قراءات سياسية فكرية استراتيجية

السماء التي تخون الجغرافيا: قراءة جيوسياسية في زيارة أسعد الشيباني إلى بيروت

لم يكن التحليق من دمشق إلى بيروت مجرد حركة بين مطارين، بل فعلا سياسيا يتقن التمويه.
اختار الشيباني الجوّ لأن الأرض لم تعد تضمن لسوريا شيئا من السيادة، فالبرّ اليوم ليس طريقاً، بل مشهداً مفتوحاً على التعدد والشكوك، وهو بكل ما فيه من تضاريس متكسّرة وقُرى منهكة، يُذكّر سوريا بأن الجغرافيا التي هي جزء منها ذات يوم لم تعد تستجيب لها.

في الجوّ، تتوحّد الأشياء، فالمدن تصغر، والحدود تختفي.
ربما لهذا اختار الشيباني أن يطلّ على لبنان من السماء، حيث يبدو المكان أقل التباسا والسياسة أكثر فجاجة، لكن ما يبدو فيزيائيا كرحلة قصيرة، هو في الحقيقة هروبٌ من الأرض التي تكشف هشاشة الدولة السورية الجديدة؛ دولة ما بعد الانهيار، التي تحاول إعادة تعريف نفسها عبر الرموز، لا عبر النفوذ الفعلي.

بين الرمزية والسيادة: بيروت كاختبار للوعي السوري

بيروت بالنسبة لدمشق ليست مجرد جارة، فهي مرآة لما فقدته سوريا من حيوية وجود، وما لم تكتسبه بعد من احترام، ففي الماضي، كان حضور سوريا في لبنان حضورا إقليمياً قوياً؛ واليوم تحاول أن تصنع حضورا متكافئا لكنه بلا أدوات.
زيارة الشيباني جاءت في هذا الفراغ بين ذاكرة السيطرة وعجز المبادرة، كأنها محاولة لإعادة تدوير النفوذ بلغة دبلوماسية جديدة.

في المؤتمر الصحفي المشترك، تحدث الشيباني عن “تجاوز الماضي”، لكن الجغرافيا لا تُمحى بالتصريحات، فالمسافة السياسية بين دمشق وبيروت لم تختصر بالطائرة؛ إنها ما تزال مرسومة بخطوط الارتياب، وكل مجاملة دبلوماسية في تلك القاعة كانت تخفي معادلة قاسية بأن لبنان بات يعرف نفسه خارج المدار السوري، فيما ما تزال سوريا تبحث عن مدارها الجديد.

الملفات الأربعة… جغرافيا النفوذ المقنّع

ما قُدّم في اللقاءات الثنائية على أنه “لجان مشتركة” هو في جوهره إعادة تفاوض على الخرائط، فكانت الحدود، واللاجئون، والموقوفون، والتعاون الاقتصادي أربعة عناوين تقنية تُخفي صراعا أعمق حول من يملك الحق في تعريف المجال الحيوي بين البلدين.

في ملف الحدود، تحاول السلطة في دمشق أن تثبت أنها لا تريد بيروت كسلطة، بل كشريك في إدارة الجوار، لكن الشراكة الحقيقية لا تُمنح ببيانٍ مشترك، بل تُختبر عند أول خلاف ميداني أو بحري.
وفي ملف اللاجئين، تستخدم السلطة لغة العودة الطوعية لتكريس فكرة الاستقرار، بينما يرى لبنان في اللاجئين عبئا ديموغرافيا لا ورقة سياسية، وبين الطرفين، تتحول الجغرافيا الإنسانية إلى ساحة تبادل ضغط مقنّع.
أما ملف الموقوفين، فهو أكثر الملفات انكشافا؛ إذ يعيد إلى الواجهة سؤال العدالة الذي تحاول سوريا تجاوزه دون مواجهته.
وأخيرا، الاقتصاد، فالحديث عن التكامل الاقتصادي يُخفي واقعا أكثر تعقيدا، دولة بلا عملة مستقرة تحاول بناء “جوارٍ تنموي” مع دولة بلا حكومة فاعلة.
الواقع أن كل هذه الملفات ليست سوى محاولات لترميم العلاقة من جديد، فما تغيّر متعلق بكيفية فهم السلطة في دمشق لطبيعة العلاقة مع لبنان، لكن الجوهر ما يزال هشّا ومؤقتا.

بيروت كمساحة اختبار لمفهوم السيادة السورية الجديدة

في تحليقه فوق الحدود، بدا الشيباني كمن يحاول إعادة تعريف السيادة السورية من خارج حدودها الطبيعية، لكن السيادة لا تُمارس من الجوّ، بل من قدرة الدولة على فهم محيطها الواقعي.
سياسة السلطة السورية الجديدة، وهي تحاول الانفتاح على بيروت، تبدو عالقة بين طموحين متناقضين، فهي تتصرف كدولة طبيعية، وتحال الاحتفاظ بهامش النفوذ الذي يذكّرها بالماضي الإقليمي لسوريا، إلا أن بيروت اليوم لم تعد في زمن التسعينيات، حيث أنهكها الانهيار المالي والسياسي، لكنها ما زالت تحتفظ بحساسية مفرطة تجاه أي سلطة في دمشق.
ولهذا بدت الزيارة، على رمزيتها، وكأنها اصطدام بين صورتين للسيادة:
واحدة تسعى السلطة بدمشق لتأكيدها عبر البروتوكول، وأخرى يدافع عنها لبنان ببرود القانون والعجز في آنٍ واحد.

