ليس سيمون كرم أوّل من يرفع شعار “الدولة” ليهاجم المقاومة، لكنه بالتأكيد أحد أكثر من بنى على هذا الشعار منطقًا متهافتًا لا يصمد أمام أبسط اختبار تاريخي أو واقعي.
فالمعادلة التي يروّج لها — “السلاح خارج الدولة خطر” — تبدو، في ظاهرها، موقفًا قانونيًا.
لكن كرم لا يطرحها كجزء من رؤية شاملة لبناء دولة قادرة، بل يستخدمها كمطرقة سياسية تُنزل الأحكام على المقاومة وحدها، بينما يعفي الدولة من محاسبة تقصيرها التاريخي، ويبيض صفحة العدو الذي أنتج هذا الواقع.
1. التناقض الأول: حذف الاحتلال من الحكاية
في الخطاب “الكرمي”، الاحتلال الإسرائيلي لا يظهر إلا كتفصيل عابر، كأنه حدث هامشي وليس الشرط المؤسِّس لكل ما تلاه.
يتصرّف كرم وكأن الجنوبيين حملوا السلاح “نزوةً”، لا لأن الدبابات الإسرائيلية كانت على أبواب بيوتهم.
هذه ليست سهوًا سياسيًا.
هذا محو متعمّد للسياق يسمح له بإدانة المقاومة دون أن يفسّر لماذا لم تتولَّ الدولة — التي يدّعي الدفاع عنها — حماية مواطنيها.
2. التناقض الثاني: الدولة التي يدافع عنها كرم… غائبة في كل اللحظات الحاسمة
يدافع كرم عن “احتكار الدولة للسلاح” لكنه يتجاهل أن:
الدولة كانت منهارة منذ 1975
الجيش كان ممنوعًا من الانتشار
الجنوب كان محتلاً
السيادة كانت مستباحة
والحدود مفتوحة أمام جيش العدو
أي أن “احتكار الدولة للسلاح”، في تلك المرحلة، لم يكن سوى احتكار الدولة لعجزها.
ومع ذلك يحمّل كرم المقاومة مسؤولية “الاستقواء” وكأنها اغتصبت صلاحيات دولة كانت مقاتلة ومتمكنة، لا دولة كانت غائبة عن الخرائط نفسها.
3. التناقض الثالث: الاستفادة من نتائج المقاومة وإنكار فعلها
المفارقة الفاقعة أن كرم اليوم، في موقع المفاوضة عبر “الميكانيزم”، يجلس على طاولة محميّة بتوازن الردع الذي أنتجته المقاومة نفسها.
يتعامل مع الإسرائيلي من موقع مختلف تمامًا عن موقع لبنان الضعيف في الثمانينيات والتسعينيات — لكنه لا يعترف بأن هذا التغيير لم تفعله الدولة التي يتغنى بها، بل فعلته تلك المقاومة التي يستهدفها.
إنه أشبه بمن يقف على أرض حرّرتها دماء غيره، ثم يعلن بكل ثقة:
“لم نكن بحاجة لهذه الدماء أساسًا”.
4. التناقض الرابع: سيادة بلا سيادة
يتحدث كرم عن “سيادة لبنان” لكنه يروّج لسيادة منزوعة الأنياب، سيادة تستند إلى:
عواطف
بيانات
ونصوص دستورية جميلة
لكن بلا قوة رادعة، بلا مؤسسات قادرة، وبلا تصور عملي لحماية الحدود.
إنها سيادة صورية تعيش على الورق، لا على الأرض.
سيادة تُشبه الدولة نفسها في لحظات غيابها: موجودة كخطاب، مفقودة كقوة.
5. التناقض الخامس: تصفية الحساب مع المقاومة بدلًا من محاسبة الدولة
كل نقده موجّه إلى المقاومة، لا إلى الدولة التي تركت المقاومة تنشأ أصلًا.
هو لا يطالب:
بمحاسبة البنية الطائفية التي مزّقت الجيش
ولا من كسروا القرار الوطني
ولا من تركوا الجنوب لمصيره
ولا من فتحوا البلد للاحتلال والوصايات
بل يختصر كل شيء بالسؤال الأسهل:
“لماذا يوجد سلاح خارج الدولة؟”
والجواب الذي يرفض كرم الاعتراف به هو:
لأن الدولة خارج الدولة.
6. خلاصة: مقاربة كرم ليست رؤية… بل محاولة لإعادة كتابة التاريخ
سيمون كرم لا يعرض مشروعًا سياديًا.
هو يعرض سرديّة سياسية جاهزة تروجها القوى اليمينية، التي تمثل مصالح البرجوازية الكومبرادورية والتي حكمت البلد منذ الاستقلال، وتسببت بالحرب الاهلية، واستدعت الخارج في كل مرة كانت تشعر ان مصالحها مهددة، وتتجاهل:
الاحتلال
المجازر
الانهيار المؤسسي
الفراغ الأمني
وقصور الدولة البنيوي
ثم يبيعها كـ “رؤية وطنية”.
إن خطابه ليس دفاعًا عن الدولة، بل دفاعًا عن تصوّر معياري لدولة لم توجد يومًا في اللحظات الحاسمة.
هو يطالب المقاومة بأن تتصرف كما لو أن لبنان سويسرا، وكأن إسرائيل لوكسمبورغ.
وبذلك يتحوّل إلى أحد أبرز صنّاع الإنكار السياسي في لبنان:
إنكار الاحتلال، إنكار الحاجة إلى المقاومة، وإنكار مسؤولية الدولة.
المصدر: د. طنوس شلهوب