قراءات سياسية فكرية استراتيجية

اغتيال داريا دوغينا يرجح أن تكون القيادة الأوكرانية قد اعتمدت خيار شن أعمال تخريبية تستهدف المصالح الروسية العسكرية والمدنية

تحذيرات ألمانية من نقل الصراع بين موسكو وكييف خارج أوكرانيا

قبل أسابيع قليلة، حذرت مجلة “كومباكت” الألمانية من أن “أفعال الغرب” ستؤدي إلى توسيع رقعة النزاع المسلح إلى خارج أوكرانيا. وفي رأي خبراء المجلة، فإن شحنات الأسلحة التي تقوم الولايات المتحدة بنقلها إلى أوكرانيا ومن ضمنها مدافع “بي سي 30 هيمار” المتطورة، إضافة إلى أسلحة ثقيلة أخرى ستساهم بتسعير النزاع المسلح وفي نشر العنف خارج الأراضي الأوكرانية، وتحديدا داخل الأراضي الروسية، وقد يؤدي إلى تدخل أطراف جديدة في هذا النزاع. وعلى الرغم من وعود الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بعدم استخدام أسلحة ثقيلة ضد الأراضي الروسية، إلا أن الوقائع أفادت باستهدافات متكررة للأراضي الروسية عبر قصف بالصواريخ لمناطق روسية محاذية للحدود مع أوكرانيا.

الأعمال التخريبية، مستوى جديد من المواجهة
لكن ما لم يتوقعه الخبراء الألمان هو أن انتشار الصراع سيأخذ شكل أعمال تخريبية خارج الأراضي الأوكرانية. فمؤخرا سجل دخول مجموعات تخريبية أوكرانية إلى الأراضي الروسية قامت بعدة أعمال تخريبية طالت منشآت مدنية وعسكرية روسية. ففي أواسط شهر آب أغسطس هزت سلسلة انفجارات مناطق في شبه جزيرة القرم الروسية في منطقة مايسكييه قرب مدينة جانكوايت وطالت مستودعا للذخيرة ومولدات للكهرباء تابعة للسكك الحديدية، إضافة إلى انفجارات طالت قاعدة عسكرية روسية.
وكانت القوات الروسية قد أحبطت في أيار الماضي محاولة من قبل خلية تخريبية أوكرانية للتسلل من خاركوف في شرق أوكرانيا إلى المناطق الروسية. وأعلنت القوات الروسية “أنها رصدت مجموعة من المسلحين لا تحمل علامات كانت تتحرك في منطقة غابية وأنها طلبت من المجموعة أن ترمي سلاحها لكنها ردت بإطلاق النار، ما حدا بالقوات الروسية إلى الاشتباك معها وتصفية أفرادها.
وسبق وأحبطت قوات الأمن البيلاروسية محاولة من مجموعات تخريبية أوكرانية بالتسلل إلى الأراضي البيلاروسية وأنها أحبطت المحاولة. هذه تضاف إلى سلسلة محاولات أخرى من قبل الأوكرانيين لإرسال مجموعات تقوم بأعمال تخريبية تستهدف منشآت مدنية وعسكرية داخل الأراضي الروسية.

اغتيال داريا دوغينا

وقد أخذت هذه الأعمال التخريبية منعطفا خطيرا في ليلة السبت الواقع فيه 20 آب أغسطس 2020 عندما سقطت داريا دوغينا (30 عاما)، وهي ابنة المفكر والفيلسوف الروسي الشهير ألكسندر دوغين، ضحية عملية اغتيال عبر تفخيخ سيارتها. ولأول وهلة ظن الجميع أن المستهدف في التفجير كان ألكسندر دوغين وهو الفيلسوف الذي يجاهر بمعارضته لليبرالية والذي يطرح إطارا نظريا مناقضا للفكر الليبرالي عبر دعوته للتمسك بالتراث كنقيض للانغماس في القيم ما بعد الحداثية الليبرالية. وما عزز هذه الفرضية هي أن المفكرين الليبراليين الغربيين ودوائر القرار الغربية قامت على مدى السنوات الماضية بشيطنة دوغين مصورة إياه على أنه المنظر الجديد للفاشية، رغم مناقضة هذا الاتهام للوقائع وأهمها مجاهرة الفيلسوف الروسي بأن فكره يناقض الفكر القومي والفكر العنصري الذي طبع الفكر الغربي المحافظ والليبرالي، وحتى اليساري.
لكن التحقيقات أثبتت أن المستهدفة كانت داريا دوغين بصفتها صحافية روسية ناشطة في مجال مناهضة الامبريالية الغربية ودعم العملية الروسية في أوكرانيا. وقد تبين أن منفذة العملية هي المواطنة الأوكرانية ناتاليا فوفك من مواليد العام 1979 وتعمل لصالح جهاز العمليات الخاصة الأوكرانية. وكانت فوفك قد وصلت إلى موسكو في 23 تموز يوليو برفقة ابنتها صوفيا شبان واستأجرت شقة في المبنى الذي تقيم فيه داريا للقيام بمراقبتها. وقد استخدمت ناتاليا سيارة ميني كوبر قامت بتغيير لوحاتها مرات عدة قبيل تنفيذ الاغتيال. وفي ليلة السبت حضرت أعمال المخيم الذي كانت تقيمه الحركة الأوراسية التي يترأسها دوغين، ويمكن أن تكون قد استغلت الفرصة لزرع العبوة في سيارة داريا لتفجرها أثناء مغادرة المشاركين بعد انتهاء المخيم.

أبعاد اغتيال دوغينا

تكمن خطورة اغتيال داريا في استهداف صحافية تحولت إلى أيقونة وشخصية عامة في روسيا. هذا يدلل أن العمليات التخريبية لم تعد قاصرة على استهداف منشآت عسكرية أو حتى مدنية، بل أن هذا الطرف الأوكراني قد قرر نقل المعركة لاستهداف شخصيات مدنية روسية قد لا تكون مرتبطة مباشرة بالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وفي هذا الإطار يمكن أن نترقب استهداف الاستخبارات الأوكرانية لشخصيات عامة روسية مثل فنانين أو رسامين أو راقصي باليه أو كتاب، كما يمكن أن تستهدف الاستخبارات الأوكرانية منشآت مدنية لايقاع أكبر عدد من الضحايا المدنيين كاستهداف مجمعات تجارية أو مراكز تسوق أو معاهد، الخ.
وتكمن الخطورة أيضا في إمكانية استهداف الاستخبارات الأوكرانية لما تعتبره مصالح روسية في العالم، كاستهداف سفارات وقنصليات ومراكز ثقافية ومؤسسات تجارية وحتى مواطنين روس عاديين. وقد حصلت عدة محاولات اعتداء في عدد من البلدان حول العالم من بينها تهديدات لممثلي البعثات الدبلوماسية كما حصل في هولندا، أو محاولة اعتداء بالسلاح الأبيض على مواطنين روس كما حصل في قبرص وغيرها من الاحداث. وقد لا تقتصر هذه الأعمال على المواطنين الروس بل على كل من يرتبط بعلاقة صداقة مع روسيا أو يتعاطف مع الموقف الروسي من قضية أوكرانيا أو غيرها من القضايا. فعلى سبيل المثال، تلقى عدد من الشخصيات اللبنانية، التي قامت بالتعزية بداريا على صفحة ألكسندر دوغين على فيسبوك، تهديدات بسبب تقديمهم التعازي، علما أن مرتكبة عمل الاغتيال كانت قد عاشت لفترة في لبنان حيث تعيش جالية أوكرانية لا يستهان بها.

أوروبا الغربية ساحة صراع بين أوكرانيا وروسيا؟
وما يزيد من احتمالات الاعتداءات هذه هو أن الدعاية الغربية استطاعت تكوين رأي عام في الغرب والعالم حاضن لفكرة شيطنة روسيا وكل ما هو روسي. وأبلغ دليل على ذلك هو في الحملات ضد الرياضيين والموسيقيين والعلماء والدكاترة والمواطنين الروس، إضافة إلى الحملة ضد الأدب الروسي التي تمثلت في منع تدريس أعمال الأدباء الروس كتولستوي ودوستويفسكي وغوركي وغيرهم في الجامعات الغربية، ومنع حفلات الموسيقى من تأليف الموسيقيين الروس كتشايكوفسكي ورحمانينوف. هذا ساهم في تكوين رأي عام غربي مؤيد لأي عمل يستهدف يرتكب ضد روسيا وأصدقائها. وأبلغ مثال على ذلك هو في التعليقات التي أطلقها مواطنون غربيون والتي تؤيد اغتيال داريا كما تؤيد أعمال إرهابية أخرى ضد المصالح الروسية.
وكما حذر الخبراء في الصحيفة الألمانية “كومباكت”، فإن الصراع في أوكرانيا يمكن أن ينتقل إلى مناطق أخرى في العالم وعلى رأسها أوروبا الغربية. فوفقا لهؤلاء الخبراء فإن كييف أثبتت حتى الآن عدم قدرتها وعدم مصداقيتها في المفاوضات مع الجانب الروسي لانهاء النزاع في أوكرانيا. وما يفاقم الأمر هو أن واشنطن تشجع كييف على عدم التفاوض مع موسكو وعلى الاستمرار في النزاع “حتى آخر أوككراني” كما يعلق خبراء أميركيون وغربيون. بل إن واشنطن تضغط على الدول الأوروبية للعمل مع كييف على تأزيم الوضع مع موسكو عبر مد الأوكران بالسلاح والعتاد وعبر تحويل أراضيهم إلى معبر للمرتزقة الأجانب الذين يودون الذهاب للقتال ضد روسيا في أوكرانيا.
هذا جعل أوروبا في حقيقة الأمر مسرحا خلفيا للأعمال القتالية الجارية في أوكرانيا. ومع تكوين المخابرات الأوكرانية لمجموعات تخريبية تستهدف المصالح الروسية حول العالم، ومع انتشار مئات آلاف اللاجئين الأوكرانيين في مختلف أنحاء العالم، فإن من شأن هذا أن يسهل عمل الاستخبارات الأوكرانية في استهداف المصالح الروسية خارج أوكرانيا. وبنتيجة نقل السلاح الغربي النوعي من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية إلى أوكرانيا من دون أي ضوابط، فإن هنالك خطورة في أن ينتقل هذا السلاح بمباركة من الاستخبارات والقيادة السياسية الأوكرانية إلى أيدي المجموعات التخريبية الآنفة الذكر، ما يثبت صحة فرضية الخبراء الألمان من احتمالية انتقال الصراع إلى خارج الأراضي الأوكرانية وبالدرجة الأولى إلى أوروبا الغربية.

د. جمال واكيم
اسناذ تاريخ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

اقرأ المزيد
آخر الأخبار