قرار مجلس الأمن الدولي رفع اسم الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، ووزير داخليته أنس خطاب، من قوائم العقوبات المرتبطة بالإرهاب، جاء ضمن المنظومة التي تعمل أصلاً تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. القرار بدا لدى بعض جمهور السلطة الانتقالية “انتصاراً سياسياً” و”اعترافاً دولياً كاملاً”، بينما هو في جوهره خطوة قانونية–سياسية دقيقة، وظيفتها إزالة العقبة الإجرائية التي تمنع التعامل الرسمي مع الرئيس الانتقالي وحكومته، وتهيئة الأرضية لزيارة الشرع إلى واشنطن، واستقباله رسمياً من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هذا القرار لا يمنح صكّ غفران، ولا يفتح صفحة بيضاء جديدة، ولا يعيد كتابة تاريخ أحد، بل يحدد مسؤوليات واضحة، ويضع السلطة الانتقالية تحت اختبار دولي صارم. الفصل السابع ما يزال حاضراً، وآليات المحاسبة ما تزال فعالة، والالتزامات أكبر من أي قدرة على تحويلها إلى مهرجانات تهليل. نحن أمام انتقال من زمن الشعارات إلى زمن الأفعال، ومن زمن الصخب إلى زمن التقييم الحقيقي.
أولا”- القرار صدر تحت الفصل السابع لأن قوائم 1267/1989/2253 قائمة أصلاً بموجبه. هذا يعني أن إزالة العقوبات الفردية لا تلغي الإطار القانوني الذي يفرض على سورية الالتزام بقرارات مكافحة الإرهاب. الفصل السابع يُلزم الدول، ولا يترك لها باب الاجتهاد. ما رُفع هو التدابير الفردية (حظر السفر، وتجميد الأصول)، أما التزامات الدولة فهي باقية، ومساءلتها مستمرة، وإمكانية إعادة فرض العقوبات قائمة خلال جلسة واحدة للجنة المختصة في حال حدوث خرق.
ثانيا”- كانت هناك حاجة أمريكية مباشرة للاستعجال بتمرير القرار، تمهيداً للزيارة المرتقبة التي سيقوم بها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى واشنطن، واستقباله من الرئيس ترامب يوم الاثنين العاشر من الشهر الحالي. الولايات المتحدة لا يمكن أن تستضيف رئيس دولة انتقالية ما يزال أسمه على قوائم الإرهاب، ثم تطلب منه توقيع ترتيبات أمنية، والتعاون في ملفات حساسة. واشنطن تريد شريكاً عملياً في ملف مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، ورصد التمويل، وتنفيذ ترتيبات ما بعد النزاع، وتعتبر الشرع اليوم الفاعل المحلي القادر على ذلك ضمن إطار مؤسساتي. لذلك، رفعت وزارة الخارجية الأمريكية توصياتها بأن القرار “ضرورة عملياتية” وليست “مكافأة سياسية”، وأكدت أن الهدف هو فتح مسار تعاون فعّال، مع الإبقاء على أدوات الضغط في حال فشل الالتزامات. ما تريده واشنطن واضح: سلطة انتقالية منضبطة، قابلة للتعاون، ملتزمة بالاتفاقات، وتُحاسَب عند الانحراف.
ثالثا”- الصين وافقت على تمرير القرار بعد اشتراط ضمانات واضحة. بكين أصرت على أن رفع الاسمين إجراء فردي لا يحمل دلالة سياسية بشأن الماضي، ولا يشكل سابقة، ولا يُستخدم كأداة لتبييض جماعات أخرى. كما اشترطت تضمين صيغة تتيح إعادة إدراج الاسمين فوراً إذا حدث أي خرق للالتزامات الأمنية والدولية. الصين أرادت قراراً وظيفياً، محصوراً في إلغاء العقوبة الفردية، دون منح أي قيمة سياسية إضافية للمرحلة السابقة أو الحالية. بكلام آخر: بكين سمحت بمرور القرار لكنها أبقت باب المحاسبة مفتوحاً على مصراعيه، وقال مندوبها في مجلس الأمن أن مبررات القرار سياسية بحتة لمصلحة الولايات المتحدة !!!ولذلك فرضت ضوابطها خلال المفاوضات خلف الكواليس ، ولم تستخدم الفيتو، لكنها تحفظت ، وهذا موقف أيضا” بحد ذاته.
رابعا”- رفع الاسمين يسهل الحركة الدبلوماسية للرئيس الانتقالي ووزير داخليته، ويُمكّن الحكومة من التفاعل الكامل مع المنظمات الدولية، لكنه لا يشكل حصانة سياسية أو قانونية. الفصل السابع يبقى الإطار الناظم، وأي إخلال بالالتزامات قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر، وربما أبعد.
خامسا”- انضمام سورية بقيادة الشرع للتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب تحميلٌ لمسؤوليات واضحة: تبادل معلومات استخباراتية، ضبط الحدود، تجفيف التمويل، التعامل مع المقاتلين الأجانب، السماح بمراقبة تنفيذ الالتزامات، وتقديم تقارير دورية. هذه الالتزامات ليست توصيات، بل بنود عقد دولي نافذ. وأي تقصير فيها يُعد إخلالا” قد يؤدي إلى إعادة إدراج الأسماء، وتجميد التعاون، وفقدان الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية، مع الانتباه إلى أن المقصود بمفهوم التعاون في مكافحة الإرهاب ليس فقط داعش، والقاعدة، ومشتقاتها بل يجب أن تكون العين مفتوحة على لبنان، والعراق حيث تصنف الولايات المتحدة كل حركات المقاومة على أنها تنظيمات إرهابية!!!!
سادسا”- في حال فشل الشرع في تنفيذ التزامات الاتفاقات الأمنية والتحالف الدولي، فالعواقب محددة مسبقاً: إعادة إدراج اسمه واسم وزير داخليته على قوائم الإرهاب؛ تعليق الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية؛ وقف الدعم الأمني والمالي؛ فتح باب ترتيبات سياسية بديلة؛ وربما فرض تدابير إضافية بموجب الفصل السابع. الفشل هنا لا يعني خيبة سياسية، بل انهيار تعاقد دولي.
سابعا”- الخطر الداخلي الأعمق يأتي من الإرث العقائدي والمقاتلين الأجانب، والمناصرين السابقين الذين بايعوا الشرع على مشروع مختلف جذرياً عما يمثله اليوم كرئيس انتقالي. بعض هؤلاء قد يرون أن الشرع “نقض البيعة”، وأن التحول السياسي خيانة لمقولات سابقة. هذا الاضطراب إن لم يُعالج بحزم واحتواء ذكي، قد يتحول إلى تهديد أمني يستغله الخصوم الإقليميون والدوليون للتشكيك في قدرة الحكومة الانتقالية على فرض الاستقرار. والانفلات في هذا الملف لن يُقرأ كصراع داخلي فقط، بل كإخلال بالالتزامات الدولية.
ثامنا”- على جمهور الشرع أن يفهم أن زمن الشعارات والطبول قد انتهى. لا “لبت لبت”، ولا فزعات، ولا خطابات تعبئة طائفية، ولا جوامع تدعو للنفير ضد أبناء البلد، ولا تقسيم الناس إلى “بني أمية” و”بني سمية”، أي نحن و هم!!!. هذه اللغة التي صنعت الكراهية والفوقية يجب أن تُدفن في حاوية النسيان . سورية الجديدة لا تُبنى بهذا الصراخ، بل تُبنى بالعدالة، والمحاسبة، واحترام كرامة كل السوريين. من ارتكب، أو حرّض، أو شارك في المذابح في الساحل أو السويداء يجب أن يُحاسَب، مهما كان موقعه، ومهما كانت شعاراته. تكرار هذا الخطاب اليوم يعني صداماً مباشراً مع الفصل السابع، لا مع الخصوم المحليين فقط. التخلص من النفسية المريضة التي قدّست الحاكم وحقّرت المواطن هو شرط لبناء وطن، لا لتزيين سلطة. الوطن أكبر من أي رجل، ولا قدسية لحاكم بعد الآن، بل مساءلة ومتابعة من السوريين جميعاً، وعلى رأسها قوى المعارضة الوطنية.
تاسعا”- يروّج بعض خصوم الشرع سردية مفادها أن سورية أصبحت “محمية أمريكية” أو “تحت الانتداب الأمريكي”، ويستشهدون بالاهتمام الأمريكي اللافت، وبالتصريحات العلنية التي عززت الشكوك. فالرئيس دونالد ترامب نفسه قال إن رفع العقوبات جاء بناءً على طلب تركيا وإسرائيل ودول أخرى، وهو ما استخدمه المنتقدون فوراً باعتباره دليلاً على أن القرار موجّه من الخارج، كما أن تصريح توم باراك بأن “سورية أصبحت في ملعبنا” قدّم مادة سياسية جاهزة للاتهام بالعمالة والتبعية. هذه السرديات تبدو مقنعة ، ومحقة، لكن جوهر المسألة مختلف : قرار رفع الاسمين صدر ضمن آليات قانونية وتقنية واضحة في منظومة الأمم المتحدة والفصل السابع، وليس ضمن صكوك ولاء سياسي. النفوذ الأمريكي كبير، نعم، والتعامل معه ليس خياراً بل استحقاقاً تفرضه معادلات القوة الدولية، لكن الرد على هذه الوقائع لا يكون بالإنكار ولا بالشعارات، بل بفهم المشهد كما هو، وتحويل التفاعل مع القوى المؤثرة من تبعية إلى إدارة مصالح، ومن موقع المفعول به إلى موقع قادر قدر الإمكان على المناورة وصون ما يمكن من القرار الوطني.
عاشرا”- رفع اسمَي الشرع وخطاب خطوة مهمة في مسار الانتقال السوري، لكنها ليست خاتمة، بل بداية مرحلة جديدة تُقاس فيها الحكومات بالالتزام لا بالشعار. هذه المرحلة لا تحتمل هتافات، ولا تتحمل استعراضات عاطفية، بل تحتاج بناء دولة، واحترام قانون، وضبط سلاح، وتحمّل مسؤولية. المجتمع الدولي لم يمنح الشرع جائزة، بل منحه فرصة. والفرصة إمّا أن تُحترم أو تضيع. وبكل وضوح، دون تزيين أو شعارات: انتهى زمن الهتاف… وبدأ زمن الامتحان.
الكاتب: د. بسام أبو عبد الله