قراءات سياسية فكرية استراتيجية

تحولات الحاكمية في سوريا: صعود الشيخ كمرجعية

في مرحلة ما بعد النزاع، لا تُبنى الدول فقط على أنقاض الحرب، بل على أنقاض المعنى.
المعنى الذي كان يؤسس فكرة الدولة نفسها، بوصفها كيانا قانونيا محايدا، يتحول تحت ضغط الهشاشة التاريخية إلى مساحة لإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والشرعية.

في الحالة السورية، يبدو أن “الشيخ” أصبح الوعاء الذي يُسكب فيه هذا المعنى الجديد للسيادة، فظهور “الشيخ” في الدوائر الحكومية ليس مجرد إحياء للسلطة الدينية، بل تحول في منطق الحاكمية نفسه من السيادة القانونية إلى سيادة قيم ما قبل الدولة، ومن البيروقراطية الحديثة إلى البيروقراطية المؤدلجة دينيا، ومن الدولة العقلانية إلى الدولة الممزوجة بالإيمان، وهذا التحول، في جوهره، لا يُقاس فقط بمعايير الشرعية السياسية، بل بمعايير أنثروبولوجية أعمق؛ إنه تحول في تصور الذات والدولة والمقدّس.

الشيخ بوصفه صورة للضمير الجمعي

حين يتجول الشيخ في الدائرة الحكومية، لا يفعل ذلك بصفته موظفا أو مراقبا، بل بصفته ضميرا متجسدا، فهو ليس سلطة من خارج القانون فحسب، بل القانون بعد أن اكتسب وجها بشريا، فيملأ الفراغ الذي تركه انهيار المؤسسات، فيراقب، ويزكي، ويبرئ، ويُدين، ويفعل ذلك بسلطة “احتكار” الحق وليس باسم الدولة.

في علم الأنثروبولوجيا الدينية، يمكن قراءة هذا بوصفه تحوّلا في المرجعية الأخلاقية للدولة الحديثة، فالدولة هنا لا تنفصل عن الدين إلا على مستوى الخطاب، أما في الممارسة فهي تستعير منه رموزه وأخلاقياته لتبرير فعل السيطرة، فـ”الشيخ” في السياق السوري هو التجسيد المحلي لهذه المفارقة؛ حضور ديني يعمل داخل البنية الإدارية ذاتها، لا في هامشها، إنه الوجه الذي يعبر عن هوية السلطة التي ما تزال تمارس الإكراه، لكنها هذه المرة بلغة الفضيلة.

الدولة كنسق أخلاقي لا كمؤسسة قانونية

حين يظهر “الشيخ” كمرجع في “الصح والخطأ” فنحن أمام نوع من التأميم الأخلاقي للدولة.
لم تعد معايير السلوك تُقاس باللوائح والأنظمة، بل بالنية والطهارة والولاء.
يصبح “الخطأ” فعلا أخلاقيا قبل أن يكون إداريا، ويصبح “الصواب” تزكية قبل أن يكون إنجازا.

هنا نقترب مما يمكن تسميته بإعادة تشكيل الضمير العام داخل فضاء الدولة الجديدة؛ فالموظف الذي يخاف الشيخ لا يخشى العقوبة القانونية، بل يخاف أن يُستبعد من الهوية الجمعية التي ترسمها المؤسسة الدينية، لا يخاف الفساد بصفته جرما، بل باعتباره خيانة للانتماء، فتتحول السلطة من الردع إلى سلطة المعنى؛ لا تُعاقب الجسد، بل تُعيد تعريف ما هو مشروع وما هو مُدان.

إنه انضباط ناعم، يغلّف الإكراه بخطاب التقوى ليمنحه شرعية رمزية، فيحوّل الطاعة من فعل إداري إلى امتثال عقائدي، فالسلطة لا تمارس صلاحياتها باسم القانون، بل باسم الفضيلة، تتحول البيروقراطية إلى أداة تديين للمجال العام؛ فيُستبدل الموظف المهني بموظف خاضع لرمزية الإيمان، وتُختزل الكفاءة في الولاء، ويغدو الأداء الإداري مقيّدا بمعيار الإخلاص لا بمعيار الإنجاز.

شبكة التزكية: البنية الخفية للسلطة

ما يميز هذا النمط من الحاكمية ليس مركزيتها، بل طابعها الشبكي، فالشيخ لا يحكم بقرار صادر من قمة الهرم، بل عبر شبكة تزكية متداخلة من “الثقات”، ونظام ولاء متبادل يقوم على الاعتراف المتبادل لا على القانون، فهي سلطة لا تُعلن نفسها لكن يمكن الإحساس بها، فتعمل من الظل وتعيد إنتاج ذاتها من خلال الممارسة اليومية.
ما نشهده اليوم في سوريا إعادة إدخال شكل غير رسمي من الحاكمية داخل مؤسسات الدولة الحديثة، فالدولة تُدار من داخلها بشبكة تزكية غير مرئية تربط القرار الإداري بالولاء الشخصي، وتربط الشرعية بالانتماء لا بالكفاءة.
الخطر لا يكمن في مظاهر التدين، بل في تحويل العلاقات الإدارية إلى علاقات إيمان سياسي؛ فحين تُقدّس الثقة، وتُحوّل الطاعة إلى ولاء رمزي، يصبح من المستحيل مساءلة السلطة.
كل نقد يُقرأ كخروج عن الجماعة، وكل اعتراض يُؤوَّل كتهديد للنظام الرمزي الذي يحمي ذاته من المساءلة.

