نعم إنها فلسطين الدولة، هي كذلك في الوجدان والقانون والمنطق، بل هي دولة سابقة في وجودها على نشأة القانون الدولي بمفاهيمه الحديثة، هي دولة عربية أصيلة لا يُنازع بوجودها وإن حجبتها أحداث عابرة، فهي حتماً ستعود وسيزول المحتل الذي أسس بنيانه على شفا جرفٍ هار، ولن تنفعه كل محاولات التهويد ولن تحميه اتفاقيات مبرمة ولا صفقات قرنٍ أو بعض قرن، لأنها بذات القانون الدولي هي اتفاقيات وصفقات باطلة لأنها قائمة على اغتصاب الحق، أو لأنها قائمة على الغلبة، أو على التخويف والإذعان، أو اتفاقيات خيانة أمة، فالاتفاقية وإن أبرمتها جهة رسمية إلا أنها ووفق المفاهيم المتصلة بالقانون الطبيعي هي اتفاقيات تسلل إليها البطلان وأحالها عدماً لتناقضها مع مفاهيم غير قابلة للتغيير ومتصلة بأسس تكوين الدول، وأولها مبدأ حظر الاعتراف بمشروعية اغتصاب أرض، وثانيها حظر الاعتراف بتهجير شعب من أرضه، وهذان المحظوران لا يتقادما ولا يمرّ عليهما زمن.
إنها فلسطين العريقة في تاريخها والراسخة في حضارتها، وهي دولة تحتضن شعباً مقيماً على أرضٍ عربية، وهي لذلك لا تحتاج إلى شهادة أو اعتراف لإقرار واقعها كدولة. بل إن المناقشة في شرعية الدولة الفلسطينية هو نقاش في البديهيات، لأن مشروعية هذه الدولة هي حقيقة بيّنة ساطعة لا تحتاج إلى إثبات.
ولعلّ النقاش على دولة فلسطين وإنما هو على عاصمتها، فالقدس جوهرة المدن ومدينة القداسة، وبيت الرب، وجامعة الديانات والأعراق وبوصلة الأمم وطريق العز، وهي التي كانت ولا زالت قبلة الأحرار ولأجلها اندلعت الانتفاضات ونشأت مقاومات وتتجهز جيوش ليوم تحريرها، وبسببها انعقد مجلس الأمن مراتٍ ومرات واستنفرت دول ودول، فهي بإيجاز “شاغلة العالم”.
هذه فلسطين بعاصمتها القدس، هي دولةٌ لها شعب أصيل يقيم في أرضٍ يرتبط بها بصفة دائمة وراسخة لها جذور في التاريخ، وتجمع هذا الشعب ثقافة واحدة (عاداتٍ ولغةٍ وانتماء) وقدّم الدماء في سبيل هذه الأرض التي لن يخرج منها، أمّا التنظيم فهو من بديهيات الأمور، إذ لا يوجد شعب مقيم في أرضٍ بدون أن يوجد تنظيم طريقة إدارة شؤون الشعب والأرض، فالتنظيم هو من مسلمات التاريخ والجغرافيا والقانون الطبيعي.
إن هذا التكوين كافٍ لإطلاق صفة الدولة على هذا الكيان الاجتماعي، إلا أن ما يعترض اكتمال الاعتراف الدولي بهذا الكيان كدولة، أن القانون الدولي قد حدّد آليات التعامل مع الدولة والانتساب إلى المنظمات الدولية، رابطاً هذا الاعتراف بوجود سلطة مركزية منشأة وفق أحكام دستور يرعى شؤون هذه الدولة.
وحيث أن الأمم المتحدة هي من أسمهت بصورة مباشرة في تأسيس دولة إسرائيل، كانت هذه المنظمة كشريكٍ في المؤامرة متنكرة لفكرة منح الاعتراف بدولة فلسطين ، إلا أنها وإن تعامت بعض الوقت، فإن هذا العمى كانت هي والمجتمع الدولي المصابان به، أما فلسطين فكانت دولة لها من يمثلها من سلطةٍ لها شرعية فلسطينية وعربية وبعض الاعتراف الدولي.
وحيث أني لا أرى فلسطين إلا دولة لها شعبٍ مقاومٍ يرفض التخلي عن أرضه التي هي كل مساحة أرض فلسطين، وسلطة شرعية معيّنة في فترة التصدي والمواجهة، أو منتخبة بعد الإذعان الدولي بأحقية الشعب الفلسطيني بتكوين سلطته وفق دستوره، أو ممدد لها بعد تعذّر إجراء انتخابات جديدة.
وإذ يسعى الفقه الدولي إلى تجاهل هذه الحقائق عن قصد أو غير قصد، ومع قناعتي الدولة الفلسطينية هي حقيقة لا تحتاج إلى إثبات، وإنما مجرد كشف الغطاء وإلقاء الحجة على الجميع أن كفى تلاعباً بمصير الشعوب وكفى تطويعاً لقواعد القانون الدولي لتكون متناسبة مع رغبات الساسة الدوليين.
فالقانون لا يسمو إلا إذا أحسن الفقهاء رسم قواعده ليكون مرآة للحق، وتوقفت محاولات تفسيره ليكون أداة لتبرير الباطل.
العميد د. كميل حبيب
عميد في الجامعة الامريكية في بيروت
المصدر: رأي اليوم