تخيّل أنك تعيش في مكان غير ثابت على متن سفينة صغيرة، رائحة الفيول تسبق القهوة والخبز والبحر. هناك ثلاث غرف صغيرة لا تكفي لخطوتين بها.. الغرفة الكبيرة للنساء وبها حمام، وهذا امتياز. لأن بعض السفن لا تملك حمام… نحن هنا اثنا عشر شخص، وثلاث غرف وطابقان وحمامان.
نغسل ثيابنا بماء البحر، نطبخ بماء البحر، ونقتصد في كل قطرة مياه عذبة. الحياة اليومية هنا درس في الاقتصاد المائي: كل شيء قليل، ومع ذلك نتقاسمه. استيقظت اليوم لسفينة “جوني ام” تغرق: تم اخلائها..
سفينتنا معطلة: اتى متطوعون من سفن أخرى وأصلحوها.
نحن مجتمع عائم، بلا علم واحد، مجتمع صغير، بلا عقود ولا دساتير، نتبادل الطعام والصور والمعلومات… ودوار البحر وحتى الغثيان.
تشاهدون صورنا الجميلة مع البحر، صور التضامن مع غزة ومع القضايا الإنسانية، أعلام فلسطين وأعلام الدول. لكن بعد كل صورة يهتز رأسنا وتكاد معدتنا تنقلب. بعد صورتي الجميلة مع علم لبنان سقطت فورا ونمت … صدقني البطولة في الصور فقط، أما الحياة فتهتز بلا انقطاع.
تخيل أنك تطبخ وتأكل وتشرب وتتحدث وتخطط، وكل ذلك على أرضٍ متأرجحة. جرب أن تدور في مكانك دقائق ثم حاول كتابة بيان سياسي، مقال أو طبخ بطاطا بالبصل. عندها ستفهم معنى الوجود هنا.
هذه السفن مجهزة بأقل الرفاهيات. لسنا في رحلة، ولسنا سياح وهذه ليست كروز فاخرة نحو شواطئ الأحلام.
البارحة اصطدنا سمكتين فابتهجنا كما لو حررنا ميناء.. تنافسنا مع بقية السفن، في المساء طبخت أنا بطاطا بالبصلة، أكلة كنت أحضّرها مع صديقتي في أيام دراسة الدكتوراه، أيام كنا نأكل وننام ونؤجل كل شيء للغد. أرسلت لها صورة الطبق فقالت لي: «البصلة يجب أن تستوي أكثر». لكن الجميع هنا أحبها. هكذا نتقاسم المهمات: أنا وريما نطبخ، هوموت يساعدنا، مليكا وماريانا تنظفان الصحون، باسكال هو طبيب السفينة لديه مناوبات ليلية ايضا لبقية السفن، وكارلوس ومصطفى وليونيل وستفان وماركو يراقبون في الليل ويقودون السفينة لأننا لا نتوقف عن الإبحار حتى في العتمة…
لكن اجمل ما في الأمر أننا لا نعرف الوقت ولا التاريخ وهذا بحد ذاته راحة من عبء التواريخ المؤلمة.
نعيش هنا تجربة بطيئة، ثقيلة. إنها حياة على ظهر سفينة تتأرجح، في أسطول يتأرجح، في عالم يتأرجح. كل شيء هنا صغير، لكنه يُشبه المستقبل الذي نحلم به: مجتمع بلا امتيازات بلا ظلم بلا حدود، يتقاسم الخبز، الصور، والخوف…
في الخارج، الصحف تكتب عنا بأسطر قليلة، كأن حياتنا اليومية لا تستحق السرد. لكن الحقيقة أننا هنا نمثل خريطة مصغرة للإنسانية: نحن بشر عاديون، على سفن عادية، يواجهون حصار غير عادي.
لسنا أبطالا…
نحن كائنات متأرجحة، نحمل الدواء والطحين الى غزة، ونحمل معنا سؤالا أكبر: كيف وصل العالم إلى هذه الدرجة من العجز، بحيث يصبح إرسال كيس طحين إلى مدينة محاصَرة فعلا ثوريا؟
الكاتب: د.لينا طبال