في نهاية المطاف، السلطة السورية التي حلّقت إلى بيروت لم تلتقِ لبنان الذي على الأرض، التفاهم ظلّ في الهواء، معلّقا بين النيات الحسنة والمصالح المؤجلة.

مشهد ما بعد النفوذ: المشرق يعيد رسم نفسه

الزيارة ليست حدثا لبنانيا – سورياً فقط، بل فصلا من إعادة هندسة المشرق العربي بعد عقد من الانهيار،
فالمعادلات القديمة انهارت، لتحلّ مكانها خريطة هشّة من الكيانات التي تحاول التفاوض على معنى البقاء، وفي هذا السياق، بدت السلطة في سوريا تبحث عن موطئ قدم في نظام إقليمي جديد لم يتبلور بعد.

التحليق إلى بيروت هو مجازٌ لحركةٍ أوسع؛ السلطة في دمشق تحاول أن تقفز فوق الجغرافيا، لكنها حين تهبط، تجد أن الأرض لم تعد كما في تصورها، فالتحولات الاقتصادية في شرق المتوسط، وصعود الممرات الجديدة للطاقة والتجارة، أعادت تعريف المشرق بوصفه فضاء تنافسيا لا مجالا للهيمنة، وسوريا، التي كانت يومًا “قلب العروبة”، صارت اليوم “عقدة الجغرافيا”، فهي موجودة في الوسط، لكن بلا محور واضح.

ما وراء الرمزية: فشل الجغرافيا السورية في توليد سياسة جديدة

كل ما فعله الشيباني في بيروت كان محاولة لإقناع الجغرافيا بالتنازل أمام الدبلوماسية، لكن المشرق لا يرحم الرموز، فالسياسة فيه لا تُقاس بالنوايا، بل بمدى اتساع النفوذ وعمق السيطرة، وسوريا اليوم لا تملك هذا ولا ذاك.

التحليق فوق الحدود بدا كمحاولة لرسم خريطة جديدة، لكنه في الجوهر إقرار بأن الخريطة القديمة لم تعد صالحة ولا الجديدة مكتملة.
إنها سياسة مؤقتة تُدار من ارتفاعٍ منخفض، لا تملك أن تهبط لأنها تخشى الاصطدام بالواقع.

حتى لغة الانفتاح التي يتحدث بها الشيباني تخفي هشاشة داخلية، فالسلطة التي لم تستطع بعد أن تعيد لمدنها استقرارها، ولا يمكنها أن تعيد تعريف جوارها، وفي النهاية، كل دبلوماسية بلا عمق اقتصادي ولا حضور استراتيجي تتحوّل إلى مسرح رمزي في فضاء غير مستقر.

بين السماء والسيادة

حين حطّت الطائرة السورية في بيروت، بدا المشهد مرتبا من العلم السوري، والسجاد الأحمر، والتصريحات المتوازنة، لكن خلف الصورة ظلّ السؤال معلّقا، فهل تستطيع سوريا أن تعود إلى الإقليم وهي لم تعد سيدة جغرافيتها؟

التحليق فوق الأرض اللبنانية كان إعلانا ناعما عن واقعٍ صلب، حيث سياسة السلطة السورية الجديدة تحاول أن تتصرّف كقوة إقليمية من دون أن تمتلك بنية القوة، وهي تريد أن تعود إلى بيروت من موقع الندّ، لكنها لا تزال تبحث عن معادلة ندّيتها مع نفسها أولا.

في الجغرافيا السياسية ليست المسافات هي ما يحدّد النفوذ، بل القدرة على ملء الفراغات بالمعنى، وسوريا اليوم، رغم لغة سلطتها الجديدة التي تتحدث عن حسن الجوار، ما تزال تحلّق فوق فراغٍ لم يُملأ بعد؛ فراغ في السلطة، وفي الرؤية، وفي الإحساس بالمكان.

وهكذا، انتهت زيارة الشيباني كما بدأت، رحلة في السماء فوق أرض لا تزال بلا خريطة واضحة، ورحلة تكشف أن المشرق، في لحظته الراهنة، لا يُدار من العواصم، بل من الجغرافيا التي تُقاوم كل محاولة لإخضاعها للسياسة.

السماء التي تخون الجغرافيا: قراءة جيوسياسية في زيارة أسعد الشيباني إلى بيروت (أكتوبر 2025)

اللاجئون: يُقدَّر عددهم بنحو 1.3 مليون سوري في لبنان حتى نهاية يوليو 2025، مع عودة آلافٍ منهم بعد التغييرات السياسية الأخيرة.
الموقوفون: نحو 2,000 سوري محتجزون في لبنان، ويُستَخدم بعضهم كورقة تفاوض دبلوماسية.
الحدود: نزوح أكثر من 300,000 شخص جرّاء الاشتباكات الحدودية والتصعيد العسكري بين عامَي 2024 و2025.
التعاون الاقتصادي: بلغ حجم الواردات اللبنانية من سوريا نحو 130 مليون دولار في عام 2023، مع مؤشراتٍ على تحسّنٍ متوقّع خلال 2025.
الرسم البياني محسوب على المقياس اللوغاريتمي يحول القيم إلى لوغاريتمها ليظهر جميع الأعمدة بوضوح رغم الاختلافات الهائلة في الأحجام، مع التركيز على التغييرات النسبية لا المطلقة.

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار