في خضم الأزمة الاقتصادية السورية المستمرة منذ أكثر من عقد، جاءت تصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، بشأن إشراف بعثة أمريكية على استبدال العملة، كحدث محوري يستحق قراءة تحليلية معمقة من منظور السياسة المالية الدولية.
في لقاء خاص مع قناة الإخبارية، أعلن حصرية أن بعثة أمريكية ستشرف على طرح العملة الجديدة في الأسواق السورية، بالتوازي مع زيارات ولقاءات رفيعة المستوى في واشنطن، شملت وزارة الخزانة الأمريكية، والاحتياطي الفيدرالي، وصندوق النقد الدولي.
يبدو من التصريحات أن حصرية يعوّل على ما وصفه بـ”الاهتمام غير المسبوق” من المجتمع المالي الدولي بسوريا، مستشهدا بأكثر من 60 اجتماعا أجراها في الولايات المتحدة، لكن هذا الانفتاح الدبلوماسي لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية والديناميكيات المالية التي تحكم علاجات ما بعد النزاع، والتي عادة ما تكون محفوفة بشروط خفية وتعقيدات سياسية ومالية عميقة.
إشراف خارجي على استبدال العملة: سابقة مقلقة؟
التصريح بأن بعثة أمريكية ستُشرف مباشرة على استبدال العملة الجديدة يطرح إشكالية سيادية صارخة، في تجارب دولية متعددة، من الأرجنتين إلى زيمبابوي، حيث كان فقدان السيطرة على السياسة النقدية مؤشرا على فقدان أدوات السيادة الاقتصادية.
إشراف طرف خارجي على السياسة النقدية لا يمكن اختزاله في إطار التعاون الفني البريء؛ بل هو بمثابة تفويض فعلي غير معلن لصلاحيات كانت تاريخيا من صلب السيادة الوطنية، فعندما تنتقل أدوات إدارة العملة، وضبط السيولة، ووضع قواعد الإصدار النقدي إلى خبراء ومؤسسات خارج الحدود، فإن مركز الثقل في اتخاذ القرار الاقتصادي يتحوّل من دمشق إلى واشنطن، حيث تُصاغ السياسات بمعايير تخدم استقرارا كليا لا يتقاطع دائماً مع أولويات الداخل السوري، خاصة في ظروف ما بعد الحرب.
ومع أن حصرية قدّم هذه الخطوة كدعم تقني يندرج ضمن جهود تعافي الاقتصاد السوري، إلا أن السؤال المركزي هو من يملك الكلمة الفصل في تصميم، وتوزيع، وتسعير العملة الجديدة؟ وهل سيُربط سعر صرفها بآلية تثبيت جديدة؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يمتلك المصرف المركزي القدرة على الدفاع عن هذا السعر في ظل عجز مالي مستمر؟
هل يعيد التاريخ نفسه؟
من أبرز مؤشرات السيادة النقدية المتراجعة هو لجوء الدول إلى المساعدات التقنية الأجنبية لتثبيت عملتها أو إعادة تصميمها، وغالبا ما تكون هذه الخطوة مقدمة لسلسلة من الالتزامات المرتبطة بالديون الخارجية، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وفرض آليات مراقبة من المؤسسات المالية الدولية.
القلق المشروع هو أن تدخل البعثة الأمريكية ليس معزولا عن الشروط السياسية، فعندما تشرف بعثة أجنبية على النقد الوطني، فإنها عمليا تتحكم في ضخ السيولة، وبالتالي في الدورة الاقتصادية اليومية، وهذا يعيد إلى الأذهان التجارب اللاتينية، حيث أدّت عمليات “الدعم التقني” إلى نوع من الدولرة المقنّعة، أي ربط الاقتصاد المحلي بمراكز مالية خارجية دون المرور بتغيير رسمي للعملة.
الإصلاح المصرفي: وعد أم وهم؟
يشير حصرية إلى أن هناك تقدما كبيرا في تطوير المصرف المركزي، بما في ذلك إدخال أنظمة دفع رقمية وتنظيم العملات الرقمية، لكن الواقع السوري يُظهر تحديات هيكلية ضخمة، فهناك قطاع مصرفي هش، وبنية تحتية تكنولوجية ضعيفة، وفقدان ثقة شعبي شبه كامل، فهل تكفي البعثات الفنية لإعادة بناء هذه الثقة؟
التجربة الدولية تُظهر أن الإصلاحات المالية الناجحة لا تأتي من الخارج فقط، بل تتطلب مؤسسات داخلية قوية، وجهازا بيروقراطيا مستقلا، وإرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد، ودون ذلك، فإن أي دعم تقني سيكون أشبه بوضع ضمادة على جرح عميق.
العلاقات مع القطاع المالي الأمريكي: انفتاح محفوف بالمخاطر
الحديث عن فتح حساب سوري في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك هو تطور كبير، لكنه أيضا محفوف بالمخاطر، خصوصا في ظل العقوبات الأمريكية المستمرة، فالربط المباشر مع النظام المالي الأمريكي يتطلب التزاما صارماً بمعايير مكافحة غسل الأموال، والشفافية المالية، والتقيد بالعقوبات، ما يُقيد حركة الأموال أكثر مما يُحررها.
إعادة فتح التحويلات البنكية من المغتربين، وهي أولوية بحسب حصرية، لا يمكن فصلها عن الاعتبارات السياسية، فالمغتربون السوريون في الغرب يخضعون لتشريعات تمنعهم أحيانا من إرسال الأموال مباشرة، ما يجعل النظام الجديد عرضة للاستخدام الانتقائي أو الحجب المفاجئ.
بين دعم التعافي وفقدان السيادة
لا شك أن اندماج سوريا مجدداً في النظام المالي العالمي هو هدف مهم، ويُفترض أن يكون في مصلحة الاقتصاد المحلي والمواطنين، لكن ما يقلق في تصريحات حاكم المصرف المركزي ليس التعاون بحد ذاته، بل الشكل الذي يتخذه هذا التعاون: إشراف مباشر، وعود غامضة، وربما تبعية غير معلنة.
إذا كانت سوريا فعلا على أعتاب تعافٍ اقتصادي، فإن الأولوية يجب أن تكون في بناء مؤسسات نقدية قوية داخل البلاد، وليس في تسليم المفاتيح لبعثات أجنبية، مهما كانت نواياها، كما أن التجارب التاريخية تُظهر أن أي دعم مالي يأتي من الخارج، لا بد أن يُدفع ثمنه داخليا، إما عبر التخلي عن أدوات السيادة، أو عبر تحمّل المواطنين عبء الشروط المرتبطة به.
الأزمة لا تبدأ عندما تنهار العملة، بل عندما تنهار الثقة، والسؤال هل تبني تصريحات المصرف المركزي الثقة؟ أم تفتح الباب لفصل جديد من التبعية المالية؟

