أحمد الحلاني
خلال الأسابيع الماضية، برزت موجة من التصريحات والمواقف الإعلامية والسياسية التي تسعى بوضوح إلى تحويل النقاش الداخلي في لبنان من نقاش حول الدولة ومؤسساتها إلى سجال طائفي مباشر. من تصريحات مارسيل غانم حول الضاحية، إلى دعوات فارس سعيد لمحاصرة حزب الله وعزل البيئة الشيعية عن الحياة السياسية، مرورًا بالمقالات اليومية — ومنها مقال جريدة الديار بالأمس بعنوان بين الهرمل وضهر البيدر خط أصفر يعيد تحديد ملامح دولة ينتظرها البقاعيون بفارغ الصبر— يتّضح أنّ ثمّة خطابًا منسّقًا ولو من دون إعلان، وعلى مبدأ أن «اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل من رمى «، تتسابق الأبواق لدفعه إلى الواجهة، وهذا الخطاب، كما يريده مشغّلوه، يهدف إلى تحويل عنوان الأزمة في لبنان من أزمة دولة منهارة ومؤسسات متآكلة، إلى أزمة “طائفة في مواجهة الطوائف الأخرى”.
هذا الخطاب ليس صدفة. فبعد الحرب على لبنان، واستمرار الضربات اليومية على الجنوب والبقاع، ورغم كثافة الضغوط العسكرية والإعلامية والاقتصادية، أظهرت البيئة الشيعية تماسكًا أكبر وتمسّكًا أوضح بخياراتها السياسية، خاصة في ظل غياب أي موقف او دور للدولة اللبنانية في حماية المواطنين. هذا الواقع أسقط رهان الضغط العسكري أو المالي على تفكيك هذه البيئة، ما دفع خصوم حزب الله — داخليًا وخارجيًا — إلى محاولة نقل المواجهة إلى مسار مختلف: تصوير الشيعة ككتلة معزولة في مواجهة بقية اللبنانيين. هنا يبدأ الاستثمار في عبارات مثل “تحرير القرار اللبناني”، و“كسر احتكار الطائفة”، و“استعادة الدولة من الهيمنة الشيعية”، في محاولة لجعل المعركة المقبلة، ولا سيما مع اقتراب انتخابات أيار، معركة وجودية بين طائفة واحدة من جهة وجميع الطوائف الأخرى من جهة مقابلة.
التحضير لهذه الصورة يتم عبر ثلاث أدوات تعمل بالتوازي: تضخيم أي رأي معارض داخل البيئة الشيعية ولو كان هامشيًا، إبراز مواقف سياسية تُصوّر حزب الله كأنه خطر على الطوائف الأخرى، واتخاذ إجراءات اقتصادية واجتماعية — مثل وقف التعامل مع مؤسسة قرض الحسن — تعمّق شعور البيئة الشيعية بأنها مستهدفة في معيشتها اليومية، لا فقط في مشروعها السياسي. هكذا يُراد للمعركة أن تُصاغ: “الشيعة في ميلة، وباقي لبنان في الميلة الثانية”.
في المقابل، يبدو الثنائي الشيعي وحزب الله تحديدا مهدّدًا بالانجرار إلى هذا الملعب ولو من باب الدفاع. فالتركيز على حماية “المقاعد الشيعية” قد يُفهم كأنه تكريس لخطاب الطوائف نفسه الذي يعمل الخارج على بنائه. والمشكلة هنا ليست في الدفاع عن التمثيل، بل في الشكل الذي تُدار به المعركة: فإذا بدت المواجهة كأنها صراع طائفي على مقاعد، فإن ذلك يخدم الرواية الأميركية والإسرائيلية التي تريد سحب البعد الوطني من مشروع المقاومة وحصره داخل حدود طائفة واحدة.
المعركة اليوم تتطلّب قلب الصورة لا تأكيدها. فإذا قُدّمت انتخابات أيار على أنها اختبار بين الشيعة وبقية الطوائف، تكون اللعبة قد رست على قواعد كتبها الأميركيون وأتباعهم. أمّا إذا أعيد تأطيرها على أنها معركة بين مشروع دولة وطنية ذات قرار مستقل ومشروع آخر مرتهن للخارج، عندها فقط تُستعاد المبادرة وتُحبط محاولة تصوير الشيعة كأنهم “خصم الدولة”.
والنصائح التي تصل إلى الثنائي مفادها انه يجب انتزاع المعركة من يد من يسعى إلى تحويلها طائفية، وإعادتها إلى مكانها الطبيعي — معركة وطنية حول مستقبل لبنان، لا حول حصص طوائفه. فالخارج لا يريد إضعاف الثنائي فحسب، بل يريد تفكيك شرعية مشروعه الوطني. وأي انجرار إلى منطق الطوائف لن يؤدّي إلا إلى عزل بيئة بكاملها، فيما تبقى المعركة الأساسية معلّقة: دولة بقرار مستقل، أو دولة تُدار من الخارج. كل ما عدا ذلك تفاصيل تُستهلك في الطريق.