وقعت اتفاقية كامب دايفد بين جمهورية مصر العربية والكيان الإسرائيلي في أواخر سبعينات القرن الماضي، كان ذلك في سياق إقليمي يتسم باشتداد الصراع العربي الإسرائيلي آنذاك، وبعد حربين مركزيتين عامي 1967 و1973 شاركت فيهما مصر بصورة مباشرة، كانت المنطقة عندها مسرحا لتحالفات عربية واسعة تنظر إلى إسرائيل باعتبارها كيانا غاصبا فوق الأرض الفلسطينية، وبالتالي محاطا بجوار عربي معاد بالكامل، وفي ظل هذا المشهد المشحون كان على إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة، البحث عن اختراق سياسي يمهد لتهدئة جبهة مركزية تشكل خطرا استراتيجيا، فكانت مصر الدولة الأهم التي يمكن من خلالها خلخلة الجبهة العربية الموحدة.
لذلك جاءت الاتفاقية تتويجا لرؤية مشتركة بين الرئيس الأميركي جيمي كارتر ورئيس حكومة الاحتلال مناحيم بيغن، و بعد عمل الدبلوماسي المكوكية المكثف التي قادها هنري كيسنجر فكان من ثمارها سلسلة من اتفاقيات فض الاشتباك عامي 1974 و1975، فهذه الاتفاقيات مهّدت لتسويات أمنية في سيناء رسمت حدود الدور العسكري لكل من مصر وإسرائيل، بما سمح ببناء الثقة تمهيدا للوصول إلى اتفاقية السلام، وقد جعلت واشنطن من كامب دايفد حجر الأساس لبناء نظام أمني في الشرق الأوسط يضمن منع اندلاع حرب عربية إسرائيلية كبرى من جديد.
لكن المقارنة بين ظروف توقيع الاتفاقية وما تشهده المنطقة اليوم تظهر أن البيئة الاستراتيجية تغيرت جذريا، فإسرائيل التي كانت تخشى مواجهة عسكرية جديدة مع مصر، وكانت تحاول تجنب أي حرب واسعة النطاق، أصبحت بعد خمسة عقود قوة إقليمية تتحرك خارج حدود فلسطين التاريخية، وتربط طموحاتها بفكرة إسرائيل الكبرى وبسط نفوذها السياسي والأمني على الإقليم، أما الجوار العربي الذي كان يشكل كتلة عدائية صلبة، فقد تبدد تدريجيا مع انهيار أو إضعاف عدد من الجيوش، وتبدل أولويات دول المنطقة، وصعود تحالفات جديدة اتخذت شكل اتفاقيات تطبيع علني مثل الاتفاقات الإبراهيمية.
لقد أوجدت حرب السنتين بين إسرائيل من جهة وغزة ولبنان وإيران من جهة أخرى واقعا جديدا، خاصة بعد سقوط النظام السوري وانعدام التماسك الجيوسياسي الذي كانت تعتمد عليه القاهرة ودمشق كقطبين مركزيين في موازين القوى والسلام العربي، من هنا باتت إسرائيل تنظر إلى أن القيود العسكرية في كامب دايفد، وخاصة في ملحقها الأمني، أصبحت أقل اتساقا مع متطلبات البيئة الراهنة، فالملحق الأمني صيغ في زمن كانت فيه مصر تمتلك جيشا كبيرا لكن نفوذها الإقليمي ضعيفا، في حين أن إسرائيل كانت تركز على تحصين حدودها لا أكثر، أما اليوم، فالتوسع الإسرائيلي يتطلب، من وجهة نظر تل أبيب، إعادة تعريف الوجود المصري في سيناء بما يسمح لإسرائيل بتأمين عمق استراتيجي أوسع على حدود غزة وسيناء معا.
وقد عبّر السفير الإسرائيلي السابق دايفد جوفرين مؤخرا عن قناعة متنامية في الأوساط الإسرائيلية تفيد بأن الملحق الأمني يتعرض لتآكل تدريجي، وأن مصر تتصرف في سيناء بما يتجاوز القيود المتفق عليها، وهذه اول شكوى إسرائيلية منذ تاريخ التوقيع على الاتفاقية ويرى جوفرين أن تراكم الانتشار العسكري المصري في سيناء يحتاج إلى معالجة عبر تعديل فوري للملحق الأمني، تفاديا لانزلاق الطرفين نحو توتر عسكري، ولذلك باتت إسرائيل تضغط عبر الولايات المتحدة من أجل تقديم تفسير جديد لترتيبات الملحق أو التوصل إلى صيغة معدلة بالكامل تعيد ضبط الخطوط الأمنية بما يتلاءم مع المتغيرات الراهنة.
وتضع إسرائيل سيناء اليوم في قلب الحسابات الجديدة، لأنها المنطقة الأكثر اتصالا بقطاع غزة ولأنها مرشحة نظريا، وفق بعض الطروحات الإسرائيلية، لأن تكون جزءا من سيناريو الترحيل القسري للفلسطينيين، كما ترى إسرائيل أن الجيش المصري اليوم بعد تدمير الجيشين العراقي والسوري هو القوة العربية الأكثر وزنا، وخاصة في سلاح الجو، وهذا يجعل أي إعادة تموضع مصري في سيناء مسألة حساسة للغاية، ولذلك تدرس تل أبيب عدة سيناريوهات تتراوح بين الضغط السياسي لاستيعاب الأزمة، وبين احتمال انهيار الاتفاقية إذا اتسعت الهوامش العسكرية المصرية، أو حتى الذهاب نحو مواجهة محسوبة تفتح الباب لاتفاقية جديدة بنكهة تشبه الاتفاقات الإبراهيمية.
