشروعكِ، هي وطن متنقل حتى يعود الوطن الكبير.
انزلي من برج العزلة: الانخراط في نشاط، تطوع، نادٍ أو فن، يعيد لكِ دفء البشر.
حرّكي جسدك ليصحّ عقلك: حتى المشي نصف ساعة يومياً يعيد توازن كيمياء الدماغ ويرفع هرمونات الحياة.
أطلقي هدفاً صغيراً: كل إنجاز بسيط يعيد شعور القدرة ويكسر دائرة العجز.
حتى لو فقدتِ انتماءكِ للدولة، يمكنكِ أن تكوني حارسة القيم التي فقدناها هناك. الوطن الحقيقي ليس جواز السفر ولا الحدود؛ هو الحرية والكرامة التي تختارينها في حياتكِ اليومية. بهذا المعنى، أنتِ تبنين الوطن الجديد قبل أن يولد على الخرائط.
أخيراً أعرف أن ما كتبتهِ هو وجع وليس يأساً فقط. أنتِ لستِ شاهدة قبر، أنتِ بذرة حياة مؤجلة تنتظر أن تنبت. الوطن لم يكن كذبة، بل كان عقداً انكسر. ومن يعرف الجرح يمكن أن يكون هو نفسه من يكتب عقده الجديد.
أنتِ لم تموتي. أنتِ على قيد الحياة، ووعيُكِ لجرحكِ هو أول الطريق للنهوض.

الكاتب:د. بسام أبو عبد الله

اقرأ المزيد
آخر الأخبار