إشراف طرف خارجي على استبدال العملة يطرح إشكالية سيادية صارخة، حيث يتحول مركز الثقل في اتخاذ القرار الاقتصادي من دمشق إلى واشنطن.
العلاقات مع القطاع المالي الأمريكي

الربط المباشر مع النظام المالي الأمريكي يتطلب التزاماً صارماً بمعايير مكافحة غسل الأموال، ما يُقيد حركة الأموال أكثر مما يُحررها.
مؤشرات تراجع السيادة النقدية

من أبرز مؤشرات السيادة النقدية المتراجعة هو لجوء الدول إلى المساعدات التقنية الأجنبية لتثبيت عملتها أو إعادة تصميمها.
الإصلاح المصرفي: الواقع والتحديات

الواقع السوري يُظهر تحديات هيكلية ضخمة: قطاع مصرفي هش، بنية تحتية تكنولوجية ضعيفة، وفقدان ثقة شعبي شبه كامل.
الخلاصة: بين دعم التعافي وفقدان السيادة
لا شك أن اندماج سوريا مجدداً في النظام المالي العالمي هو هدف مهم، ويُفترض أن يكون في مصلحة الاقتصاد المحلي والمواطنين. لكن ما يقلق في تصريحات حاكم المصرف المركزي ليس التعاون بحد ذاته، بل الشكل الذي يتخذه هذا التعاون: إشراف مباشر، وعود غامضة، وربما تبعية غير معلنة.
سيادية نقدية
إشراف خارجي على استبدال العملة يمثل سابقة مقلقة لتقويض السيادة الوطنية.
تحديات هيكلية
القطاع المصرفي الهش والبنية التحتية الضعيفة تحد من فعالية أي إصلاح.
اعتبارات سياسية
التعاون المالي لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية والشروط الخفية.
مخاطر التبعية
أي دعم مالي من الخارج لا بد أن يُدفع ثمنه داخلياً، إما عبر التخلي عن أدوات السيادة أو عبر تحمّل المواطنين عبء الشروط المرتبطة به.
المصدر: سوريا الغد