لم يعد العنف في سوريا حدثا طارئا، بل تحوّل إلى أسلوب حكمٍ يومي، يمارس نفسه بطرق تتجاوز الحدود التقليدية للدولة والقانون.
في مساكن الزهريات، حيث اقتحمت مجموعات مسلحة المنازل وهددت السكان بالإخلاء القسري، تجسّد شكل جديد من السلطة لا يحتاج إلى إعلانٍ رسمي أو مبررٍ قانوني.
السلطة هنا لا تنطق، لكنها تفعل؛ لا تُصدر قرارات، لكنها تقرّر من يحق له البقاء ومن يُستبعد من الحياة العامة.
السيادة الموزّعة: حين يتكلم السلاح باسم الدولة
تتحرك عربات الدفع الرباعي في أحياء دمشق كما تتحرك مؤسسات الدولة في أزمنة أخرى، بانتظامٍ ظاهري، وبثقة مطلقة في حقها بالتحكم.
ما حدث في الزهريات ليس انفلاتا، بل إعادة توزيعٍ للعنف الرسمي بين أذرع متنازعة تتشارك منطقا واحدا؛ السيادة ليست عقدا اجتماعيا، بل احتكارٌ عملي للقوة.
هذا المشهد يذكّرنا بما تصفه الفيلسوفة جوديث باتلر حين تتحدث عن “إنتاج الحياة السياسية عبر نفيها”،
فكل فعل اقتحام أو تهجير هو إعلان ضمني عن أن هناك من لا يستحق الوجود في المجال العام، وأن القانون يُستبدل بسلطة “الميدان”، تلك التي تُعلن نفسها عبر الرعب لا عبر النصوص.
من المواطن إلى “الوجود غير المرغوب فيه”
حين يُسأل سكان الزهريات عن انتماءاتهم الطائفية قبل تفتيش منازلهم، فإن السؤال ليس أمنيا بقدر ما هو تعريف للإنسانية نفسها، فهو إعلان بأن الانتماء، لا الكرامة، هو ما يحدد من يُعامل كمواطن ومن يُعامل كهدف.
يتحوّل العنف من فعل مادي إلى أداة لتصنيف الوجود البشري؛ من يستحق الحياة ومن يُمكن تهميشه، ومن يُعدّ جزءا من الجماعة الوطنية ومن يُقصى عنها.
تصف باتلر هذه الحالة بأنها “الهشاشة السياسية”، حيث يصبح البقاء ذاته مرهونا باعتراف الآخر، وسكان الزهريات يعيشون اليوم هذه الهشاشة القصوى، حين يتبدد الحق في المأوى والكرامة أمام سلطة لا تُعرف حدودها ولا يُعرّفها قانون.
الجسد كمسرح للعقاب
في التفاصيل الصغيرة يتجلى جوهر العنف في مصادرة هواتف النساء، وإجبارهن على فتحها، وتهديد الأهالي، وضرب الشبان، وهذه ليست أفعالا معزولة، بل لغة سيادية جديدة تعبّر عن نفسها من خلال الجسد.
السلطة لا تحتاج إلى إعلانٍ كي تفرض هيمنتها؛ فيكفي أن تضع الجسد في موضع الطاعة، والتحكم في الذاكرة الرقمية عبر الهواتف، ومحو الصور أو الرسائل، ليس مجرد انتهاك شخصي، بل محو رمزي للذات،
فمن يُصادر ذاكرة الفرد، يُصادر قدرته على أن يروي نفسه، أي على أن يكون مواطنا كامل الوجود.
عنف بلا دولة، لكنه عنف الدولة ذاتها
ما يحدث في الزهريات ليس فوضى، بل نظام جديد للعنف، نشاهده في أماكن مختلفة في سوريا؛ يتغذى على انهيار المفاهيم التقليدية للسلطة، فحين تتراجع مؤسسات الدولة، لا يختفي العنف، بل يتكاثر ويتحوّل إلى أداة تمثيل جديدة، ولا يُمارس باسم القانون، بل كبديل عنه، فإذا لم يعد هناك نص، فالسلاح هو اللغة الوحيدة التي تُسمع.
إن الدولة لم تغب، بل تحللت إلى أطرافٍ متنافسة تمارس سلطتها على المقيمين باسم الأمن والنظام، وكل اقتحامٍ جديد لا يُظهر ضعف السلطة، بل شكلها الجديد من خلال سلطة متشظية لا تخضع للمساءلة، لكنها تتغذى على الخوف كوسيلة للسيطرة.
الصمت كسياسة
غياب أي موقف رسمي حيال ما يجري ليس حيادا، بل أحد أشكال العنف الأكثر خفاء، فهو فعل بحد ذاته لإنه إقرار ضمني بحدود الاهتمام الرسمي.
حين يُترك السكان بلا حماية، فإن الرسالة تصل بوضوح، فالحق في الأمان لم يعد عاما، بل امتيازا يمنح أو يُسحب بحسب التوازنات، فالعنف لا يُقاس فقط بما يُفعل، بل بما يُسمح له أن يحدث، والصمت الذي يحيط باقتحام مساكن الزهريات، أو غيرها من الأماكن هو الإطار الذي يُشرعن هذا الفعل، لأنه يُحوّل الاستثناء إلى قاعدة، والخوف إلى شرطٍ للوجود.
الخرائط الجديدة للخوف
العنف لا يدمّر البيوت فقط، بل يعيد رسم الخرائط النفسية للمدينة، ففي كل حيّ يُقتحم، تتقلص مساحات الانتماء، وتتسع حدود القلق، فيعيش سكان الزهريات تحت تهديد دائم بالإخلاء، في ظل أوضاع اقتصادية خانقة، وارتفاع تكاليف السكن، وانعدام البدائل.
لكن الأخطر من ذلك هو أن الخوف صار جزءا من الجغرافيا، يتنقّل مع الناس، ويسبقهم إلى الشوارع، ويتسلل إلى لغتهم اليومية، وفي هذا المشهد، تصبح الحياة نفسها شكلا من المقاومة، فأن تبقى في منزلك رغم التهديد، وتحتفظ بمفتاح الباب، وتصرّ على أنك موجود؛ هي أفعال صغيرة لكنها تفكك احتكار السلطة لمعنى البقاء.
ما بعد العنف: من سيكتب الذاكرة؟
حين تُمحى الأسماء ويُهجّر الناس في صمت، لا يبقى سوى الكتابة كفعل نجاة، فأول مقاومة للعنف هي أن يُسمّى، أن يُروى، أن لا يمرّ بصمت وأن تدون وقائع العنف، وما يحدث اليوم في مساكن الزهريات ليس مجرد انتهاكٍ إنساني، بل تعبير عن أزمة وجودية في مفهوم الدولة ذاتها، فمن يملك الحق في التمثيل؟ ومن يقرر من هو الداخل” ومن هو “الخارج” في الجماعة السياسية؟
في غياب القانون، لا يموت الحق فحسب، بل تختفي اللغة التي تُعرّفنا كبشر، وما لم يُستعد هذا الحق في القول والذاكرة، فإن كل اقتحامٍ سيُعاد إنتاجه في حيّ آخر، تحت اسمٍ آخر، وبالذرائع نفسها.
السيادة كفقدان للإنسان
في نهاية المطاف، ليس العنف في سوريا مجرد ممارسة أمنية، بل بنية فكرية كاملة تُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والحياة، فحين تتحول القوة إلى معيارٍ للحق، يتفتت المجتمع إلى مناطق سيطرة ومناطق انتظار، ويغدو البقاء نفسه امتيازا سياسيا لا ضمانة إنسانية.
إن ما يجري في الزهريات ليس قصة عن اقتحامٍ عابر، بل مرآة تُظهر كيف أصبحت السيادة فعلا يلتهم مواطنيه، وكيف غدا “الحق في الحياة” موضوعا للتفاوض بين من يملكون السلاح ومن لا يملكون سوى الصمت.
أن الخوف هو ما يوحّد الناس حين تتفكك الدولة، وأن النجاة الفردية هي آخر أشكال السياسة الممكنة.
يتحول العنف في سوريا من حدث طارئ إلى أسلوب حكم يومي، يمارس نفسه بطرق تتجاوز الحدود التقليدية للدولة والقانون. يوضح هذا الرسم البياني الديناميكيات المختلفة للعنف والسلطة في سياق الأزمة السورية.




السيادة الموزعة
تتحرك عربات الدفع الرباعي في أحياء دمشق كما تتحرك مؤسسات الدولة في أزمنة أخرى، بانتظامٍ ظاهري، وبثقة مطلقة في حقها بالتحكم.
الهشاشة السياسية
حيث يصبح البقاء ذاته مرهونا باعتراف الآخر، وسكان الزهريات يعيشون اليوم هذه الهشاشة القصوى، حين يتبدد الحق في المأوى والكرامة.
الجسد كمسرح للعقاب
السلطة لا تحتاج إلى إعلانٍ كي تفرض هيمنتها؛ فيكفي أن تضع الجسد في موضع الطاعة، والتحكم في الذاكرة الرقمية عبر الهواتف.
الصمت كسياسة
غياب أي موقف رسمي حيال ما يجري ليس حيادا، بل أحد أشكال العنف الأكثر خفاء، فهو فعل بحد ذاته.
المصدر: سوريا الغد