قراءات سياسية فكرية استراتيجية

 

اخر الاخبار

اشتباك جوي عام 1960: تكافؤ القوة بين العرب وإسرائيل بمشاركة طيار سوري

في مطلع ستينيات القرن الماضي، وفي زمن الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت الإقليمين الشمالي والجنوبي (سوريا ومصر)، لم تكن السماء فوق سيناء والحدود الجنوبية لفلسطين سوى سجل صامت لحسابات الردع، أكثر مما كانت مسرحا لمعركة مكتملة الأركان.

فالاشتباك الجوي المحدود الذي وقع عام 1960 بين طائرات MiG-17 التابعة للجمهورية العربية المتحدة وطائرات Super Mystère إسرائيلية بدا في ظاهره حادثا عابرا، لكنه شكل لحظة فارقة في إبراز معادلة التكافؤ العسكري بعد العدوان الثلاثي عام 1956.

لم يكن الهواء فوق رفح أو النقب خاليا من السياسة، فبعد حرب السويس، تعرضت القوة الجوية المصرية لانهيار شبه كامل، وخسرت أجزاء من بنيتها الأساسية، واضطرت لإعادة بناء قدرتها الفنية والقتالية من جديد، وفي تلك المرحلة، بدت “إسرائيل” متفوقة جوا ومحصنة سياسيا، بينما كانت مصر وسوريا معا تتلمسان طريقهما لاستعادة تكافؤ القوة في السماء، ولو بصورة تدريجية وموضعية.

تكافؤ القوة: ليس توازن أرقام بل توازن إرادة

إن تكافؤ القوة لا يعني تطابق عدد الطائرات أو تساوي مدى الصواريخ، بل يعني، كما يعبّر عنه الفكر العسكري بعد الحرب العالمية الثانية، وجود إرادة متبادلة قادرة على فرض ثمن، فالطرفان قادران على تعطيل حركة الخصم أو كشفه أو اعتراضه، حتى لو لم يكن ذلك على نطاق واسع، وهنا تصبح الاشتباكات الجوية المحدودة ذات دلالة استراتيجية أكبر من قدرتها على تغيير جغرافيا الحرب، لأنها تعيد رسم طبيعة السيطرة على الحدود.

في هذا السياق، لا يُقرأ اشتباك 1960 باعتباره “من انتصر على من”، بل إشارة سياسية بأن السماء لم تعد مجالا لصوت واحد، ففي مثل هذه الظروف، كل طلعة جوية تصبح فعلا استباقيا، وكل اعتراض يصبح رسالة ردع، وكل مناورة قصيرة فوق النقب تصبح تعريفا جديدا لمعادلة التكافؤ.

اشتباك مايو 1960: مناورة لا حرب

تروي المصادر الإسرائيلية أن مجموعتين منSuperMystère اعترضتا في أيار 1960 أربع طائراتMiG-17 كانت تحلق باتجاه النقب، وأن طائرة عربية أُسقطت قبل أن تنسحب الطائرات الثلاث إلى سيناء، وعلى الجانب الآخر، تروي مصادر عربية أن أحد طياري الميغ نجح في شباط من ذلك العام في إسقاط مقاتلة إسرائيلية من طراز ميستير، مستخدما مدفعه NR-23.

المغزى هنا ليس في ترجيح رواية على الأخرى، بل في فهم لماذا ظهرت روايتان أصلاً؟ لأن الاشتباك لم يكن يراد له أن يكون معركة حاسمة، بل اختبارا لمعادلة التكافؤ، فأي اختراق للأجواء، أو اعتراض للطلعة، أو مناورة فوق الحدود، كان يحوّل المجال الجوي من “حقل سيطرة أحادية” إلى فضاء مشترك للمخاطرة والقرار.

الطيار السوري المساند: التكافؤ يُصنع في التشكيل قبل الطلقة

وراء الاشتباك الذي وقع عام 1960، توجد رواية نادرا ما تُذكر في الكتب العسكرية لأنها لا تدور حول “الطيار المنفرد”، بل حول التشكيل الجوي الكامل، ففي إحدى الشهادات داخل الدوائر العسكرية، كان أحد طياري الجمهورية العربية المتحدة من الإقليم الشمالي (سوريا) يقوم بدور “المُساند” داخل تشكيل ميغ-17 الذي دخل مجال المواجهة، وظيفته توفير التغطية والمناورة المضادة للطيار الأول، وتأمين المجال القريب أثناء الالتحام، ما يجعل قرار الاشتباك ممكنا وآمنا نسبيا.

هذا الدور، رغم أنه لا يدون عادة كـ”بطولة فردية”، يمثل عمليا نصف معادلة التكافؤ الجوي، فلا إسقاط ناجح من دون تشكيل مُنسق، وفي التحليل الجيوسياسي للاشتباك الجوي، لا قيمة للطلقة الأخيرة إن لم تصنع لها “مسرحية تكتيكية” في الهواء؛ رؤية، وتغطية، وانحياز لحظي داخل الفراغ، فما يفعله الطيار المساند شرط عسكري مسبق لأي قدرة على الاشتباك، فالطيار السوري الذي قام بدور المساندة جزء أصيل من بنية القدرة الجوية، لا مجرد ظل تكتيكي، تماما كما يصبح الاشتباك نفسه عملا جماعيا لا حكاية فردية.

