يعيش السوريون اليوم واحدةً من أكثر اللحظات التاريخية تعقيدًا في مسيرتهم المعاصرة. إنها لحظة ما بعد الألم، وما بعد الانقسام، حيث تتنازع في داخل كل واحدٍ منا مشاعر الحيرة، والخذلان، والبحث عن المعنى. لقد مرّ هذا الشعب بسنواتٍ من الدمار الروحي والمادي، فقدَ فيها بوصلة الاتجاه، وتاهت الهوية بين المذهب والعِرق، وبين الشعارات المتصارعة التي ادّعت جميعها امتلاك الحقيقة. لكن الحقيقة أن سورية اليوم ليست بحاجة إلى من “ينتصر” على الآخر، بل إلى من ينتصر للإنسان فيها، ويعيد اكتشاف معنى الوطن والوعي الوطني.
أولا: أمراض السوريين اليوم ليست جسدية فحسب، بل هي أمراض وعيٍ وهويةٍ وضمير. إنها نتيجة استبدادٍ طويل صادر حرية الإنسان، وخنق الحياة السياسية والثقافية، واحتكر الحقيقة باسم الدين أو الوطنية. السوريون الآن في حالة غيبوبة وطنية عميقة، أقرب إلى العناية المشددة، بعد أن تمزقوا طوائف ومذاهب وأعراقًا، وكل طرفٍ يرى نفسه الضحية الوحيدة، والحامل للحقيقة المطلقة. والحقيقة أن الجميع مظلوم، والجميع خاسر، ولهذا نحن بحاجة إلى عدالة انتقالية حقيقية، وإلى تسوية وطنية لا مكوناتية، تُعيد الاعتبار للوطن كفكرةٍ جامعة لا كهوياتٍ متناحرة.
ثانيا: الهوية لا تُولد جاهزة، بل تتشكل عبر التجربة والمعرفة. الإنسان يُجبر منذ ولادته على انتماءاتٍ لم يخترها: دينه، مذهبه، منطقته، وبيئته، لكنه مع الزمن ومع اتساع مداركه يكتشف أن الانتماء الإنساني والثقافي أوسع من كل هذه الدوائر الضيقة. قال الفيلسوف ابن رشد: “إذا كان العقل هو أعدل قسمة بين الناس، فكيف نقبل أن يحتكره أحد باسم الدين؟”
إن غياب الحوار الوطني، وانهيار مفهوم الجيش الوطني الجامع، وتراجع مؤسسات الدولة، جعل الانغلاق المذهبي بديلاً عن الانتماء الوطني، والتعصب بديلاً عن التفكير. وهكذا تحوّل التطرف إلى مقتلٍ مشترك، وسقطت الدولة في فخ الصراع الهويّاتي بدل البناء المؤسسي.
ثالثا: قبل أيام، شاهدتُ فيديو لأحد الجهلة يشرح فيه أن “العلمانية” تعني المثلية والانحلال وتفكيك الأسرة! هذا النموذج من التفكير ليس جهلًا فقط، بل تشويه متعمّد للعقل. الحقيقة أن الدولة الحديثة لا علاقة لها بالدين، لأنها تُدار بالكفاءة لا بالعقيدة. ليست الكهرباء سنية، ولا النفط علويا، ولا المياه كردية، ولا التعليم مسيحيا. الوزارات التقنية تُدار بالعقل والمعرفة، لا بالولاء المذهبي.
قال محمد عبده في القرن التاسع عشر: “رأيت في الغرب إسلامًا بلا مسلمين، ورأيت في الشرق مسلمين بلا إسلام.”
فالقضية ليست في المعتقد، بل في السلوك. الإيمان الحقيقي يُقاس بالعمل والنزاهة، لا بالشكليات.
في الاقتصاد لا مكان للمذهب، بل للقانون. في الجامعات لا مكان للطائفة، بل للبحث العلمي. وفي الطب، كما في السير، معيار واحد هو احترام الحياة. الدين قيمة أخلاقية فردية، لا وسيلة للهيمنة أو الإقصاء.
رابعا: الصراع في سورية ليس بين “إسلاميين” و”علمانيين” كما يُروّج البعض، فذلك تضليلٌ كبير. الصراع الحقيقي هو بين المتطرفين والمنغلقين الذين يريدون إعادتنا إلى عصور الظلام، وبين التيارات الوطنية المعتدلة التي تؤمن بالتنوع والوسطية. سورية كانت عبر التاريخ جسرا للحضارات، لا ساحة حربٍ بين العقائد. التطرف دخيل على هذه الأرض، ومدمرٌ للدين قبل أن يكون مدمرا للمجتمع.
أما حديث “الأكثرية والأقليات” فهو فكرة مشبوهة، تُزرع لتفجير الدولة من الداخل. فالمسيحيون، والمسلمون، والكرد، والتركمان، والإسماعيليون، والعلويون… جميعهم سوريون أصيلون، لا ضيوف على هذه الأرض، بل شركاء في ترابها وتاريخها وحاضرها.
خامسا: المضحك المبكي أن كثيرين من مؤيدي السلطة يعيشون اليوم في أوروبا العلمانية، يمدحون القانون والنظافة والعدالة والبحث العلمي، لكنهم في الوقت نفسه يريدون “إمارة ظلامية” في دمشق! أليس هذا مرضًا نفسيًا وانفصامًا في الوعي؟ كيف يمكن لإنسان أن يقدّس الحداثة في أوروبا، ويرفضها في بلده؟ أليس هذا جوهر الانتهازية؟
قال المفكر طه حسين: “العلم كالماء والهواء، لا يُمنع عن أحد.”
فهل يُعقل أن نحرم أنفسنا من الأكسجين الفكري الذي نراه أمامنا في العالم، لنعيش في غرفة مغلقة مليئة بالهواء الفاسد؟
سادسا: إن مستقبل سورية لن يُبنى إلا على دولة المواطنة، دولة القانون والمؤسسات، لا دولة الولاءات والامتيازات. السوريون بحاجة إلى مشروع وطني ديمقراطي تعددي، لا طائفي ولا إثني، يُعيد الاعتبار للإنسان والعقل، ويؤمن أن الخلاص جماعي لا فردي، وأن الوطن لا يُختصر في حزب أو طائفة أو زعيم.
كما قال المفكر الإيراني علي شريعتي: “المشكلة ليست في أن نكون مختلفين، بل في أن نحول اختلافنا إلى سلاح.”
لقد آن الأوان أن نتحول من رعايا إلى مواطنين، من أتباع إلى شركاء في بناء الدولة.
سابعا: أيها الشباب السوريون، أنتم أمل هذا الوطن وضميره الباقي. لا تخشوا من التغيير، وامتلكوا الشجاعة التي ربما لم نمتلكها نحن. ابنوا شيئًا جديدًا تمامًا، يحمل وجع سورية ولكن لا يرث أحقادها. تعلموا من الدماء التي سالت، ومن الانقسامات التي أوجعتنا، ولكن لا تسمحوا لها أن تسرق منكم إنسانيتكم.
لا تحقدوا، فالحقد قاتل لصاحبه قبل أن يصيب غيره. آمنوا أن من يزرع المحبة يصنع الأمان، وأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع بالوعي والعمل. أنتم جيل مختلف، قادر على صناعة سورية جديدة، عادلة، حرة، حديثة، لا مكان فيها للمتطرفين ولا للمتاجرين بالدين أو الوطنية.
الخاتمة:
إن الطريق نحو الشفاء الوطني يبدأ من الاعتراف لا من الإنكار، ومن الحوار لا من الإقصاء. سورية لا تحتاج إلى من يعظها باسم الله أو الوطن، بل إلى من يبنيها باسم الإنسان. إلى شبابٍ يعرفون أن العدالة لا تُصنع بالحقد، وأن الدين بلا عدالةٍ قشرة بلا روح، وأن الوطنية بلا حريةٍ كذبة بلا معنى.
فلنضع ما مزقنا خلفنا، ولنفتح نوافذ العقل على ضوءٍ جديد. سورية الجميلة تنتظر أبناءها لتنهض، لا بالسلاح، بل بالفكر، بالعلم، وبالضمير الحي. فمن رحم هذا الوجع الكبير يمكن أن تولد سورية أخرى، إذا امتلك شبابها الشجاعة التي غابت عنا، والإرادة التي تعيد إليها قلبها النابض بالحياة.
وكما قال جبران خليل جبران:
“ويلٌ لأمةٍ تكثر فيها المذاهب وتخلو من الدين، وتكثر فيها الطوائف وتخلو من الوطن.”
الكاتب: د. بسام أبو عبد الله