من هنا تبرز أهمية المقارنة بين اتفاقية كامب دايفد والاتفاقات الإبراهيمية، خصوصا من الناحية الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، فكامب دايفد جاءت كاتفاق سلام بعد حرب مباشرة، وكانت بحاجة إلى ضوابط عسكرية مفصلة تحدد عدد الدبابات والمدفعية والطائرات وانتشار القوات في سيناء،ولهذا قسمت سيناء إلى أربع مناطق A,B,C,D مع قيود دقيقة على التسليح وعلى التحرك العسكري في كل منطقة، إضافة إلى قوة المراقبة لقوات متعددة الجنسيات التي بقيت حاضرة كضامن دائم.
أما الاتفاقات الإبراهيمية تتميز على انها ليست نتاج حرب ولا تحمل أي طابع ردعي فهي اتفاقات تطبيع سياسي واقتصادي وتكنولوجي، تقوم على شراكات مفتوحة بلا ملحقات عسكرية ملزمة، وتعكس رؤية أميركية لتشكيل جبهة إقليمية في مواجهة أعداء إسرائيل وابرزها إيران. لذلك فهي توفر لإسرائيل ما لم توفره كامب دايفد: تعاون دفاعي وتكنولوجي متطور، منظومات مراقبة مشتركة، تبادل معلومات استخبارية، وربما في المدى المتوسط بناء فضاء دفاعي جوي إقليمي مشترك.
هذا الفارق يكشف جوهر التحول الذي يجعل إسرائيل تميل إلى تعديل كامب دايفد، فالسلام في كامب دايفد هو سلام بارد ومحدود وله وظيفة تهدف فقط إلى ضبط الحدود وعدم شن حرب مجدداً، بينما الاتفاقات الإبراهيمية تشكل شبكة تحالفات استراتيجية ذات عمق إقليمي ومردود أمني واقتصادي وتكنولوجي، ولذلك يرى صناع القرار في إسرائيل أن العودة للنموذج القديم لم تعد تخدم مصالحهم، وأن الوقت قد حان لصياغة ترتيبات جديدة تتجاوز القيود العسكرية التي وُضعت قبل نصف قرن.
أما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد نصت كامب دايفد على إطار للحكم الذاتي في الضفة وغزة، وإن بقي هذا الإطار حبرا على ورق. أما الاتفاقات الإبراهيمية فقد جاءت منفصلة تماما عن هذا الملف، وحررت التطبيع من أي التزام تجاه الفلسطينيين. وهذا يمثل تحولا كبيرا في معادلة الأرض مقابل السلام نحو نموذج السلام مقابل المصالح المشتركة، وهو ما يجعل إسرائيل اليوم أقل ارتباطا بأي سقف تفاوضي يخص الفلسطينيين.
إن أي تغيير جذري في اتفاقية كامب دايفد، سواء عبر تعديلها أو تآكلها أو انهيارها، سيترك أثرا مباشرا على الأردن، بوصفه الدولة الأكثر حساسية تجاه التحولات في معادلات الأمن المحيطة بفلسطين وسيناء. فالأردن يعتمد منذ عقود على توازنات دقيقة تحفظ حدود الضفة الغربية، وتمنع أي اندفاعة إسرائيلية قد تفرض واقعا جديدا يهدد التركيبة السكانية والسياسية في المملكة، وأي اهتزاز في منظومة كامب دايفد سيعني بالضرورة إعادة توزيع للأدوار الأمنية في جنوب فلسطين وشمال سيناء، وهو ما قد يدفع إسرائيل إلى تشديد قبضتها على الضفة الغربية أو إعادة طرح سيناريوهات الترحيل التي لطالما رفضها الأردن باعتبارها تهديدا مباشرا لاستقراره الوطني.
كما أن نجاح إسرائيل في فرض تعديلات أمنية واسعة على مصر سيقوي شهية المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتوسيع نفوذها الأمني على كامل الجبهة الشرقية، الأمر الذي قد يخلق ضغوطا إضافية على الأردن في ملفي الحدود والمياه، ويرفع منسوب التدخل الإسرائيلي في مناطق محاذية للضفة، وفي حال انزلاق مصر إلى مواجهة حدودية مع إسرائيل فإن الأردن سيجد نفسه أمام فراغ استراتيجي كبير ينكسر فيه أحد أعمدة الاستقرار الإقليمي، مما يدفع تل أبيب إلى إعادة صياغة خريطة الردع الإقليمي من موقع أكثر قوة على حساب الأطراف العربية.
ولذلك تبدو عمان الأكثر خشية من انهيار النموذج القديم الذي قامت عليه الترتيبات الإقليمية منذ أواخر السبعينات، لأن اختفاء التوازن المصري الإسرائيلي القديم سيغير قواعد اللعبة في فلسطين، ويضع الأردن أمام تحديات تتراوح بين الضغوط الديمغرافية المحتملة، وانهيار حدود الوضع القائم في الضفة، والاندفاع الإسرائيلي نحو فرض حلول أحادية قد تمس جوهر الأمن الوطني الأردني، ومن هنا يصبح استقرار كامب دايفد ليس حدثا مصريا إسرائيليا فحسب، بل عنصرا مركزيا في المعادلة التي تحفظ الهامش المتبقي من التوازن حسول الأردن.
الكاتب: محمد محمود شحادة