من بين أكثر الملفات إرباكا في السياسة الخارجية الأمريكية، يبقى الملف السوري ساحة تتقاطع فيها الحسابات الاستراتيجية مع اعتبارات الهوية، والبراغماتية مع الأخلاق، فبعد أكثر من عقد على اندلاع الحرب، تبدو واشنطن وكأنها فقدت سرديتها الكبرى حول سوريا، فهل هي ساحة حرب على الإرهاب؟ أم منصة لتطويق النفوذ الإيراني؟ أم مختبر لتجربة فكرة “التعددية الإقليمية” التي تحاول أمريكا تسويقها بعد فشل مشاريعها في العراق وأفغانستان؟
لكن النقاش الدائر اليوم في العاصمة الأمريكية لا يتعلق فقط بالملف السوري كملف خارجي، بل بعمق التوازنات الداخلية في واشنطن نفسها، فمن بين الكونغرس والبيت الأبيض، وبين لوبيات متضادة تمثل مصالح إقليمية وطائفية وجيوسياسية متشابكة.
تحول في خريطة النفوذ: من اللوبيات التقليدية إلى لوبيات الأقليات
على مدى العقود الماضية، احتكرت لوبيات محددة ممولة من دول كقطر وتركيا وبعض الدوائر الإسلامية الأمريكية؛ التأثير في صياغة المقاربة الأمريكية تجاه سوريا، ونجحت في السنوات الأولى من الحرب في تقديم المعارضة المسلحة بوصفها امتدادا لـ”الثورة الديمقراطية”، رغم أن أغلب أجنحتها كانت تتماهى أيديولوجيا وتنظيميا مع تيارات جهادية.
لكن التحول المفاجئ الذي شهدته واشنطن مؤخرا تمثل في ظهور مجموعات ضغط جديدة تمثل مكونات سورية أساسية، خصوصا من الساحل ووادي النصارى وجنوب البلاد، ورغم ضعف إمكاناتها المادية، بدأت تجد صدى في أروقة الكونغرس، فنجحت للمرة الأولى في إقناع بعض النواب بأن “صوت الأقليات” يجب أن يكون حاضرا في أي صيغة سياسية تخص مستقبل سوريا.
هذا التحول ليس هامشيا، ففي بيئة سياسية أمريكية باتت فيها الهويات الدينية والإثنية تلعب دورا محوريا في التعبئة السياسية، بدأت هذه المكونات السورية ومعها جالياتها في الولايات المتحدة؛ في صياغة خطاب جديد يستند إلى سردية الحماية من التطرف، والاستقرار مقابل الفوضى.
بين الواقعية والمثالية: إدارة واشنطن تبحث عن توازن جديد
الإدارة الأمريكية الحالية، على اختلاف تياراتها البيروقراطية، تبدو عالقة في معادلة صعبة، فهي تدرك أن الانفتاح على الحكومة الجديدة في دمشق التي وصلت إلى السلطة في ظروف انقلابية يطرح إشكاليات قانونية وسياسية تتعلق بالاعتراف والمشروعية.
لكنها في المقابل، ترى في تلك الحكومة فرصة لاحتواء ما تسميه “التمدد الإيراني” وفتح باب تفاوض محتمل مع “إسرائيل” يخفف من التوتر الإقليمي، وموقف واشنطن يبدو أقرب إلى البراغماتية المتوترة منه إلى القناعة الراسخة، فهي مستعدة للتعامل مع السلطة في دمشق بشرطين أساسيين؛ الأول هو وقف مرور السلاح إلى حزب الله عبر الأراضي السورية، والثاني هو التزام واضح بعدم المساس بـ”الأقليات”، خصوصا في المناطق الغربية والجنوبية.
ما تطرحه واشنطن ليس مجرد شروط إنسانية؛ بل تمثل خطوطا حمراء ترتبط بمزاج الناخب الأمريكي نفسه. فبحسب تقديرات الكونغرس، هناك أكثر من 70 مليون إنجيلي وكتلة كبيرة من الكاثوليك واليهود الأمريكيين، لا يمكنهم تحمل صور المذابح الطائفية مجددا على شاشات الأخبار، وفي عام انتخابي حساس، لا يريد البيت الأبيض أي حدث دموي يعيد النقاش الأخلاقي حول “فشل أمريكا في حماية الأقليات”.
