قراءات سياسية فكرية استراتيجية

 

اخر الاخبار

واشنطن ودمشق: تحولات العلاقة بين الصراع والتحالف في الشرق الأوسط الجديد

في مشهد يحمل أكثر من دلالة رمزية، يدخل الرئيس السوري الانتقالي إلى البيت الأبيض لأول في تاريخ سوريا، في لحظة يمكن وصفها بأنها مفصلية في تاريخ العلاقات السورية – الأمريكية، بل وفي إعادة تعريف موقع سوريا داخل الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط.

الزيارة، بغضّ النظر عن مضمون ملفاتها أو نتائجها المباشرة، تشي بتحولٍ أعمق من مجرد تبدّل في الآليات الدبلوماسية، فهي بداية لمرحلة جديدة يُعاد فيها تشكيل “الهوية السياسية” لسوريا وعلاقاتها بالعالم، في زمنٍ تتبدّل فيه خرائط التحالفات والخصومات على السواء.

منذ استقلال سوريا في منتصف القرن العشرين، شكّلت الولايات المتحدة بالنسبة للنخب السورية فضاء محفوفا بالمخاطر السياسية، فالتناقضات الإقليمية التي رافقت الحرب الباردة جعلت من واشنطن خصما طبيعيا لكل مشروع عربي أو سوري يرفع شعار الاستقلالية أو المقاومة، غير أن الصورة الراهنة تختلف جذريا، فواشنطن تتعامل مع دمشق من منظر إعادة رسم المنطقة بالكامل، بعد أن تخلصت من عدو تقليدي يتمثل في النظام السوري السابق، وتراهن على هندسة توازنات أمنية جديدة تتجاوز الثنائية التقليدية بين “الحليف” و”الخصم”.

من جنيف إلى واشنطن: نهاية عصر الصراع العربي – الإسرائيلي

في العقود السابقة، كان اللقاء السوري – الأمريكي يدور دائما حول “الجولان والصراع العربي – الإسرائيلي، ومنذ مفاوضات عام 1974 التي أفضت لاتفاقية فض الاشتباك بين سوريا و”إسرائيل” إلى مؤتمر مدريد في أوائل التسعينيات، كانت سوريا أحد الأعمدة المركزية في معادلة “الحرب أو السلام” في المشرق العربي، أما اليوم، فإن اللقاءات التي تجري في واشنطن لم تعد تتناول تلك القضايا، بل تتركز حول شرعية الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، وموقع دمشق في ترتيبات “مكافحة الإرهاب” الإقليمية.

الموضوع الذي شكّل محور السياسة الخارجية السورية منذ الاستقلال، أي الصراع مع “إسرائيل”، خرج من دائرة الفعل السياسي الدولي، وانتهت تلك الحقبة التي كانت فيها كل خطوة في دمشق تُقاس بمدى قربها أو بعدها عن جبهة المواجهة مع “تل أبيب”، فالتاريخ تحرّك، والشرق الأوسط الذي وُلد من رحم صراع 1973 لم يعد قائما.

سلام بلا سلام.. ونظام إقليمي بلا سيادة مطلقة

جرى “شطب” ملفين رئيسيين من معادلات الأمن الإقليمي التي حكمت المنطقة منذ نصف قرن، الأول نوعية العلاقة مع “إسرائيل”، فزيارة وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع إلى واشنطن ومباحثات “شيبوردز تاون” في التسعينيات كانت ترمز إلى مرحلة “سلام ممكن” بشروط سورية، أما اليوم، فالحديث عن السلام لم يعد مطروحا حتى كمفهوم؛ وحلّت مكانه تفاهمات أمنية واقتصادية سائلة، لا تقوم على اتفاقات رسمية بل على شبكة مصالح متقاطعة.

أما الملف الثاني فهو مفهوم “السيادة الوطنية” ذاته، فواشنطن التي أمضت عقودا تراقب سلوك الأنظمة أو تسعى لتغييره، لم تعد ترى في هذه المقاربة ما يخدم مصالحها، وانتهى عصر “تغيير السلوك” أو “الهندسة السياسية”، لتحل محله رؤية إدارة المناطق لا إخضاعها، وضبط الفوضى لا بناء الدول، وفي هذا الإطار، أصبحت سوريا التي كانت آخر دولة تصمد خارج منطق الهيمنة الأمريكية المباشرة جزءا من معادلة أمن إقليمي يقوم على التوازن النسبي لا على السيادة المطلقة.

دمشق كعقدة جغرافية في شبكة التوازنات الجديدة

من منظور واشنطن، لم تعد دمشق خصما يجب احتواؤه أو إسقاطه، فهي كعقدة جغرافية – سياسية تحتاجها إدارة الرئيس ترامب لإعادة هندسة الشرق الأوسط، فالموقع السوري، الممتد من المتوسط إلى تخوم العراق وتركيا والأردن، جعل من البلاد محورا لا يمكن فصله عن تدفقات الطاقة واللاجئين والتجارة غير الشرعية والسلاح، وعن باقي “ديناميات السوق الدولي” التي تحدد سياسات الأمن والاقتصاد في المنطقة.

تتعامل واشنطن مع سلطة دمشق كجزء من “شبكة استقرار” وليست كدولة مستقلة بالمعنى الكلاسيكي، فهي إحدى النقاط التي يُعاد عبرها توزيع النفوذ، وضبط إيقاع الصراعات الممتدة من شرق الفرات إلى سواحل اللاذقية، وتحولت العلاقة الأمريكية – السورية من نزاع حول المبادئ إلى تفاوض على إدارة الفوضى.

الشرق الأوسط الجديد: استقرار بلا يقين

إن ما يجري اليوم لا يمكن فهمه بمعزل عن التحولات الكبرى في النظام الدولي، فواشنطن التي كانت تُعرّف مصالحها في الشرق الأوسط على أساس حماية “إسرائيل” وضمان تدفق النفط، باتت تنظر إلى المنطقة من زاوية منع انهيارها الكامل، وتحويل ساحات الصراع المزمنة إلى مناطق “تجميد” مؤقتة تمنع ولادة فوضى جديدة؟

سوريا في هذا التصور ليست لاعبا مركزيا، لكنها “اختبار” لقدرة النظام الدولي على إنتاج شرق أوسط جديد بلا حروب كبرى، ولكن أيضا بلا يقين سياسي، وهي نموذج مصغّر عن التناقضات التي يعيشها العالم بعد الحرب الأوكرانية التي شهدت تراجع مفهوم القوة المهيمنة، وصعود التوازنات المرنة بين قوى متوسطة، وانتقال الصراع من الأيديولوجيا إلى الاقتصاد والتكنولوجيا والطاقة.

دمشق أمام سؤال الدور والمستقبل

يبقى السؤال الجوهري عن الدور الذي يمكن أن تلعبه سوريا في هذه المرحلة، فبعد انكفاء مشروع “المقاومة”، لم يتبلور بعد بديل وطني أو إقليمي قادر على إعادة تعريف الهوية السياسية للدولة السورية، وتتقاطع اليوم على الأرض السورية مصالح رباعية: أمريكية تبحث عن أمن مستقر، وروسية تطمح إلى تثبيت نفوذها العسكري، و”إسرائيلية” ترى في سوريا حلقة من مشروع نفوذ أوسع، وتركية تضمن حديقتها الخلفية ومخرج لأزمتها الإقتصادية وبين هذه القوى، تتحول دمشق إلى هامش مناورة وورقة تفاوض في لعبة الكبار.

الواقع أن واشنطن تدرك حدود قدرتها على إعادة تشكيل سوريا، لكنها تراهن على دمجها التدريجي في منظومة إقليمية أوسع، تشبه إلى حد كبير مفهوم “الاستقرار الموجّه” الذي تبنّته في آسيا الوسطى بعد الحرب الباردة، من خلال تثبيت استقرار قائم على ضبط الفاعلين المحليين دون تغيير أنظمتهم، وعلى إدارة التناقضات لا حلها.

بين الماضي والمستقبل: من سياسة العداء إلى سياسة الهندسة

اللقاء في البيت الأبيض ليس مجرد حدث بروتوكولي، بل إعلان غير رسمي عن نهاية مرحلة وبداية أخرى؛ مرحلة تُدار فيها العلاقات الدولية ليس على أساس التحالفات، بل وفق منطق التفاهمات المؤقتة، فواشنطن لم تعد تبحث عن شركاء دائمين في الشرق الأوسط، بل عن نقاط ارتكاز مؤقتة في عالم سريع التبدّل.

أما السلطات في دمشق، فهي تدخل هذه المرحلة وهي تجهل الإرثٍ الثقيل من الحروب والعقوبات والعزلة، لكن قدرتها على تحويل سوريا من موقع “الرفض” إلى موقع “المرونة” سيحدد إلى أي مدى يمكن أن تكون طرفا فاعلاً في المعادلة الجديدة، لا مجرد مساحة عبور بين مصالح الآخرين.

لا يمكن قراءة التحرك الأمريكي تجاه سوريا إلا بوصفه جزءا من إعادة توزيع النفوذ العالمي بعد عقد من الاضطرابات، فالعالم، كما يراه صانع القرار الأمريكي ليس ساحة صراع بين الخير والشر، بل شبكة معقدة من المصالح المتداخلة، وسوريا، في هذا العالم الجديد، ليست قضية “يجب حلها” بل عقدة “يجب إدارتها”.

دخول الرئيس السوري الانتقالي إلى البيت الأبيض لا يمثل فقط لحظة رمزية في مسار العلاقات الثنائية، بل يعكس تحوّلا في فلسفة السياسة الدولية ذاتها من الهيمنة إلى التنسيق، ومن الصراع إلى التفاهم المرحلي، ومن منطق القطيعة إلى منطق الاتصال المستمر، وفي قلب هذه التحولات، تبقى دمشق، كما كانت دائما، مرآة تعكس مآزق الشرق الأوسط ومفارقاته، فهناك الاستقلال الذي لا يكتمل، والسيادة التي تتبدّل، والهوية التي تعيد تعريف نفسها في كل مرحلة من مراحل التاريخ.

تطور العلاقات السورية الأمريكية: من صراع المحاور إلى هندسة التوازنات

العلاقات الثتائية

أولويات السياسة الاميركية

مفهوم السيادة

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار