أعلنت “السلطات الانتقالية” اليوم عن منح عقد بناء مطار دمشق الجديد لشركة قطرية، بكلفة تُقدّر بـ4 مليارات دولار، وحسب ما تم إعلانه فإن المشروع سيوفر مليون فرصة عمل سنويا، ويستوعب نحو 30 مليون مسافر سنويا، بينما تحقق الدولة المُنْفِذة منه إيرادات ضخمة على المدى البعيد.
لكن عند استحضار تجربة التخطيط الحقيقية في سوريا خلال الستينيات، وبالرجوع إلى شهادة كبار المخططين في تلك الحقبة يتبيّن أن هذا المشروع يُثار اليوم تحت مظلة مراجعة سطحية، وخالية تقريبا من الشفافية العلمية والتخطيط المؤسسي الصارم.
من سورية 1965 نحو سورية 2025: منهجيّة القرار
في 1965، كانت البنية التحتية للطيران المدني السوري بدائية بالمقارنة مع بيروت، لكن بدلا من اتخاذ قرارات استعجالية، بدأ العمل عبر قرض فرنسي طويل الأجل بشروط شفافة، ومقابل خبرة فنية من شركات فرنسية، وسلسلة لجان وطنية (مالية، هندسية، استخراج موقع، تقدير الركاب…) استمرت سنوات من الدراسات والمراجعة، واختيار نهائي عبر مؤتمر وطني حضره جميع أبرز القادة، بينما كانت القرارات تُتّخذ فعليا من قبل لجان فنية مختصة ومدروسة (عدد اللجان: أكثر من 7)، وبلغت كلفة المشروع آنذاك ما يعادل حوالي 200 مليون دولار بقيمة اليوم، وتم استثماره في تطوير وسائل طيران ذات قيمة عالية لسوريا.
أمّا اليوم، فالأرقام خيالية، لكن العمليات تبدو على نحو معاكس؛ قرارات تُتّخذ خلال أسابيع، دون تنظيم مؤسساتي مستقل، ولا إشراك جهات متعددة، ولا شفافية عملية في تفاصيل التكاليف أو العوائد أو الدراسة الاقتصادية، مع اعتماد شبه كلي على العرض القطري بدون مناقصة علنية.
رقم 30 مليون مسافر سنويا يُشير إلى كثافة عالية مقارنة بالمطار الحالي في دمشق، وحتى مطارات إقليمية صغيرة، فهل بُنيت هذه التقديرات على بيانات حركة الطيران في سورية ومستقبلها؟ أم مجرد تقدير تفاؤلي دون تدقيق؟ ومن أين جاء الرقم مليون وظيفة؟ وهل يشمل وظائف مباشرة، غير مباشرة، أو مؤقتة، أو لطالبي اللجوء؟ لا توجد أي لجنة مختصة تشير إلى تحليل معطيات السكان، السياح، التجارة، الطيران الدولي، وغير ذلك.
غياب التدقيق والتقنين: ماذا عن التمويل الخارجي؟
جرى في 1965 التمويل عبر قرض طويل الأجل ميسّر من الجانب الفرنسي؛ 100 مليون فرنك (ما يعادل اليوم حوالي 200 مليون دولار)، موصولا بشروط تنفيذ شفافة، وتمتع الجهة المانحة بمستوى محدود من النفوذ في قرارات سوريا، دون تأثير مباشر أو سلطة تنفيذية .
أما المشروع الحالي؛ فحُددت دولة وهيئة منفذة بشكل صريح، دون وضوح في مصدر التمويل، ولا في شروط القرض أو الاستثمار، ولا في التزامات الطرف الثاني، وهل تم استشارة خبراء دوليون؟ هل خضع المشروع لتقييم بيئي أو اجتماعي؟ أو حتى دراسة تحليل المخاطر الاقتصادية؟ المعلومات المفقودة تطرح قلقا جوهريا حول مدى مرونة واستدامة المشروع.