التكافؤ الجوي في اشتباك 1960 لم يُصنع في لحظة الإطلاق، بل في تناغم التشكيل، وفي الثقة المتبادلة بين طيار يشتبك وطيار يحمي، وفي قدرة دولة موحدة على إنتاج سرب قادر على الطيران داخل فراغ معاد، ولو لثوان معدودة.

معادلة التكافؤ: مواجهة بلا حرب شاملة

بعد 1956، لم يكن بمقدور الجمهورية العربية المتحدة أن تفرض سيطرة جوية كاملة، ولم يكن بمقدور “إسرائيل” أن تتعامل مع سيناء والنقب كما لو أنهما مجالا مفتوحا دون تكلفة، فتتجلى معادلة التكافؤ بمنافسة جوية حذرة، واعتراضات دون إسقاطات واسعة، وقدرة متبادلة على تعطيل سماء الخصم ولو رمزيا.

لو كان الاشتباك في فضاء بلا سياسة، لمر كحادثة تدريب، لكنه وقع فوق حدود جرى التفاوض عليها عسكريا أكثر مما جرى ترسيمها دبلوماسيا، وليس من أسقط طائرة الخصم، بل أن أي طرف لم يعد قادر على التحليق دون مراقبة، وأن الطائرات العربية أصبحت الند في معادلة الهواء لا مجرد رد فعل أرضي.

التكافؤ كجغرافيا: حين يُصنع الردع من السرعة لا من النصر

إن مناورة صغيرة فوق الحدود تساوي خطابا سياسيا، فالسيادة الجوية لا تقاس بامتلاك المطار فقط، بل بقدرتك على جعل خصمك يسارع إلى الاعتراض، ويتراجع إن لزم الأمر، وفي عالم ما بعد الاستعمار، لا يترجم الردع إلى “انتصار”، بل إلى قدرة على فرض تكلفة قصيرة ومحدودة.

في نظر “إسرائيل” كان الاحتكاك مع الميغ-17 جرس إنذار، فماذا سيحدث لو توسعت بنية القوات الجوية، وازدادت خبرة الطيارين، وأصبح الاعتراض السياسي واقعا يوميا؟ وفي نظر الجمهورية العربية المتحدة، كانت الطلعة، حتى لو لم تسقط طائرة دليلا على أن السماء لم تعد محتكرة، فكانت تلك المناورة القصيرة بروفة لإعادة توازن الجو قبل أن تصبح سياسة كاملة في العقود اللاحقة.

قوة صغيرة تغيّر فهم الحرب

اشتباك 1960 لا يقرأ بعيون النصر والهزيمة، بل بموازين التكافؤ، حيثطيار سوري ظل خلف الطائرة المشتبكة، يصوغ لها فضاء المناورة ويحمي قرار الإطلاق، وطيار خاطر فوق الحدود، ودولة موحدة قررت أن السماء ليست ساحة نهائية لخصم واحد، فليس هناك انتصار مطلق ولا عجز مطلق، بل حوار جوي بين من يعبر ومن يعترض ومن ينسحب.

أعاد هذا الاشتباك تعريف الصراع العربي–الإسرائيلي بعيدا عن الأسطورة العسكرية وكثافة النار، وأصبح التكافؤ العسكري ليس مطابقة في القوة، بل قدرة على فرض ثمن ولو صغير، والصراع منذ ذلك الحين أصبح أكثر قربا إلى معادلة المخاطرة المتبادلة لا معادلة التفوق المطلق.

في عالم يسعى لسلام بشروط متساوية، مناورة واحدة فوق النقب أعمق دلالة من معركة كاملة.

ملحق زمني مختصر (Chronicle) للحوادث الجوية 1957–1961

1957

بداية اعتراضات MiG-15/17 للطلعات الإسرائيلية فوق سيناء بعد حرب السويس.
لا إسقاطات مؤكدة، لكنها تمثل بداية استعادة تكافؤ الرصد الجوي.
1958

ارتفاع في الطلعات الإسرائيلية داخل النقب ووادي عربة.
اعتراضات قصيرة من الطائرات العربية، وانسحابات متبادلة دون أضرار ظاهرة.
1959

اشتباك فوق خليج العقبة بين ميغ-17 وطائرة استطلاع إسرائيلية.
لا خسائر مؤكدة، لكن ارتفاع واضح في قدرة الاعتراض والمراقبة.
1960

14 شباط (رواية عربية)ميغ-17 تسقط طائرة سوبر ميستير — دون تأكيد إسرائيلي.
27 أيار (رواية إسرائيليةSuper Mystère تعترض أربع ميغ-17 فوق اتجاه بئر السبع وتسقط طائرة واحدة.
عام مفصلي في إعادة إنتاج تكافؤ القدرة الجوية بعد 1956.
1961

اعتراضات متكررة قرب سيناء والنقب دون إسقاطات مؤكدة.
إدخال أوسع لطائرات MiG-19 وتوسّع التدريب الفني والجوي.
سماء المنطقة تتحول من مجال مكشوف لـ”إسرائيل” إلى مجال مراقَب عالي الحساسية.

معادلة التكافؤ في الصراع العربي – الإسرائيلي
قراءة في اشتباك 1960 وتطور القدرات الجوية في فترة الجمهورية العربية المتحدة

فترة الستينيات: 1957-1961

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار