قراءات سياسية فكرية استراتيجية

 

اخر الاخبار

لبنان: وطن الشظايا المتناثرة بين الولاءات للخارج وانقسامات الداخل!

لعلّ لبنان، البلد الفريد في هذا العالم، الذي ينقسم فيه حكامه ومسؤولوه، ومواطنوه على أنفسهم، في أحلك الظروف العصيبة التي يشهدها بلدهم، ولا يتوحّدون على موقف وطني جامع حيال أيّ مسألة حساسة للغاية، أو وضع خطير يهدّد وطنهم، أكان سياسياً أو أمنياً أو عسكرياً أو اقتصادياً، أو اجتماعياً!
يبدو دائماً أنّ خيار اللبنانيين، مسؤولين وسياسيين ومواطنين، هو التباين فكراً، وممارسة، ونهجاً، وسلوكاً، حيث يتحكّم بهم العناد، والخصام، والنكايات، وإنْ كان ذلك على حساب مصير وطن، وأمنه وسيادته، واستقراره، ووحدة شعبه ومستقبله.
لقد اعتاد اللبنانيون بقادتهم وزعمائهم، وسياسيّيهم، وأحزابهم عند كلّ أزمة حادة يشهدها لبنان، أن يبحثوا عن الترياق لأزمتهم في الخارج، لأنهم يشعرون في قرارة أنفسهم، أنهم قاصرون وعاجزون على الدوام، لحلّ مشاكلهم بأنفسهم، ليجدوه ويجدوا أنفسهم في أحضان الدول، صغيرها وكبيرها، ما يجعلها تُملي عليهم وينفّذون، تطلب منه ويلبّون، تأمرهم ويطيعون!
هو حال اللبنانيين منذ زمن بعيد، قبل الاقتتال الطائفي المقيت، أعوام 1840، و1842، و 1860، وقبل الاستقلال عام 1943 وبعده وحتى هذا اليوم، لم يتعلّموا من عبر التاريخ، ومن أخطائهم، وسلوكهم الأرعن، ولا من دروس الماصي البعيد والقريب، بل يؤثرون الاستمرار في نهجهم وأدائهم المدمّر لوطنهم، في كلّ مرة يواجهون الأعداء والغزاة لبلدهم.
ألم يقف الأمير بشير الشهابي “المصنّف بالكبير” وجنوده إلى جانب الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا عندما قام باحتلال فلسطين، وسورية، ولبنان؟ وحارب معه ضدّ أبناء وطنه، لإخماد الثورة الشعبية الوطنية التي اندلعت ضدّ الاحتلال المصري، وقيامه بقتل آلاف اللبنانيين، وإلقاء القبض على زعماء ووجهاء دروز وشيعة من المقاومين للاحتلال، وإرسالهم إلى دمشق وتسليمهم إلى سلطة إبراهيم باشا فيها، ليتمّ إعدامهم؟! (كتاب قنصل فرنسا في بيروت بوريه BOURÉE رقم 12 تاريخ 30 أيار/ مايو 1940، إلى رئيس وزراء فرنسا، وزير الخارجية Adolphe THIER
Documents diplomatiques et consulaires. T 6 page 37 Adel Ismail
أليس اللبنانيون هم الوحيدين في العالم الذين رحبوا بالاحتلال أو بالانتداب على بلدهم عام 1920، وأطلقوا أسماء المحتلين والغزاة على شوارع عاصمتهم، من غورو إلى فوش، وجوفر وويغان، وبيتان، واللنبي، وسبيرس، وغيرهم؟!
ألم يتواصل ويتغازل مسؤولون، وسياسيون، وإعلاميون لبنانيون مع الحركة الصهيونية قبل قيام الدولة “الاسرائيلية” وبعدها؟! هل من شعب في العالم عندما تكون أرضه أو جزء منها تحت الاحتلال، ينقسم على نفسه بين مقاوم للاحتلال، ومبرّر وراض بوجوده؟! هل انقسمت الشعوب الأوروبية على نفسها عندما واجهت الاحتلال النازي لبلادها، وهل وجد النازيون من يتعامل معهم من قريب أو بعيد، أو أن يستنجدوا بهم لضرب أبناء جلدتهم؟! ألا ينبغي أثناء الحرب أن يتوحد الشعب بكلّ أطيافه السياسية، وانتماءاته العقائدية، والدينية، والطائفية، لمواجهة عدوه الذي يهدد سيادته وأرضه ووجوده؟!
متى يدرك العديد من اللبنانيين، الذين يراهنون على “السلام” الإسرائيلي، أنّ أطماع العدو الإسرائيلي بلبنان لن تتوقف، وأنّ مصالحه الاستراتيجية القصيرة والبعيدة المدى، تستهدف لبنان أرضاً، وشعباً ووجوداً؟!
إلى كلّ المراهنين على “إسرائيل”، والمهرولين والمندفعين باتجاهها، والمتعاملين معها سراً أو علانية، نقول: إذا كنا نعيش في وطن واحد، ونشكل جسماً واحداً، فإنّ الاحتلال الإسرائيلي مرض خبيث، إنْ فتك بعضو، لا يعني أنّ باقي أعضاء جسم الوطن ستسلم منه. المسألة، مسألة وقت لا أكثر. متى تدرك العقول المتحجرة أنّ “إسرائيل” تعمل لصالحها وليس لصالح اللبنانيّين، عميلاً كان لها أو عدواً، وأنّ الدول الكبرى أيضاً، لا تبحث إلا عن مصالحها، وتعزيز نفوذها، وليس عن مصالح اللبنانيّين الذين تريدهم أن يكونوا في خدمة أهدافها الاستراتيجية، ورهن إشارتها، وخواتم في أصابعها، تحرّكهم وتبدّلهم متى أرادت وشاءت!
متى يدرك اللبنانيون أنّ مصير وطنهم لا يعالَج بالكراهية والنكايات، ولا بالشماتة وتصفية الحسابات، ولا بالأحقاد والضغائن، ولا بتلبية مطالب قوى الهيمنة الكبرى الفاعلة والمؤثرة، والارتماء في أحضانها؟!
ألا يستحقّ دم شهداء لبنان وقفة وفاء صادقة نبيلة تجاههم وتجاه أهاليهم، وشعبهم، تعبّر عن آمالنا وآلامنا جميعاً كشعب لبناني واحد، بدلاً من الإساءة إليهم، وبث السموم يومياً، والترويج للإحباط والاستسلام للعدو، والإذعان له؟! متى يصحو الضمير الإنساني والأخلاقي عند شريحة من اللبنانيّين من كلّ الطوائف دون استثناء، كي يقفوا وقفة عز وكرامة واحدة، تليق بوطن حر، وشعب شريف، مهدّد وطنه، ووحدته، وأمنه، وأرضه على الدوام، ويدافعوا بشراسة عن حقهم وكرامتهم، ووجودهم، بدلاً من الغرق في مستنقع الدولة العظمى، رغبة بسلطة أو سعياً لمنصب، أو طمعاً بامتياز أو بعملة صعبة!
كم كان محقاً ودقيقاً الإنجيلي الأميركي وليام مك لور طومسون الذي مكث في بلادنا لأكثر من 30 سنة يتنقل فيها بين فلسطين ولبنان وسورية، وهو يطلع على أحوال المنطقة، ليصدر كتابه عام 1870: “الأرض والكتاب”، (The Land and The Book) يصف فيه حال لبنان بدقة وموضوعية، ليقول في ما قاله: “في لبنان تعيش مختلف الديانات والطوائف جنباً إلى جنب، وتمارس أفكارها المتناقضة إلى جانب بعضها البعض. لكن السكان لا يتوحدون في مجتمع متجانس واحد، ولا يكنون لبعضهم البعض مشاعر أخوية… لا يوجد رابط اتحاد مشترك بين المواطنين. المجتمع لا يمتلك مكونات متصلة يمكن العمل من خلالها لفائدة المجتمع، بل هو مجموعة من الشظايا المتفرّقة لا نهاية لها… وحدها الروح القدس القادرة على إخراج النظام من هذه الفوضى، وتحويل هذه العناصر المتناقضة إلى سلام وانسجام… لا أظنّ أنّ هناك بلداً في العالم يحتوي على تنوع عرقي ومعيشي متنافر بهذا الشكل، وهذا ما يشكل أكبر عقبة أمام أيّ تحسين دائم لحالة السكان، أو شخصياتهم أو آفاقهم المستقلة. لا يمكنهم أن يشكلوا شعباً موحداً، ولا يمكنهم التوافق على أيّ غرض ديني أو سياسي مهمّ، وبالتالي سيظلون ضعفاء، عاجزين عن حكم أنفسهم، ومعرّضين لغزوات واضطهاد الأجانب. هكذا كانت الحال، وهكذا هي الآن، وسيستمرّ هذا الوضع طويلاً، حيث يظلّ الشعب منقسماً، متجزئاً، ومستعبداً!
كلام طومسون مرّ عليه 155 سنة، ولا يزال ساري المفعول، وأنّ اللبنانيين بكلّ فئاتهم، حكاماً وزعماء وأفراداً، هم هم، لم يتغيّر سلوكهم، ولم يتبدّل تفكيرهم ونهجهم، ولم يكفوا عن الاعتماد على دول الهيمنة الخارجية. إنهم عاجزون دائماً عن تهذيب مفاهيمهم، وعقلياتهم، وعن الخروج من الإطار الطائفي والمناطقي الضيق، والانفتاح على الآخر بالشكل والمضمون، دون حذر أو تردّد، أو خوف، أو ريبة.
ألم يحن الوقت بعد، للبنانيين أن يتحدوا في ما بينهم، كي يطووا صفحة طومسون نهائياً، ويثبتوا للعالم كله أنهم يستحقون وطناً، وهم متحدون حوله، وجديرون به، وعند الاستحقاق يهبّون هبّة وطنية واحدة للدفاع عن سيادته، وأرضه وشعبه ضدّ المحتلين؟! ألم يحن الوقت بعد لبناء دولة المواطنة الحقيقية، التي تصهر مكونات الشعب كافة، تزيل عنه آفات الكراهية، والبغضاء، والتحجّر الفكري، والتقوقع، والريبة والخوف، والحذر من الآخر؟! إنّ الذين امتلكوا السلطة في لبنان على مدى عقود طويلة كان بإمكانهم أن يغيّروا وجه لبنان واللبنانيين نحو الأفضل والأسمى، لكن لم يفعلوا ذلك، لأنّ تغيير النظام الطائفي الحريصين عليه، سينتزع منهم الكثير، ويطال مناصبهم، وامتيازاتهم، ويحدّ من نفوذهم وهذا ما يجعلهم يستميتون في الدفاع عن استمراريتهم وامتيازاتهم، ونفوذهم، واستمرارية النظام الطائفي، إلى أن يأتي منقذ ومخلص تاريخي للبنان، ينتشل اللبنانيين من المستنقع الذي يتخبّطون فيه.
لكن متى سيأتي هذا “المخلص” للبنان؟!

المصدر: البناء

اقرأ المزيد
آخر الأخبار