الكونغرس يدخل المشهد: لوبيات جديدة تصوغ القرار
اللافت أن الكونغرس، الذي كان لسنوات طويلة تابعا في الملف السوري لتوجهات الإدارة، بدأ يتحول إلى فاعل مستقل، فالنائب براين ماست، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، تحول إلى حجر العثرة أمام محاولات رفع أو تعديل قانون قيصر، بل وأصبح يمثل تيارا داخل المجلس يدعو إلى مقاربة مختلفة تراعي مصالح “الأقليات” السورية وتوازن بين الواقعية السياسية والالتزامات الأخلاقية.
هذا التيار الجديد الذي يضم نحو مئة نائب وفق تقديرات غير رسمية، لا يريد مواجهة مفتوحة مع الإدارة، بل يسعى إلى فتح حوار هادئ معها حول “اتفاق جديد” مع سلطات دمشق؛ يضمن حقوق الأقليات ويعيد توزيع النفوذ داخل سوريا بطريقة لا تعيد إنتاج الحرب الأهلية.
لكن خلف هذا التوجه يقف عامل آخر؛ تعب الشركات الأمريكية والأوروبية من العقوبات، فشركات النفط والإعمار والطاقة ترى في سوريا سوقا محتملة ضخمة، بشرط أن تضمن الإدارة الأمريكية لها حدا أدنى من الاستقرار القانوني والسياسي، وهذا ما يفسر تسارع المفاوضات الخلفية بين ممثلين عن النظام الجديد في دمشق وبعض المؤسسات الاقتصادية الغربية.
الصمت الأمريكي تجاه خطوط التهريب: تسوية مؤقتة أم اختبار للنوايا؟
رغم أن الأجهزة الأمريكية تصلها معلومات حول استمرار “مزعوم” لعمليات تهريب السلاح من العراق وإيران إلى حزب الله عبر سوريا، إلا أن واشنطن تلتزم صمتا تكتيكيا، فالإدارة، المنشغلة بالحرب “الإسرائيلية”–الإيرانية غير المعلنة، لا تريد فتح جبهة جديدة تدفعها إلى تدخل مباشر.
لكن إسرائيل، على عكس واشنطن، لا تشارك هذا الصبر الاستراتيجي، والتقديرات “الإسرائيلية” ترى أن أي تساهل أمريكي في مراقبة هذا الخط سيعيد إنتاج سيناريوهات شبيهة بمرحلة ما قبل السابع من تشرين الأول، ولذلك تبقى احتمالات التصعيد “الإسرائيلي” داخل سوريا قائمة، خصوصا إذا شعر قادة “تل أبيب” بأن “التفاهم الأمريكي–السوري الجديد” يتجاوز الخطوط الأمنية المتفق عليها.
سوريا كاختبار للسياسة الأمريكية الجديدة
في العمق، ما يجري في واشنطن حول سوريا هو اختبار لمفهوم السياسة الخارجية الأمريكي بعد أفغانستان وأوكرانيا، فهل يمكن للولايات المتحدة أن تمارس نفوذها من دون تدخل عسكري مباشر؟ وهل يمكنها هندسة توازنات داخلية في بلد معقد مثل سوريا عبر أدوات ناعمة كالدبلوماسية الاقتصادية ولوبيات “الأقليات”؟
الإجابة لا تزال غامضة، فحتى الآن، لم يقدّم النظام الجديد في دمشق ما يثبت أنه قادر على ضبط الميليشيات الجهادية التي يتكئ عليها عسكريا، وإذا استمرت هذه المجموعات في انتهاكاتها ضد ما يسمى “الأقليات”، أو في تهديد مناطق الجنوب والساحل، فإن واشنطن ستجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في سياسة الانفتاح الحذر.
إن ما يقلق صناع القرار في العاصمة الأمريكية ليس فقط سلوك سلطات دمشق، بل تآكل القدرة الأمريكية على صياغة سردية متماسكة، ففي غياب استراتيجية شاملة، تتحول السياسة السورية في واشنطن إلى شبكة من المبادرات المتناقضة؛ فهناك لوبيات تدافع عن “الأقليات”، وشركات تضغط من أجل الاستثمار، وجماعات ضغط إسلامية تروّج لشرعية السلطة الجديدة، وبيت أبيض يحاول الموازنة بين الجميع دون أن يبدو متواطئا أو متناقضا.
بين الواقعية الأخلاقية والبراغماتية الصرفة
يبدو أن مستقبل الموقف الأمريكي من سوريا سيتوقف على قدرة الأطراف المحلية على تقديم إشارات حسن نية ملموسة، مثل انسحاب المقاتلين الأجانب من الساحل، واحترام متبادل بين الطوائف، ووقف أي قمع ممنهج لـ “الأقليات”.
لكن إن فشل النظام في اتخاذ هذه الخطوات، أو استمر في اللعب على التناقضات الإقليمية بين إسرائيل وإيران وتركيا، فإن الإدارة الأمريكية ستجد نفسها في مأزق أخلاقي وسياسي مزدوج، فهي لا تستطيع دعم نظام متهم بانتهاكات، ولا تريد في الوقت ذاته انهيار سلطة تملأ فراغها قوى جهادية أكثر تطرفا.
في هذا السياق، تبدو عبارة تتردد في أروقة الكونغرس اليوم أكثر من أي وقت مضى: “فرصة لسوريا، وفرصة للأقليات معها”.
المعادلة الجديدة التي يحاول صناع القرار في واشنطن اختبارها هي أن بقاء الدولة السورية، بشكلها أو بآخر، ضروري لاستقرار الإقليم، لكن بقاءها يجب أن يكون مقرونا بتغيير في طبيعتها، نحو صيغة أكثر تعددية وتوازنا.
واشنطن وسوريا بين التاريخ والمستقبل
الجدل الأمريكي حول سوريا اليوم لا يشبه أي نقاش سابق حول الشرق الأوسط، فلم تعد المسألة تتعلق بإسقاط نظام أو دعم معارضة، بل بإعادة تعريف “الشرعية” ذاتها في عالم متغير، فالإدارة الأمريكية التي تعاملت لعقود بمنطق الثواب والعقاب، تجد نفسها اليوم أمام واقع معقد لا يُحل بالضربات الجوية ولا بالعقوبات الاقتصادية، بل بإعادة بناء الثقة في مؤسساتها وقدرتها على قراءة الشرق الأوسط من جديد.
من هذا المنظور، فإن سوريا المرآة الأكثر قسوة للسياسة الأمريكية المعاصرة، فهي تعكس تراجع قدرتها على فرض نموذجها، لكنها أيضا تفتح أمامها فرصة لتجربة مقاربة جديدة أقل مثالية، وأكثر واقعية، لكنها ربما أكثر صدقا مع نفسها، وصورة لغطرستها.
الجدل الأمريكي حول سوريا: بين لوبيات النفوذ وتحوّلات الشرعية
لوبيات التفوذ:

الاولويات الاميركية

اصحاب المصلحة:

ملخص الإشكالية
الملف السوري يمثل أحد أكثر الملفات إرباكاً في السياسة الخارجية الأمريكية، حيث تتداخل فيه الحسابات الاستراتيجية مع اعتبارات الهوية، والبراغماتية مع الأخلاق. بعد أكثر من عقد على الحرب، تبدو واشنطن وكأنها فقدت سرديتها الكبرى حول سوريا.
تحول في خريطة النفوذ: من اللوبيات التقليدية إلى لوبيات الأقليات
اللوبيات التقليدية
ممولة من دول كقطر وتركيا وبعض الدوائر الإسلامية الأمريكية، سيطرت على التأثير في المقاربة الأمريكية تجاه سوريا لسنوات.
لوبيات الأقليات الجديدة
تمثل الأقليات السورية من الساحل ووادي النصارى وجنوب البلاد، ورغم ضعف إمكاناتها المادية، بدأت تجد صدى في أروقة الكونغرس.
