حين تُرسل أنقرة دبلوماسيّا يحمل في ذاكرته الاستخباراتية عِقداً من العمل داخل جهاز الـMIT إلى دمشق، فإنها لا تكتفي بإعادة فتح سفارة أُغلقت منذ أكثر من عقد، بل تُعلن عن نهاية مرحلة وبداية أخرى في علاقتها مع سوريا والمنطقة.
تعيين نوح يلماز سفيرا لتركيا في العاصمة السورية يتجاوز الخطوة البروتوكولية؛ إنّه تعيينٌ برمزيّة سياسية واستراتيجية كثيفة، لا يفهم مغزاها إلا من يدرك طبيعة العقل السياسي التركي الجديد بعد هاكان فيدان.
من الاستخبارات إلى الدبلوماسية: الرجل الذي يفهم “الملف من الداخل“
نوح يلماز ليس دبلوماسيا تقليديا من خريجي السلك الخارجي الذين تمرّسوا على لغة المراسم والبيانات، فهو ابن المؤسسة الأمنية التي صاغت، خلال العقد الماضي، المسار الأساسي للسياسة التركية تجاه سوريا،
فمنذ عام 2013 وحتى 2023، عمل يلماز في جهاز الاستخبارات الوطنية التركية (MIT)متنقلاً بين مناصب حساسة، من بينها رئاسة قسم التحليل ومستشارية الإعلام، وفي تلك السنوات، كان جهاز الاستخبارات بقيادة هاكان فيدان يدير ما يمكن تسميته بـ”السياسة السورية الحقيقية” خلف واجهة الدبلوماسية الرسمية.
خلفيته الاستخباراتية لا تعني فقط معرفة الملفات الأمنية والحدودية، بل الإلمام العميق بتفاصيل البنية السياسية والأمنية السورية، وبشبكات القوى على الأرض، من الفصائل المسلحة إلى القوى المحلية، ومن ديناميات المناطق الحدودية إلى العلاقات المعقدة مع القوى الكردية.
إرسال يلماز إلى دمشق يُمثل نقل السياسة التركية من إدارة الأزمات إلى إدارة النفوذ.
في ظل فيدان: مدرسة جديدة في السياسة الخارجية
منذ صعود هاكان فيدان إلى وزارة الخارجية في أيار 2024، بدأت ملامح “التحول الاستخباراتي للدبلوماسية التركية” تتبلور بوضوح.
فيدان، الذي انتقل هو الآخر من قيادة الاستخبارات إلى قيادة الدبلوماسية، يعمل على إعادة تعريف العلاقات الخارجية لأنقرة وفق منطق “الواقعية الاستخبارية”، حيث المعلومات الميدانية تسبق اللغة الدبلوماسية، والحوار المباشر مع الخصوم أداة لا تقل أهمية عن التحالفات التقليدية.
ويبدو تعيين يلماز امتدادا طبيعيا لهذه المدرسة؛ فهو أحد أقرب المساعدين لفيدان وأكثرهم فهما لطريقة تفكيره، ومنذ تولّيه منصب نائب وزير الخارجية في مايو 2024، شارك يلماز في إعادة هيكلة السياسة التركية تجاه سوريا من منظور “تنفيذي – أمني – تنموي”، فأصبحت لا تقوم فقط على التسويات السياسية، بل على هندسة جديدة للتفاعل بين الدولتين عبر الاقتصاد، والحدود، واللاجئين، وإعادة الإعمار.
دمشق بعد عقدٍ من القطيعة: سياسة العودة تحت غبار الحرب
حين أغلقت أنقرة سفارتها في دمشق عام 2012 وسحبت سفيرها عمر أونهون، كانت تركيا تعيش لحظة أيديولوجية حادة، و”الربيع العربي” كان في ذروته، وتركيا أردوغان اعتبرت أن مستقبل المنطقة يُكتب من جديد، وأنها ستكون جزءا من هذا “التحول التاريخي”.
لكن بعد اثني عشر عاما من الحرب السورية، وسقوط النظام القديم في دمشق في كانون الأول 2024، عادت تركيا لتفتح أبواب السفارة ذاتها التي أُغلقت باسم “الثورة”، هذه المرة، لا تعود كداعم لطرفٍ ضد آخر، بل كفاعل يبحث عن دور يضمن مصالحه في سوريا ما بعد البعث.
اختيار نوح يلماز خطوة ذكية ودقيقة، فالرجل يجمع بين اللغة الأمنية والسياسية والثقافية، ويتحدث العربية بطلاقة، ودرس في الولايات المتحدة، وتدرّب في كلية الدفاع التابعة للناتو، كما يحمل خلفية أكاديمية في علم الاجتماع، وهذا المزيج يجعل منه شخصية قادرة على التحرك في بيئة سورية معقدة تتقاطع فيها المصالح الدولية والإقليمية.
المهمة الجديدة: دبلوماسية ما بعد الصراع
المهام التي تنتظر يلماز في دمشق لا تقتصر على ترميم العلاقات الثنائية، فأنقرة تدرك أن “سوريا ما بعد البعث” ليست نسخة عن تلك التي عرفتها قبل 2011.
هناك خارطة نفوذ دولية متعددة الأقطاب تشمل روسيا والولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى القوى الإقليمية والخليجية، وتريد تركيا أن تعود إلى هذه الخارطة لا كدولة مجاورة مضطربة الحدود، بل كـ قوة فاعلة في إعادة صياغة التوازنات داخل سوريا.
على الأرجح، ستكون أولويات يلماز موزعة على ثلاثة محاور رئيسية:
الملف الأمني والحدودي:
التنسيق لضبط المعابر، ومكافحة التهريب والإرهاب، وضمان أن تبقى المناطق الحدودية تحت مراقبة تركية مباشرة أو غير مباشرة.
ملف اللاجئين:
إدارة إعادة توطين تدريجية ومتفق عليها، بما يحفظ صورة تركيا داخليا قبل الانتخابات المقبلة، ويقلل الضغط الشعبي الذي بات يشكّل عبئا على الحكومة.
الاقتصاد وإعادة الإعمار:
تركيا تراهن على أن تصبح بوابة لإعادة إعمار الشمال السوري، وأن تشارك شركاتها في مشاريع البنية التحتية والطاقة، مستفيدة من شبكة المعابر والتجارة القائمة.
رمزية التوقيت: قراءة في الإشارات السياسية
التوقيت يحمل دلالاته بقدر ما يحمل الاسم، فأنقرة لم تُسرع في تعيين سفيرها فور سقوط النظام السوري في كانون الأول 2024، بل انتظرت نحو عشرة أشهر، أي حتى استقرار النسق السياسي في دمشق ووضوح موازين القوى الجديدة.
هذه المهلة سمحت لتركيا بقراءة المشهد بدقة، وبتقدير المسافة التي تفصلها عن موسكو وتل أبيب وواشنطن، وهي الأطراف التي تمسك بخيوط الملف السوري، وبتعيين يلماز اليوم، تُرسل أنقرة رسالة واضحة، فهي تعود إلى دمشق بثقة وبتخطيط، لا بعاطفة، لأنها تنوي أن تكون طرفا في إعادة استيطان سوريا ليس فقط عبر الوساطات أو التصريحات، بل عبر الوجود الدبلوماسي والاستخباراتي الممزوج.
أن عهد السفراء الرمزيين انتهى، وحلّ محلّه عهد “السفير – المدير” الذي ينفّذ رؤية شاملة للدولة التركية.
الملف السوري في يد رجل يعرف تضاريسه
نوح يلماز ترأس سابقا “لجنة التنسيق الفنية”، وهي الذراع التنفيذية للمجلس الاستراتيجي الأعلى المعني بسوريا، وهذه اللجنة تدير التفاصيل اليومية للسياسة التركية تجاه الجار الجنوبي، من اللاجئين إلى التجارة والطاقة والمساعدات الإنسانية.
كان يلماز طوال السنوات الماضية المدير الفعلي للملف السوري داخل الجهاز البيروقراطي التركي، حتى قبل أن يصبح سفيرا، وتعيينه اليوم لا يغيّر موقعه بقدر ما يوسّع صلاحياته ليصبح صانع القرار على الأرض السورية.
