بات واضحاً الآن أن العالم ولج حقاً مرحلة انتقالية كبرى لن يكون فيها التطور التكنولوجي خطياً (linear) بل انفجارياً (Exponential ) يأخذ شكل الفرادة (singularity) التي تشبه ما يحدث في أفق الثقب الأسود في الفضاء الذي يغيّر بشكل جذري أنماط المادة والطاقة. وكذا الامر الآن في الفرادة التكنولوجية التي ستمزق المجتمع البشري وتغيّر كل مجالات ومؤسسات حياتنا البشرية من العلاقات بين الجنسين إلى الروحانيات.
على رأس هذه التغييرات الجذرية ستبرز بشكل فاقع مسألة الهوية، خاصة حين يتطور الذكاء الاصطناعي ( الذي لم يخلقه إله متعالٍ في السماء) إلى نقطة يصبح فيها أذكى بكثير من الذكاء البشري البيولوجي، ويبدأ (كما يحدث الأن) في السيطرة على كل مناحي الحياة البشرية، من العمل العقلي واليدوي والاقتصاد والإنتاج إلى التخطيط العسكري والأمني، مرورا حتى بالفنون والآداب.
كل هذه التطورات ستحدث خلال عقدين أو ثلاثة عقود من الآن. لكن، في انتظار وصول هذه المرحلة الانتقالية إلى خواتيمها، يمكن أن نلحظ حيثيات ودوافع أزمة الهوية في العالم ومنطقتنا على النحو التالي:
– 1- بروز أزمة الدولة- الأمة ( التي هي مصنع الانصهار القومي الأساسي) بسبب العولمة الرأسمالية والثورة التكنولوجية، والتي تهدد الآن بتفكيك الدول نفسها (من بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا، وصولاً إلى الولايات المتحدة نفسها). ولاننسى هنا قبل ذلك تفكك الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وتشيكوسوفاكيا كمنوذج لذلك.
– 2- رعاية العولمة الرأسمالية للهويات الفرعية التي كانت إما نائمة أو على وشك الانقراض، ليس فقط في المشرق المتوسطي، بل في أوروبا وآسيا وكل أنحاء العالم. الهدف: تفتيت الكيانات الدولتية ثم دمجها في تكتلات أكبر تسيطر عليها العولمة.
– 3- بحث الفرد والجماعات الاجتماعية عن هويات جديدة مثل المقاطعات الصغيرة؛ الدول- المدن، الجماعات الدينية الجديدة (ولكن الصغيرة)؛.. الخ. وهذا يعني العودة إلى عصر القرون الوسطى مع اقطاعاتها الدينية والجغرافية والاقتصادية.
– 4- مغادرة ملايين العمال الذين سيفقدون عملهم إلى نوع من الحياة الشيزوفيرانية (الانفصامية). وهذا ما تروّج له العولمة الرأسمالية الآن بكثافة، عبر صناعة الحقيقة الافتراضية، والسماح ببيع المخدرات، والألعاب الالكترونية التي تنشيء أطفالاً انفصاميين، والزيادة الضخمة في أفلام العنف والاجرام، وانتشار التفكك العائلي وحالات الطلاق والاطفال غير الشرعيين، والبحث (في الدول الغنية عدا أميركا ) في منح العاطلين ما يسمى الدخل الأساسي المضمون (بين 100 و3000 دولار) بما يكفي لسد الرمق. زبغنيو بريجينسكي وصف هذا التطور بأنه أشبه بـ”رضاعة التسالي” tititaiment . وبالطبع، لاضرورة هنا للتساؤل عما ستكون هوية هؤلاء: إذ هم سيكونون خارج الواقع وخارج التاريخ وخارج الوعي، أي زومبيات zombies
فوكوياما يسمي كل هذه التطورات “التمزق الكبير”. لكنه يلاحظ أن اليابان والصين والهند وغيرها من الدول الآسيوية، لاتزال قادرة على مواجهة هذه الكارثة الزاحفة، بسبب قيمها الاجتماعية القوية (ضمانات العمل. الحياة العائلية. الفلسفات غير المادية من فكرة الانسجام إلى وحدة الوجود لدى البوذية) . لكن الخطر موجود هنا ايضا، خاصة إذا ما غرقت الطبقات الوسطى الضخمة في هذه الدول (ونحن نتحدث هنا عن مليار نسمة، أي مايعادل سكان أوروبا وأميركا معا) في لعنة الاستهلاك الغربية، وإذا ما فشلت رأسمالية الدولة في هذه الدول في كبح جماع التلوث الضخم فيها. لكن يبقى أن الآسيويين يبدون أكثر قدرة من الغربيين على الصمود في وجه هذه الأزمة.
– 5- العالم الإسلامي:
– هنا الصورة الآسيوية تبدو معقولة أيضا على الأقل في الشطر الآسيوي الشرقي من هذا العالم الإسلامي. فالتجارب لتزويج الاسلام إلى التكنولوجيا والديمقراطية النسبية نجحت في ماليزيا واندونيسيا اللتين تستعدان الأن لمغادرة العالم الثالث إلى العالم الثاني. والصورة نفسها موجودة في تركيا التي باتت تحتل المرتبة 15 أو 16 في أكبر الاقتصادات العالمية، مع أنها لاتزال تعاني من أزمة هوية طاحنة كما سنرى بعد قليل. وحتى بنغلادش الأفقر في العالم خرجت مؤخرا بفعل نهضتها من مرتبة الدول الأقل تطوراً وستصبح قريباً دولة نامية. وهذا يعني عملياً أن نصف العالم الاسلامي قادر على مواكبة النهضة الآسيوية والصمود في وجه خطر تمزق الهويات.
6- نأتي الأن إلى منطقة المشرق:
قد يبدو لوهلة أن تركيا وإيران هما المستفيدتين من الفوضى الراهنة في المنطقة. لكن الواقع أنهما تواجهان أزمات هوية طاحنة. فالثورة الاسلامية فشلت في منح إيران هوية الزعيم العالمي للعالم الاسلامي لعوامل عديدة، لعل أهمها عجزها عن مواصلة تمويل سياسة خارجية لاتقوى عليها قوى كبرى فكيف بدولة من العالم الثالث؟
السؤال الآن: أي هوية جديدة ستحل مكان الهوية العالمية الإسلامية: الامبراطورية الشاهنشاهية القومية والعلمانية، أم الهوية القومية الليبرالية، أم الهوية القومية- الشيعية، أم مجددا الهوية القومية المستندة إلى الاسلام، أم الهوية اليسارية التي ترفص مقولة الأمة الإيرانية وتدعو إلى شعوب إيران. ثم هناك بالطبع الهويات الأثنية الأذرية والكردية والبلوشية والعربية، التي نزعت طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين إلى الاستقلال في كل حين كانت يضعف فيه المركز الإيراني.
تركيا أيضاً في مرحلة أزمة هوية خطرة، حيث تتصارع فيها الهويات الاسلامية، والاسلامية – القومية، والعلمانية القومية الطورانية، والقومية العلمانية اليبرالية، والهوية الاسلامية الليبرالية، إضافة بالطبع إلى أزمة تركيا الكبرى مع الهوية الكردية وإلى حد ما الهوية الطائفية العلوية وإن كانت هذه تنضوي تحت لوءا الأحزاب العلمانية.
هذه الصورة توضح لنا أن مايجري في المنطقة العربية ليس استثناء عما جرى ويجري في كل العالم. الفارق أن المنطقة العربية سبقت الكثيرين في أزمة الهوية هذه، حيث بدأ الانهيار لديها منذ منتصف الستينيات بفعل هزيمة 1967 وفشل تجارب الحداثة الاقتصادية بسبب كل من الحروب والضغوط الغربية والفساد الداخلي.
الأن: الصورة في المنطقة كالتالي:
الهوية القومية العربية، على الأقل في شطرها العلماني، وكمشروع نهضوي تحديثي، تداعت في الدول الذي ترعرعت فيه، وهي مصر وسورية والعراق وليبيا، وهي غائبة (حتى الآن على الأقل) عن عملية تشكيل هوية جامعة لكل الطوائف والمذاهب والأعراق.
والهوية الاسلامية، التي سيطرت على الساحة منذ هزيمة 1967، لم تستطع هي الأخرى بلورة مشروع استراتيجي موحّد في المنطقة، بل غرقت بما غرقت فيه القومية العربية من التخبط داخل كل دولة على حدة، الأمر الذي قوّض قدرتها على طرح نظام إقليمي بديل. وهذا تجلى في تشظي الاسلام السياسي إلى حركات متناحرة وهابية وإخوانية وسلفية وجهادية وتصوفية وثورية وليبرالية، وبالطبع سنّية وشيعية التي تفجّرت حروباً دموية منذ غزو صدام حسين لإيران العام 1980.
والحصيلة هي ما نراه الآن من انهيارات وحروب وصراعات كلفت المنطقة خلال 20 عاماً فقط أكثر من 20 تريليون دولار، وقوّضت البيئات الطبيعية ومزقت أنسجة المجتمعات.
بالطبع، ليس هناك حروب تستمر إلى الابد. وفي لحظة ما، ستصاب كل الاطراف المتصارعة، من كل الأصناف والالوان الايديولوجية بالانهاك، وحينها ستبدأ بالبحث عن إجابة على السؤال الكبير: ما الحل؟ وأي هوية جديدة في المنطقة العربية (والمشرق) يمكن أن تشكل خشبة خلاص؟
في أي بحث علمي يجب وضع سيناريوهات تتضمن خيارات، لأنه ليس في وسع أحد الجزم بما سيكون عليه المستقبل القريب منه والبعيد، خاصة في ظل العولمة والثورة التكنولوجية الرابعة، كما ألمعنا أعلاه، والصراعات الكبرى في منطقتنا حول النظام الاقليمي الجديد.
في إيران:
1- بقاء الهوية الاسلامية الشيعية الراهنة، مع تركيز أكبر على العامل القومي الإيراني، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي- الأميركي الأخير عليها (خطة خامنئي للخمسين سنة المقبلة).
2- الانهيار الاقتصادي، وما قد يليه من ظهور ائتلاف علماني- قومي – اسلامي- قمّي يعيد البلاد إلى دستور 1905
3- تفكك إيران إلى أربع دول، ومعها أربع هويات.
في تركيا:
1- بقاء هوية النظام الاسلامي الراهن، لكن مع نفوذ أكبر بكثير لهوية الحركة القومية الطورانية،
2- تبلور الهوية العثمانية الجديدة، خاصة إذا ما خرجت تركيا منتصرة من حرب سورية والصراع في العراق، ونجحت في العودة إلى طاولة المفاوضات مع الكورد.
3- حرب أهلية بين العلمانيين والدينيين توجب تدخل الجيش مجددا، كما حدث في الحرب الأهلية السابقة بين الطرفين التي أزهقت أرواح أكثر من 5000 شخص.
في المنطقة العربية:
1- استمرار التمزقات الراهنة إلى حين جلاء صورة المجابهات الراهنة بين معسكري إيران والسعودية، ومن ورائهما البريكس وأميركا ، ما يعني تواصل التدهور وتقوّض جهود بناء هويات متطورة جديدة، واستمرار بروز الهويات المذهبية والطائفية المتصارعة والمتحاربة.
2- حدوث تطورات دراماتيكية مفاجئة في بعض الدول العربية الرئيس، تعيد رسم خرائط الصراعات ومعها الهوية في المنطقة العربية.
3- ابنعاث شكل جديد من الهوية القومية العربية، بفعل توجه تركيا وإيران إلى أشكال هوية قومية أكثر جلاء ووضوحا، الأمر الذي سيثير ردود فعل إديولوجية- سياسية فورية في كل المنطقة الجيو-ثقافية العربية، تماما كما حدث عشية الحرب العالمية الأولى، حين تسببت القومية الطوارنية في بروز القوميات العربية والكردية والفارسية وغيرها.
ثم هناك الحل العقلاني – الحضاري، وهو احتمال ولادة هوية مشرقية مشتركة، في حال شعرت النخب العربية والتركية والإيرانية والكردية والمسيحية والأمازيغية بأن النظام العالمي يتغيّر بسرعة مخيفة، وأن عليها أن تكبت غرائزها الأنانية المدمرة كي تستطيع مجتمعة ان تواجه التسوناميات العالمية الكاسحة وتصمد في وجهها.
قد يبدو هذا محض خيال. لكن في اللحظة التي تشعر فيها مصر وتركيا وإيران (مهما كان شكل أنظمتها) أن عليها التوجه شرقا نحو البريكس بدل أميركا، وأنه لم يعد في وسعها ترك الملعب لإسرائيل والولايات المتحدة، ستكون المنطقة جاهزة للخروج من اتون الجحيم الانفجاري الراهن، وبالتالي الانضمام إلى جوقة الحضارات الشرقية الآسيوية التي ستكون لها اليد العليا قريباً في رسم معالم النظام العالمي الجديد متعدد الحضارات.