تأثير الهوية
في بيئة سياسية أمريكية باتت فيها الهويات الدينية والإثنية تلعب دوراً محورياً، بدأت هذه الأقليات في صياغة خطاب جديد يستند إلى سردية الحماية من التطرف.
بين الواقعية والمثالية: إدارة واشنطن تبحث عن توازن جديد:
الإشكالية القانونية
الإدارة الأمريكية تدرك أن الانفتاح على الحكومة الجديدة في دمشق التي وصلت إلى السلطة في ظروف انقلابية يطرح إشكاليات قانونية وسياسية تتعلق بالاعتراف والمشروعية.
الفرصة البراغماتية
ترى في تلك الحكومة فرصة لاحتواء ما تسميه “التمدد الإيراني” وفتح باب تفاوض محتمل مع “إسرائيل” يخفف من التوتر الإقليمي.
الشروط الأمريكية
واشنطن مستعدة للتعامل مع دمشق بشرطين أساسيين: وقف مرور السلاح إلى حزب الله، والالتزام بعدم المساس بالأقليات في المناطق الغربية والجنوبية.
الكونغرس يدخل المشهد: لوبيات جديدة تصوغ القرار
اللافت أن الكونغرس، الذي كان لسنوات طويلة تابعاً في الملف السوري لتوجهات الإدارة، بدأ يتحول إلى فاعل مستقل. النائب براين ماست، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، تحول إلى حجر العثرة أمام محاولات رفع أو تعديل قانون قيصر.
هذا التيار الجديد الذي يضم نحو مئة نائب وفق تقديرات غير رسمية، لا يريد مواجهة مفتوحة مع الإدارة، بل يسعى إلى فتح حوار هادئ معها حول “اتفاق جديد” مع دمشق.

سوريا كاختبار للسياسة الأمريكية الجديدة
ما يجري في واشنطن حول سوريا هو اختبار لمفهوم السياسة الخارجية الأمريكي بعد أفغانستان وأوكرانيا. هل يمكن للولايات المتحدة أن تمارس نفوذها من دون تدخل عسكري مباشر؟
حتى الآن، لم يقدّم النظام الجديد في دمشق ما يثبت أنه قادر على ضبط الميليشيات الجهادية التي يتكئ عليها عسكريا، وإذا استمرت هذه المجموعات في انتهاكاتها ضد الأقليات، فإن واشنطن ستجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في سياسة الانفتاح الحذر.
التدخل العسكري
هل يمكن للولايات المتحدة ممارسة النفوذ دون تدخل عسكري مباشر بعد تجارب العراق وأفغانستان؟
الأدوات الناعمة
هل يمكن هندسة توازنات داخلية في سوريا عبر أدوات ناعمة كالدبلوماسية الاقتصادية ولوبيات الأقليات؟
السردية المتماسكة
في غياب استراتيجية شاملة، تتحول السياسة السورية في واشنطن إلى شبكة من المبادرات المتناقضة.
الخلاصة: بين الواقعية الأخلاقية والبراغماتية الصرفة
يبدو أن مستقبل الموقف الأمريكي من سوريا سيتوقف على قدرة الأطراف المحلية على تقديم إشارات حسن نية ملموسة، مثل انسحاب المقاتلين الأجانب من الساحل، واحترام متبادل بين الطوائف، ووقف أي قمع ممنهج للأقليات.
الجدل الأمريكي حول سوريا اليوم لا يشبه أي نقاش سابق حول الشرق الأوسط، فلم تعد المسألة تتعلق بإسقاط نظام أو دعم معارضة، بل بإعادة تعريف “الشرعية” ذاتها في عالم متغير.
من هذا المنظور، فإن سوريا المرآة الأكثر قسوة للسياسة الأمريكية المعاصرة، فهي تعكس تراجع قدرتها على فرض نموذجها، لكنها أيضا تفتح أمامها فرصة لتجربة مقاربة جديدة أقل مثالية، وأكثر واقعية.
المصدر: سوريا الغد