هذه النقطة تحديدا تكشف النهج الجديد لأنقرة، فهي لا تريد دبلوماسية شكلية، بل دبلوماسية “عملياتية” يقودها من يعرف خريطة المصالح التركية ويحولها إلى ملفات ملموسة.
تركيا وسوريا الجديدة: واقعية بنكهة النفوذ
تعيين نوح يلماز في دمشق لا يعبّر عن قبولٍ تركي بواقعٍ فرضه الآخرون، بل عن ترسيخ لواقع ساهمت أنقرة ذاتها في صنعه، فـ”سوريا الحالية” التي تعود إليها تركيا اليوم ليست دولة النظام القديم، بل كيان سياسي-أمني تشكّل تدريجيا في مناطق النفوذ التي رعَتها أنقرة خلال سنوات الصراع، ولا سيّما في الشمال.
إنها سوريا ما بعد الانقسام، حيث أصبحت الفصائل التي كانت يوما تُعرّف بوصفها “معارضة مسلّحة” جزءا من البنية الإدارية والعسكرية الجديدة، تعمل في فضاء سياسي واقتصادي يدور في فلك أنقرة.
بعد أن نجحت تركيا في تحويل مناطق إدلب وريف حلب إلى فضاء متداخل اقتصاديا وأمنيا معها، باتت تسعى إلى ربط هذا النفوذ بإطار رسمي من خلال عودة العلاقات الدبلوماسية، لتصبح حاضرة في دمشق كما هي فاعلة في الشمال.
لكن هذه “الواقعية الجديدة” لا تعني الحياد أو الانكفاء، فأنقرة اليوم تمارس دورها كقوة إقليمية قادرة على التأثير في مستقبل الحكم السوري، ليس عبر الانقلابات أو التحالفات المتقلبة، بل عبر شبكة من الفاعلين المحليين والاقتصاديين الذين يشكّلون امتدادا فعليا لمشروعها الأمني.
من قلب هذه المقاربة يأتي السفير نوح يلماز بوصفه العقل المنسّق لهذه المرحلة، فهو دبلوماسي بملف استخباراتي، يُدير من دمشق خيوط العلاقة المعقّدة بين الدولة التركية والسلطة السورية الجديدة التي ولدت من رحم الفصائل التي كانت يوماً حليفة له.
ما وراء السفير: عودة تركيا إلى الدبلوماسية الصلبة
في الجوهر، يمثل نوح يلماز تجسيدا للتحوّل التركي نحو “الدبلوماسية الصلبة” التي تمزج بين المعلومات الاستخباراتية، والأدوات الاقتصادية، واللغة الدبلوماسية، في خدمة هدف واحد؛؛ توسيع النفوذ التركي من دون مواجهة مفتوحة.
دمشق بالنسبة لأنقرة ليست سوى الحلقة الأولى في هذا المسار الذي يمتدّ من القوقاز إلى الخليج.
في نهاية المطاف، لا يُقرأ تعيين يلماز كسيرة شخصية، بل كفصل من مشروع أكبر عنوانه “تركيا تعيد تعريف جيرانها”،وسوريا، بما تمثله من عمق جغرافي وتاريخي وثقافي، ستكون الميدان الذي يختبر نجاح هذه السياسة الجديدة.
تعيين نوح يلماز في دمشق ليس مجرد صفحة جديدة في العلاقات التركية-السورية، بل هو عودة السياسة التركية إلى موقع مختلف في المشرق بأدوات مختلفة، فمن دبلوماسية الشعارات في العقد الماضي، إلى دبلوماسية الأجهزة والملفات في العقد المقبل.
ومثلما كانت دمشق مرآة التحولات الكبرى في المنطقة، فإن وجود يلماز فيها مؤشرا على شكل الشرق الأوسط القادم؛ شرقٌ تُعيد فيه تركيا رسم حدود تأثيرها، ليس بالسلاح أو الأيديولوجيا، بل بالعقل الاستخباراتي الممسك بخيوط الدبلوماسية.






المصدر: سوريا الغد