قراءات سياسية فكرية استراتيجية

 

اخر الاخبار

سوريا بين شرعية الانتصار وعبء الدولة.. خطاب الرئيس الشرع في ملتقى الدوحة

يبدو أن الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع يدرك تماما أن اللحظة السياسية التي يعيشها ليست لحظة نصر، بل لحظة تفاوض على الشرعية.
لقاؤه في الدوحة مع كريستيان أمانبور لم يكن حوارا إعلاميا بقدر ما كان اختبارا دوليا للقبول، فهل يمكن لرجل من صفوف معارضة مسلحة وكان مدرجا على قوائم الإرهاب، أن يصبح رئيسا يعامل كرجل دولة؟

الإجابة التي حاول الشرع أن يقدّمها كانت محسوبة بدقة؛ نعم، إذا تخلت الثورة عن لغتها، وارتدت بدلة الدولة.

شرعية القوة بدل شرعية العقد

الخطاب بأكمله يقوم على فرضية واحدة أن الانتصار العسكري ينتج شرعية سياسية، والشرع لا يتحدث عن تفويض شعبي، ولا عن انتقال دستوري بالمعنى الصارم، بل عن “استعادة الدولة” و”تحرير دمشق”، ويختزل الثورة إلى فعل حسم، لا إلى مشروع تأسيس.

هذه الرؤية تكشف نمطا مألوفا في التحولات العربية بعد الصراع، فالمنتصر يصبح الحاكم، ثم يبدأ بتفسير النصر كدليل على الأحقية الأخلاقية والسياسية، لكن الشرعية التي تولد من البندقية تبقى هشّة، لأنها تستمد وجودها من حدث استثنائي لا من عقد اجتماعي دائم.

ما يتجنّبه الشرع، عن قصد، هو الاعتراف بأن أي شرعية حديثة تحتاج إلى قبول متبادل بين الحاكم والمجتمع، لا مجرد غياب منافسين أقوياء.
في غياب هذا التوازن، تصبح الدولة أداة لإدارة ما تبقّى من الثورة، لا لإغلاقها فعلاً.

لغة الدولة الخالية من الذاكرة

من اللافت أن الشرع يتحدث عن “الاستقرار” و”الثقة الدولية” و”المؤسسات” دون أي إشارة إلى المساءلة أو العدالة الانتقالية، فحين يُسأل عن جرائم حرب أو عن ضحايا من الأقليات، يرد بجملة حاسمة “ورثنا مشكلة كبيرة، كلنا ضحايا”.

بهذا الأسلوب، يفرغ المأساة من فاعليها، ويحوّل الصراع إلى خلل إداري قابل للإصلاح، وهو منطق الدولة الباردة التي تُعامل التاريخ كمشكلة تقنية، لا كجرح أخلاقي، وهذا الإغفال ليس صدفة؛ إنه خيار سياسي، فالاعتراف بالضحايا يعني الاعتراف بالمسؤولية التي تفتح الباب أمام المحاسبة، وهي آخر ما يحتاجه نظام في طور التثبيت.

إنّ خطاب المصالحة هنا ليس جسرا نحو العدالة، بل أداة لإغلاق ملفها، فتبنى “سوريا الجديدة” على قاعدة ناعمة من النسيان، لا على عقد صريح للمصالحة.

التحول من الأيديولوجيا إلى الإدارة

أبرز سمات خطاب الشرع هي تفريغه للسياسة من محتواها الأيديولوجي، فلا ذكر للعروبة والمقاومة، أو حتى للمواجهة، فاللغة جديدة لكنها مألوفة لدى الدبلوماسيين الغربيين، عبر مصطلحات مألوفة لديهم مثل القانون والمؤسسات، والخدمات والاستثمار والكهرباء.

هذا التحوّل ليس لغويا فحسب؛ إنه تحوّل في هوية الدولة، فالنظام الذي يقدّمه الشرع ليس وريث الثورة، بل وريث البيروقراطية السورية القديمة بعد تجديد برمجتها، وسوريا تعاد صياغتها كموقع جغرافي أكثر منها مشروعا تاريخيا.

الواقعية التي يروّج لها الشرع تعني ببساطة: نهاية الطموح الكبير، فسوريا لن تكون بعد اليوم “قلب العروبة النابض”، بل “مركز الاستقرار الإقليمي”، وهو تعريف وظيفي للدولة، ينسجم مع مصالح القوى الإقليمية والدولية، لكنه يفرغ الكيان من أي مشروع ذاتي أو سردية وطنية متماسكة.

السلام بوصفه هوية سياسية

في حديثه عن “إسرائيل”، لا يتحدث الشرع بلغة المواجهة ولا حتى بلغة الحذر التقليدي، بل بلغة هندسية باردة: “نلتزم باتفاق 1974… نرفض العبث به… نبحث عن منطقة آمنة للطرفين”، وهذه العبارات تنتمي إلى قاموس “الأمن الإقليمي” أكثر من انتمائها إلى خطاب عربي معهود.
الافتراض الضمني هنا أن الصراع لم يعد حول الأرض أو العدالة، بل حول إدارة الخطر، فيقدّم الشرع نفسه شريكا في هندسة الاستقرار الإقليمي، لا طرفا في النزاع.
هذا الموقف عمليا من منظور السياسات الواقعية، لكنه يطرح سؤالا جوهريا، فهل يمكن لدولة لم تحسم شرعيتها داخليا أن تتحدث بثقة عن الاستقرار الخارجي؟

إن خطاب “التهدئة الإقليمية” يبدو أحيانا كتعويض عن غياب الاستقرار الوطني.

من الإسلامي إلى المدني: براغماتية مزدوجة

عندما يستشهد الشرع بالإسلام لتبرير مفهوم الديمقراطية عبر “الاختيار والرضا مبدأ في الإسلام منذ 1400 عام” فهو لا يعبّر عن إيمان عقائدي، بل عن وعي تسويقي، وإنه يحاول بناء جسر بين جمهورين متناقضين؛ الإسلاميون في الداخل، والغرب في الخارج.

هذه البراغماتية تكشف محدودية في الرؤية الفكرية، فالمدنية التي تبنى على توازن لغوي بين النص والحداثة تبقى معلقة في الفراغ، لأنها لا تحسم سؤال الهوية ولا تحدد حدود المرجعية، ويبدو أن الشرع لا يريد دولة علمانية ولا دينية، بل دولة يمكن أن يتحدث عنها في واشنطن وأن تقبل في إدلب.
إنها دولة مصمّمة للتفاوض الدائم، لا للحسم المبدئي.

أخلاق النصر ومعايير القوة

حين سألته أمانبور عن تاريخه القتالي، أجاب بأن “الإرهابي هو من يقتل المدنيين”، وهو تعريف بسيط ومريح، لكنه يخفي تحولا خطيرا في المفهوم الأخلاقي للشرعية، فبحسب هذا المنطق، العنف يصبح “مشروعا” طالما كان “منضبطا”.

وفق هذا التصور فالنتيجة تبرر الوسيلة، وهذا يضع الشرع ضمن المدرسة الواقعية التي ترى الأخلاق امتدادا للسياسة، لا قيدا عليها، لكن في عالم ما بعد الحرب، الشرعية الأخلاقية ليست ترفا، فهي شرط أساسي لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
من دونها، يتحول النصر إلى حدث مؤقت، لأن السلطة التي تبرر نفسها بالقوة تحتاج دائما إلى قوة أكبر لتبرير استمرارها.

المؤسسات كبديل عن السياسة

في نهاية الحوار، حين سُئل عن الانتخابات، قال: “لا نربط بناء الدولة بالأشخاص، بل بالمؤسسات القادرة على الاستمرار”.

العبارة تبدو عقلانية، لكنها تكشف عن نزعة بيروقراطية معادية للسياسة، فالمؤسسات، في رؤيته، ليست أدوات لممارسة الإرادة الشعبية، بل آليات لضبطها، وتتحول الدولة من مساحة للمشاركة إلى نظام للتحكم.

إنه تصور قريب من الأنظمة التكنوقراطية التي تؤمن بالكفاءة أكثر من الشرعية، لكن في بلد خرج من عقدين من الصراع والدمار، الحديث عن المؤسسات من دون الحديث عن الثقة هو قفز فوق المعضلة الأساسية:
الثقة لا تبنى بالأنظمة، بل بالاعتراف والإنصاف والمساءلة.