الاستعجال والسلطة التنفيذية: هل هناك حاجة ملحّة؟
ما بين عصر اللجنة المختصة والدراسة الدقيقة (1965–1966) وبين عصر اتخاذ القرار عبر “السلطات المؤقتة في الأسابيع الأخيرة” (2025)، هناك تناقض صارخ، فـ”السلطة الانتقالية” التي لم تُنتخَب وفقا لأي عملية ديمقراطية واضحة، تتصرف كأنها حكومة دائمة تمتلك تفويضا شاملا، غير أن منطق الطوارئ الذي يُروَّج له يبدو مختلا، ويُقابل بنوع من التصديق الساذج، حتى في أوساط بعض العاملين في قطاع النقل الجوي.
رئيس هيئة الطيران المدني، عمر الحصري، ظهر في لصورة إلى جانب سيارة رولز رويس، في مشهد بات يُستخدم كرمز لكن لأي شيء؟ هل هو استعراض للقوة والنفوذ؟ أم مؤشر على غياب الحدّ الأدنى من الأخلاق الإدارية؟ للمقارنة، في ستينيات القرن الماضي، رفض أحد أكبر مسؤولي الطيران المدني السوري هدية بسيطة من نوع فولار Hermèsاحتراما لموقعه ومبادئ الخدمة العامة، أما اليوم، فمظاهر الترف تُستخدم كوسائل دعائية، بلا أي صلة بمعايير الكفاءة أو جدوى المشروع الاقتصادية.
مقارنات دول أوروبا الشرقية: دروس لم تُحتذى
وبالعودة إلى تجربة غالبية دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تبنّت مشاريع مطارات ضخمة وأكبر من الحاجة الفعلية في عهد التحولات، ثم اكتشفت بعد سنوات أنها غير ضرورية وأنها بنت تحت سياقات سياسية مؤقتة، دون دراسة طلبات الركاب أو تحليلات اقتصادية واقعية، والنتيجة كانت بنية تحتية مكلفة أنشأتها الحكومات السابقة، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى عبء ثقيل على الدولة والمجتمع بسبب طاقتها التشغيلية الزائدة عن الحاجة.
ماذا نحتاج اليوم؟
سوريا بحاجة إلى ثلاث ركائز أساسية: الشفافية ــ الحكمة ــ النزاهة، بينما المشروع الحالي يُطرح بسرعة استثنائية، وتتحدث عنه جهة تنفيذية اقتُرِحت من خارج التمثيل الشعبي، ورقمه مثير للجدل، وخضوعه لخبراء وشركات دولية مشكوك فيه وهو ليس مشروعًا مُعلنا بصورة كاملة، بل بكلمات ساحرة تشد اهتمام العامة دون أن تبين تفاصيل التحليل، والتمويل، والمسؤوليات، وجدوى الأثر البيئي أو المالي أو الاجتماعي.
إن تنفيذ مشروع بمليارات الدولارات لا يجب، ولا يمكن، أن يكون اختيارا سطحيا أو مفاجئا، فاستمرار دولة منتجة ومستقرة يتطلب قرارات تقنية تابعة لمجالس متخصصة مستقلة، لا قرارات “فخامة” سرعان ما تُتخذ ثم تُعلن.
الإنجاز الحقيقي ليس في سرعة الإعلان، بل في عمق الدراسة، ووضوح البيانات، وتحمل المسؤوليات، أما إنتاج مليون وظيفة، واستيعاب ملايين الركاب، فلا يتحقق بالكلام أو الصور أو عقود شركة قطرية، بل بالإنتاج الحقيقي، والتكلفة المضبوطة، والحكومة المؤسَّسَة محليا التي تُحاسَب أمام مواطنيها.
السؤال الأهم: ماذا علمتنا التجربة؟ وهل قادتنا إلى عقل ديمقراطي منتج، أم إلى محطات متكررة ومكلفة؟
المصدر: سوريا الغد