أخلاقيات الطهارة كأداة حكم

في هذا الشكل من الدولة، “الطهارة” ليست فضيلة، بل لغة انضباط، الموظف المطلوب ليس الكفء، بل المنسجم مع الخطاب السائد، والمؤسسة لا تُقاس بفاعليتها الإدارية، بل بمدى انسجامها مع رمزية الانضباط.
تُدار الدولة كما تُدار الزوايا المغلقة: بالتزكية، وبالسمعة، وبالتطابق مع المعيار الجمعي، وهذا التحول لا ينتج وعيا أخلاقيا جديدا إنما يؤسس لآلية ضبط مستترة؛ فعندما يُختزل الصواب في معرفة “من يُحدّد الحلال والحرام”، تتراجع المرجعية القانونية لصالح منطق الفتوى الإدارية، ويُستبدل القانون بالنصيحة، والمؤسسة بالولاء.
إنه انتقال من دولة المؤسسات إلى دولة التوجيه، حيث يتحكم رجال الدين التابعين للسلطة في القرار أكثر من النص القانوني.

السلطة التي لا تُرى

قوة هذه البنية أنها تعمل دون أن تُعلن حضورها، فالشيخ لا يحمل صفة رسمية، لكنه يُعامل كسلطة أعلى من الرسمي، ولا يوقّع القرارات، لكنه يحكمها من الظل، وتنقسم الدولة إلى نظامين متوازيين، فهناك واجهة إدارية تُدار بالقوانين، وباطن رمزي يُدار بالتزكية، وهي سلطة حديثة في أدواتها، ما بعد حداثية في تمويهها؛ تستعير اللغة الدينية لتعيد إنتاج السيطرة، وتحوّل الخطاب الروحي إلى أداة تبرير للعنف الرمزي.
الدولة لا تُقصي الدين، بل تُعيد تشكيله ليخدم منطقها في الإخضاع الناعم، حيث تُدار الطاعة بالخوف، والإيمان الموجَّه.

التناقض البنيوي: النية الحسنة والاستبداد الناعم

كثير من هؤلاء المشايخ يتحركون بدعوى “الدافع” عن الإصلاح وضبط الفساد، ويمنحون سلطة فوق المحاسبة، تنتج شكلا جديدا من الاستبداد يُمارس باسم الفضيلة، ويصبح “الإصلاح” تقنية في الضبط الاجتماعي، بحجة هندسة السلوك العام عبر القيم لا عبر السياسة، وتحوّل الطاعة إلى انقياد تحت شعار الالتزام لا الخوف.
هذا الانقياد هو أخطر أشكال السيطرة، وتستفيد السلطة من هذا الشكل من السيطرة، فتستبدل الجندي بالواعظ، والأمر بالموعظة، وتستعيد سلطتها بأقل كلفة،
محوّلة المراقبة الأمنية إلى رقابة رمزية أكثر نفاذا من أي جهاز مادي.

الدولة الرمزية كأفق هش

ينتج هذا النموذج نوعا من الانضباط والاستقرار في المدى القصير؛ فالشيخ يفرض حضورا وهيبة، ويحدّ من بعض مظاهر الفساد، لكن في المدى الطويل يهدد أساس الدولة الحديثة، لأنه ينقل الولاء من المؤسسة إلى الأشخاص، ويجعل القرار الإداري رهينة المزاج العقائدي لا المنطق المؤسسي.
حين تُستبدل الكفاءة بالولاء، والقانون بالنية، تتحول الإدارة إلى طقس رمزي لا إلى جهاز فاعل، وتصبح الدولة مؤسسة “الورع الإداري”، لا دولة المواطنة، وتستمد مشروعيتها من رموزها لا من مؤسساتها، فتبدو مستقرة في المظهر، لكنها مفككة في الجوهر، فهي مطمئنة إلى صلاحها، لكنها عاجزة عن إنتاج الثقة التي تقوم عليها الشرعية الحديثة.

نحو تفكيك منطق السيطرة الرمزية

التحدي الحقيقي لا يكمن في إقصاء الشيخ، بل في فصل المجال الديني عن آليات الحاكمية، فالدين يمكن أن يكون رافدا للقيم العامة، لكن حين يتحول إلى لغة إدارة، يصبح أداة ضبط، والمطلوب ليس استبدال الأخلاق بالقانون، بل إعادة تعريف الأولى كمسؤولية فردية، والثاني كضامن مؤسسي.

ما تحتاجه سوريا اليوم ليس دولة متدينة، بل دولة عادلة، تُقاس شرعيتها بالمحاسبة لا بالتزكية، وبالشفافية لا بالسمعة، أما الدولة التي بهذ الطريقة، فمصيرها أن تنزلق إلى استبداد رمزي مغطى بالقداسة؛ سلطة تبدو طاهرة، لكنها تمارس عنفها من وراء حجاب الفضيلة.

وجود الشيخ في الدوائر الحكومية ليس تفصيلا عابرا، بل إشارة إلى إعادة تأسيس الدولة على منطق رمزي بديل، ومحاولة لملء الفراغ الذي خلّفته الحرب، لكن بلغة القداسة لا بلغة السياسة، فحين يُقدَّم الخطاب القيمي كبديل عن القانون، تتحول الدولة إلى جهاز مراقبة لا إلى إدارة مدنية.
هذا التحول ليس تبدلا في الأشخاص، بل في المنطق المنتج للسلطة، والسؤال لم يعد: من يحكم؟
بل بأي لغة تُمارس الحاكمية؟ فما بعد الحرب لا يُقاس بالقوة المسلحة، بل بالأنساق الرمزية التي تُعيد إنتاج الطاعة.
وحين تصبح القداسة لغة الإدارة، يصبح الخطر الأكبر أن تُختزل الدولة في ضميرٍ يراقب، لا في نظامٍ يحكم.

النسب المئوية تعبّر عن توزيع تأثير القوى المختلفة في الحاكمية السورية .

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار