قراءات سياسية فكرية استراتيجية

 

اخر الاخبار

حول سؤال الشرعية !!!!

في خضم الفوضى السياسية التي تعصف بالمشهد السوري، تروج آلة الدعاية التابعة للسلطة في دمشق أوهاماً حول الاعتراف الدولي بالسلطة القائمة، وتقدّم الزيارات والاتصالات على أنها “انتصار سياسي” أو “شرعية مكتسبة”، بينما يغيب عن الرأي العام الفارق الجوهري بين مفاهيم أساسية في القانون والسياسة الدولية، مثل سلطة الأمر الواقع (de facto authority)، والسلطة الانتقالية (transitional authority)، والسلطة المنتخبة (elected authority)، إضافة إلى ما يسمى بـالشرعية الثورية (revolutionary legitimacy).

ومن واجبي أن أوضح الفروقات بين هذه المصطلحات، لأن التضليل بلغ مستوى يقتضي وقفة جادة، تضع الأمور في نصابها العلمي والقانوني :

أولا” – سلطة الأمر الواقع (de facto authority) هي تلك السلطة التي تمارس السيطرة الفعلية على أرض ما، دون أن يكون معترفاً بها دولياً أو دستورياً، أي أن وجودها يستند إلى القوة أو السيطرة العسكرية، وليس إلى الإرادة الشعبية أو الانتخابات.
فمثلاً، حركة طالبان بعد انسحاب القوات الأميركية عام 2021 كانت سلطة أمر واقع قبل أن تبدأ عملية اعتراف تدريجية محدودة بها من بعض الدول. وكذلك هو حال “أنصار الله” في اليمن منذ عام 2015، الذين يسيطرون على العاصمة صنعاء دون أن يحظوا باعتراف سياسي رسمي من الأمم المتحدة أو أغلبية الدول.
هذه السلطات تُعامل وفق القانون الدولي في حدود “الأمر الواقع” وليس “الاعتراف القانوني”، بمعنى أنها مسؤولة عن التزامات محددة تتعلق بحقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدولي، لكنها ليست “حكومة شرعية” (de jure government).

ثانيا” – أما سلطة دمشق الحالية فهي نموذج من سلطة الأمر الواقع التي تحاول التستر خلف شعارات دستورية شكلية ، إذ عقدت مؤتمراً للحوار الوطني خلال ساعات، ثم أصدرت ما سُمي بـ”الإعلان الدستوري” الذي جمع كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد شخص واحد، دون أي فصل للسلطات، وأجرت انتخابات لمجلس الشعب بطريقة غير مباشرة شارك فيها نحو ستة آلاف شخص فقط ممن اختارتهم السلطة كهيئات ناخبة ، مع استثناء ثلاث محافظات كاملة من العملية، على أن يعين الشرع ثلث أعضاء المجلس بنفسه ، ولا يحق لهذا المجلس مساءلة أي أحد لا الرئيس ، ولا الحكومة ، لأن الرئيس لا يحاسب أصلا بموجب الإعلان الدستوري، ورغم كل هذا العبث، تحاول هذه السلطة تصوير بعض اللقاءات أو الإطراءات المصلحية من الخارج على أنها اعتراف دولي، بينما في الحقيقة لم يتم الاعتراف بها لا داخلياً (لغياب أي قاعدة شعبية حقيقية)، ولا خارجياً (لأن الاعتراف يتطلب إجراءات قانونية محددة وفقا” للقانون الدولي).

ثالثا”- السلطة الانتقالية (transitional authority) مفهوم يختلف جوهرياً عن سلطة الأمر الواقع ، فهي عادة ما تُقام بموجب اتفاق سياسي وطني أو بإشراف الأمم المتحدة، وتكون محددة بزمن ومهام، مثل تنظيم انتخابات أو صياغة دستور جديد، كما في نموذج جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري عام 1994، أو ليبيا بعد اتفاق الصخيرات 2015، أي أنها سلطات تستند إلى توافق سياسي واعتراف دولي من خلال الأمم المتحدة، ولا تُمارس السيادة المطلقة، بل تعمل وفق تفويض مرحلي ومهام محددة.
ويبدو أن سلطة دمشق ومن خلال إجراءاتها الشكلية حاولت أن تتلبس صفة السلطة الانتقالية، لكنها ليست كذلك لغياب الإجماع الوطني، والمهام المحددة لهذه السلطة، التي بدلا” من أن تهيء للمسار الانتقالي(دستور جديد، و انتخابات ) تعمل على فرض أمر واقع دون وجود مرجعيات وطنية، ودولية.

رابعا”– السلطة المنتخبة (elected authority) هي التي تستمد شرعيتها من انتخابات حرة ونزيهة، تعكس إرادة الشعب وفق معايير دولية واضحة، مثل إشراف مراقبين دوليين، وتكافؤ الفرص بين القوى السياسية، وحرية الإعلام.
هنا تصبح الحكومة سلطة شرعية (legitimate authority) لأنها قائمة على موافقة المحكومين (consent of the governed).
النموذج البرازيلي أو الهندي مثال على ذلك، حيث التداول السلمي للسلطة يمنح الشرعية السياسية والدستورية في آن واحد.

خامسا” – أما ما يسمى بـ”الشرعية الثورية” (revolutionary legitimacy)، فهو مفهوم ظهر في أعقاب الثورات، حين تطيح حركة شعبية بنظام سابق وتستند في سلطتها إلى الإرادة الثورية لا إلى النصوص القانونية القائمة، مثلما حدث في الثورة الفرنسية (1789) أو الثورة الإيرانية (1979)، إلا أن هذه الشرعية تكون مؤقتة، إذ لا يمكن أن تبقى “ثورية” إلى الأبد، بل يجب أن تتحول إلى شرعية دستورية من خلال مؤسسات وانتخابات.

في حالة “سلطة هيئة تحرير الشام ” ، النصرة سابقا”- وفرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام ، فإن الحديث عن شرعية ثورية محض تضليل، إذ لم تقم ثورة شعبية تلقى دعما” وطنيا” ، بل مجموعة انقسامات داخلية وصراعات على السلطة أفرزت واقعاً مفروضاً بقوة السلاح وتفاهمات إقليمية ودولية، أي بدعم خارجي.

سادسا”- من منظور القانون الدولي العام (Public International Law)، لا يُعد استقبال مسؤول من سلطة أمر واقع، أو السماح له بزيارة دولة، بمثابة اعتراف رسمي (Recognition).
فهناك فرق بين de facto recognition وde jure recognition.
الاعتراف القانوني الكامل (de jure) يتم عادة عبر بيان رسمي من الدولة، أو تبادل وثائق، أو توقيع اتفاقيات دبلوماسية واضحة.
أما الزيارات ، مثل زيارة أحمد الشرع القادمة إلى الولايات المتحدة في العاشر من هذا الشهر، فهي لا تشكل اعترافاً بأي حال، اذ لم تصدر واشنطن أي إعلان رسمي باعترافها به كـ”ممثل شرعي” للجمهورية العربية السورية، بل ما زالت تتعاطى معه كرئيس لسلطة أمر واقع .

سابعا”– إن الاعتراف الدولي لا يُمنح بالتصفيق أو الاستقبالات، بل بالارادة الشعبية الداخلية، وإذا كانت بعض العواصم تتعامل مع دمشق بحذر، فذلك في إطار ما يسمى “functional recognition”، أي الاعتراف الوظيفي المؤقت لتسيير أمور إنسانية أو أمنية، وليس اعترافاً سياسياً كاملاً.

ثامنا”- يبقى السؤال الجوهري: من يملك الشرعية؟
هل هي البندقية التي تفرض واقعاً بالقوة، أم الإرادة الشعبية التي تمنح السلطة معناها؟
لقد أثبت التاريخ أن أي سلطة بلا شرعية داخلية، مهما تعددت صور الاعتراف الخارجي الشكلية بها، تبقى كياناً هشّاً، يسقط عند أول اختبار حقيقي أمام وعي الناس.
إن الشرعية ليست ختمًا دبلوماسيًا يُمنح، بل عقد ثقة بين الحاكم والمحكوم، بين الدولة ومواطنيها. وما لم تستند السلطة في دمشق إلى هذا العقد، فستبقى سلطة أمر واقع لا أكثر، تعيش على هامش الاعتراف الوظيفي، لا في صميم الاعتراف السياسي.
وهنا لابد من التأكيد أننا بهذا الكلام لا نذم أحدا” ، بل نقول بوضوح بأنه حتى القانون الدولي لا يصنع الشرعية، بل يكرّسها حين تكون نابعة من الداخل.
وكما قال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو:
“حين يُنتزع الحكم من الإرادة العامة، لا يبقى سوى السيد والعبيد.”

الكاتب : د. بسام أبو عبد الله 2025

اقرأ المزيد
آخر الأخبار