الرهان على الخارج لا الداخل

طوال المقابلة، يتحدث الشرع أكثر عن “العالم” و”المجتمع الدولي” و”الولايات المتحدة” مما يتحدث عن المجتمع السوري ذاته، وخطابه موجه إلى واشنطن، لا إلى دمشق.

إنه يدرك أن الشرعية في العالم العربي لا تولد فقط من الداخل، بل من الاعتراف الخارجي، لكن هذا الإدراك، وإن كان واقعيا، يبقي النظام الجديد في موقع هشّ، والدولة تعتمد على القبول الخارجي أكثر مما تعتمد على التماسك الداخلي محكوم عليها بتأجيل أزماتها لا بحلّها.

خطاب أحمد الشرع يُراد له أن يكون إعلانا عن ولادة سوريا جديدة، لكن ما نسمعه في العمق هو لغة نظام يسعى إلى البقاء أكثر مما يسعى إلى البناء، فهو خطاب استقرار بلا إصلاح، ومصالحة بلا ذاكرة، ومؤسسات بلا سياسة.

سوريا بين الوهم الواقعي ومأزق الشرعية: تحليل خطاب أحمد الشرع

قراءة نقدية في مقابلة الدوحة مع كريستيان أمانبور: من شرعية القوة إلى أخلاق النصر

الرؤية الشاملة:

تحليل الابعاد:

التناقضات الاساسية

شرعية القوة بدل شرعية العقد
الخطاب بأكمله يقوم على فرضية واحدة: الانتصار العسكري ينتج شرعية سياسية. الشرع لا يتحدث عن تفويض شعبي، ولا عن انتقال دستوري بالمعنى الصارم، بل عن “استعادة الدولة” و”تحرير دمشق”، ويختزل الثورة إلى فعل حسم، لا إلى مشروع تأسيس.

هذه الرؤية تكشف نمطاً مألوفاً في التحولات العربية بعد الصراع، فالمنتصر يصبح الحاكم، ثم يبدأ بتفسير النصر كدليل على الأحقية الأخلاقية والسياسية. لكن الشرعية التي تولد من البندقية تبقى هشّة، لأنها تستمد وجودها من حدث استثنائي لا من عقد اجتماعي دائم.

ما يتجنّبه الشرع، عن قصد، هو الاعتراف بأن أي شرعية حديثة تحتاج إلى قبول متبادل بين الحاكم والمجتمع، لا مجرد غياب منافسين أقوياء.

شرعية القوة بدل شرعية العقد
الخطاب يقوم على فرضية أن الانتصار العسكري ينتج شرعية سياسية، مع تجاهل التفويض الشعبي والانتقال الدستوري الصارم.

لغة الدولة الخالية من الذاكرة
يتحدث عن “الاستقرار” و”الثقة الدولية” دون إشارة للمساءلة أو العدالة الانتقالية، مما يفرغ المأساة من فاعليها.

التحول من الأيديولوجيا إلى الإدارة
تفريغ السياسة من محتواها الأيديولوجي (العروبة، المقاومة) لصالح لغة تقنية بيروقراطية مألوفة للدبلوماسية الغربية.

السلام بوصفه هوية سياسية
يتحدث عن إسرائيل بلغة هندسية باردة تنتمي لقاموس “الأمن الإقليمي” لا للخطاب العربي المعهود، مع افتراض أن الصراع تحول إلى إدارة خطر.

البراغماتية المزدوجة
يستخدم الإسلام لتبرير الديمقراطية بطريقة تسويقية لبناء جسر بين جمهورين متناقضين: الإسلاميون في الداخل والغرب في الخارج.

الرهان على الخارج لا الداخل
يتحدث أكثر عن “العالم” و”المجتمع الدولي” مما يتحدث عن المجتمع السوري، مما يجعل النظام معتمدا على القبول الخارجي أكثر من التماسك الداخلي.

الخلاصة: خطاب البقاء لا البناء
خطاب أحمد الشرع يُراد له أن يكون إعلاناً عن ولادة سوريا جديدة، لكن ما نسمعه في العمق هو لغة نظام يسعى إلى البقاء أكثر مما يسعى إلى البناء. فهو خطاب استقرار بلا إصلاح، ومصالحة بلا ذاكرة، ومؤسسات بلا سياسة. الشرعية الهشة المبنية على شرعية القوة تبقى رهينة القبول الخارجي وتأجيل الأزمات الداخلية بدلاً من حلها.

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار