قراءات سياسية فكرية استراتيجية

انتشار الناتو في البلطيق يحفز روسيا على التركيز على تحقيق النصر في اوكرانيا

في اطار التحضيرات للمناورات المشتركة لحلف شمال الأطلسي الناتو في بحر البلطيق، وصل سفينة رصيف النقل البرمائي من فئة سان أنطونيو يو إس إس ميسا فيردي ووحدة المشاة البحرية من القوات الخاصة السادسة والعشرون إلى ريغا، عاصمة لاتفيا يوم 7 أيلول سبتمبر 2023.
واعلن النقيب مارك ديفيس، قائد سفينة يو إس إس ميسا فيردي ان هذه تشكل فرصة عظيمة للقوات الأميركية المشاركة بالمناورات لتبادل الخبرات مع القوات اللاتفية في اطار تميرين الشاحل الشمالي 2023، وهي سلسلة مناورات بحرية متعددة الجنسيات تجرى بقيادة ومشاركة ألمانيا والاتحاد الأوروبي والدول المشاركة في منطقة بحر البلطيق.
واعتبر اللفتنانت كولونيل جوزيف ويز إن مشاة البحرية والبحارة من قيادة برافو متحمسون لإظهار كفاءتهم القتالية العالية. ومن المتوقع ان يشارك في المناورات هذا العام 14 دولة و3200 جندي و30 سفينة وغواصة و15 طائرة مقاتلة. وستكون هذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها فنلندا في المناورات بصفتها عضوا في حلف شمال الأطلسي إضافة الى السويد. وبذلك تكون روسيا هي الدولة الوحيدة المشاطئة لبحر البلطيق وغير المشاركة بالمناورات ما يعني ضمنا ان هذه المناورات تنطلق من فرضية ان روسيا هي العدو الذي يجب مواجهته.

التفوق البحري لصالح الغرب
وتعتبر هذه المناورات تعزيزا للحضور الأطلسي في بحر البلطيق الذي تقع على ضفافه مدينة سانت بيترسبرغ، وهي ثاني اكبر مدينة روسية بعد موسكو وأحد اهم المرافى الروسية التي تشكل نافذة لموسكو على طرق الملاحة البحرية. وبعد انضمام فنلندة الى الناتو فلقد باتت الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرين على فتح جبهة جديدة ضد روسيا لتهديد عمقها.
هذا يعيدنا الى الحرب العالمية الثانية حين اجتاحت المانيا النازية بولندة في العام 1939، ثم بدأت بالتنسيق مع فنلندة سرا ما اثار حفيظة القيادة السوفياتية التي كانت تتحضر للغزو النازي المرتقب بشن حرب ضد فنلندة في شتاء العام 1940 وذلك لتحييد فنلندة عن الصراع المتوقع آنذاك.
واليوم، فإن موسكو المشغولة بدعم الدولة السورية لضمان وصولها الى شرق المتوسط عبر قاعدة طرطوس، والمنغمشة في الحرب في أوكرانيا لضمان وصولها الى البحر الأسود ومنه الى شرق المتوسط ولكي لا تتحول أوكرانيا الى قاعدة لضرب العمق الروسي، تجد نفسها امام جبهة جديدة قريبة من عمقها المتمثل بسانت بيترسبرغ إضافة الى جبهة تمتد الاف الكيلومترات الى شمال مع فنلندة والسويد.
وعلى الرغم من قوة البحرية الروسية فإن التفوق يبقى للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة. ويبلغ حجم الاسطول الروسي نحو 352 سفينة حربية وغواصة. لكن من ضمن هذه السفن هنالك حاملة طائرات واحدة هي الأدميرال كوزنيتسوف. وتتفوق روسيا بالغواصات اذ تمتلك نحو 50 غواصة قادرة على حمل صواريخ بالستية نووية منها عشر تعمل بالطاقة النووية فيما تعمل الغواصات الباقية بالكهرباء والديزل. ومن ضمن السفن الحربية هنالك 15 مدمرة و18 فرقاطة و30 طرادا. وتتميز البحرية الروسية بقوة مشاة بحرية قوية تُعرف باسم مشاة البحرية الروسية أو مشاة البحرية. وتتكون من عدة ألوية وهي مسؤولة بشكل أساسي عن العمليات البرمائية والدفاع الساحلي. في المقابل فإن الولايات المتحدة لوحدها تمتلك نحو 290 سفينة حربية من ضمنها 11 حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية يمكن لكل منها ان تحمل 70 طائرة، إضافة الى 70 غواصة من ضمنها الغواصات القادرة على حمل صواريخ باليستية و70 مدمرة و22 طرادا و10 سفن هجومية برمائية فيما يشكل اجمالي القوات البحرية نحو 330 الف جندي. واذا اضنا القوات البحرية للدول الأعضاء في الناتو فإن التوازن البحري يصبح اميل لصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

الرهان الروسي على النصر في أوكرانيا
من هنا فإن هذا التفوق، مضاف الى قدرة الانتشار الأميركية في مختلف المحيطات نتيجة وجود مئات القواعد العسكرية البرية والبحرية الأميركية حول العالم، قد يفرض على موسكو تجنب مواجهة بحرية والتركيز على التقدم البري لاحداث اختراق في الطوق الغربي الذي تحاول واشنطن فرضه على روسيا. من هنا فإن هذا يعيدنا الى ميدان الصراع الرئيسي وهو أوكرانيا.
ولقد ثبت فشل المخططات الغربية في تحقيق تجاح عسكري ضد القوات الروسية عبر الهجوم الاوكراني المضاد الذي شنته حكومة فلوديمير زيلنسكي مؤخرا. ي المقابل فإن مصادر روسية مقربة من وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو تؤكد ان الحرب في أوكرانيا لا تزال في بداياتها مع توقعات في ان تستمر لسنوات مقبلة. وتسعى موسكو لاحداث تقدم بطيء لكن مضطرد على الأرض لدمج المناطق التي سيطرت عليها في لوغانسك ودونيتسك وزباروجيا وخيروسون في الاتحاد الروسي تمهيدا لضم مناطق أخرى وصولا الى نهر الدنيبر. وفي حال مواصلة زيلنسكي الحرب فإن الهدف الروسي يصبح بالسيطرة على كامل الأراضي الأوكرانية وصولا الى لفوف في الغرب.
في الوقت نفسه فإن الروس يراهنون على استنزاف زيلنسكي لموارده البشرية وهو ما بدأ يظهر جليا بعد الخسائر الكبيرة في الأرواح التي سقطت من الجانب الاوكراني منذ بداية الحرب ما حتم على زيلنسكي الدعوة لتجنيد من تجاوز عمرهم الخمسين عاما مع توقيعه لاتفاقات مع الدول الأوروبية لترحيل الرجال الاوكران الذين هربوا من أوكرانيا لالحاقهم بالخدمة العسكرية.
كذلك يراهن الروس على ارهاق زيلنسكي لموارده وهو ما تجلى في فقدانه لاقاليم غنية بالمعادن والنفط في لوغانسك ودونيتسك من جهة، وفي استنزاه لموارد البلاد المالية والاقتصادية واضطراره لاغراق أوكرانيا بالديون للغرب.
ووفقا لتقرير اعده السياسي الاوكراني المعارض فيكتور مدفيدشوك فلقد ادت الإجراءات التي اتخذتها كييف إلى ارتفاع ديون أوكرانيا التي تضمنها الدولة إلى 132.9 مليار دولار اعتبارًا من 31 تموز يوليو. 2023. إضافة الى ذلك فلقد وصلت أوكرانيا إلى النقطة التي أصبح فيها الاقتراض يمثل أكثر من 47 بالمئة من نفقات ميزانية الدولة. وبات على كل مواطن اوكراني أعباء ديون بواقع نحو 7000 دولار وهذا يعادل أكثر من ثلاث سنوات من الحد الأدنى للأجور في أوكرانيا.
والجدير ذكره أنه بعد 24 شباط فبراير 2022، بلغ تمويل ميزانية أوكرانيا من الدائنين الدوليين 61.802 مليار دولار وهذا جعل أوكرانيا تصبح تحت رحمة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، علما أن جميع المساعدات العسكرية والمالية التي تأتي من الغرب تسجل على انها ديون متوجبة الدفع لاحقا من قبل كييف.

خاتمة

من هنا فإن روسيا ستحاول الا تنجر الى مواجهة في البلطيق وستركز على تسعر المواجهة مع الاميركيين في سورية لاشغالهم هناك في الوقت الذي ستركز فيه على احداث نصر ساحق في أوكرانيا. وعند تحقيق هذا الهدف ستصبح روسيا على مقربة من حليفتها صربيا التي تنتظر بفارغ الصبر التقدم الروسي في أوكرانيا حتى تتحرك هي لاستعادة جزء مما خسرته خلال العقود الثلاثة الماضية بعد انهير الاتحاد لفدرالي اليوغوسلافي. وعندما تتحرك صربيا فإن هذا سيشجع هنغاريا على مزيد من التمايز عن الموقف الغربي تجاه روسيا، علما ان بودابست كانت العاصمة الوحيدة العضو في الناتو التي أبقت على علاقات قوية بروسيا. وفي نفس الوقت فإن روسيا سيمكنها ان تحرك الأقليات الروسية في دول البلطيق وهي استونيا ولاتفيا وليتوانيا لزعزعة الاستقرار في هذه الدول بالتوازي مع تحريك المواطنين الروس في مولدافيا، ومن ثم التحرك لاياء تحالفاتها القديمة في عدد من الدول في شرق أوروبا والبلقان وعلى رأسها بلغاريا.

طبعا هذا يدخل في اطار الاحتمالات وعلينا ان ننتظر ما ستؤول اليه الأمور في الميدان الاوكراني.

اقرأ المزيد
آخر الأخبار