ثمة الأن علم جديد يطلق عليه اسم “الاقتصادات السلوكية”.
هذا الفرع الجديد من علم الاقتصاد يُطبّق البحث العلمي على العوامل البشرية والاجتماعية، والمعرفية والعاطفية، لمحاولة فهم دوافع قرارات الإنسان الاقتصادية.
وعلى سبيل المثال، يرى علماء الاقتصادات السلوكية أن الدماغ البشري بَرْمَجَ نفسه على التفكير قصير الأمد. لماذا؟ لأن التطور كافأ النجاحات السريعة في تجنّب الضواري والمخاطر الأخرى التي واجهها أجدادنا في العصر الحجري. وعلى رغم أن هذا كان أمراً إيجابياً في الماضي، إلا أنه أصبح سلبياً الآن. فالمخاطر القديمة زالت، لكننا لانزال نفكّر على المدى القصير.
أنصار هذا الفرع من الاقتصاد ينطلقون من هذه المقولة ليدعوا إلى تفكير جديد بعيد المدى، يقود إلى استيلاد رأسمالية جديدة يسمونها “الرأسمالية المُستدامة”. وهم يرون في ذلك المخرج الوحيد من الأزمات المالية – الاقتصادية الحالية، ناهيك عن أنها قد تكون الطريقة الوحيدة لوقف قذف 90 طناً يومياً من الملوثات إلى الغلاف الجوي للأرض، ما يؤدي إلى كارثة الاحتباس الحراري الراهنة.
قد نتفق أو نختلف مع هؤلاء حول إمكانية ولادة مثل هذه الرأسمالية. فهذه الأخيرة كانت منذ ولادتها في القرن السادس عشر، ولاتزال في القرن الحادي والعشرين، تتمحور حول ما يسميه الفيلسوف الأميركي آيان راند “الأنانية العقلانية” التي تعتبر أنه حين يبحث الفرد عن مصالحه الخاصة بحرية ومن دون تدخل الدولة، يكون “أخلاقياً في أنانيته”.
ولأن هذه “الأخلاقية الأنانية”، التي تم تبينها كلياً في الغرب الأميركي، لاتستطيع التفكير بمصالح بعيدة المدى (خاصة منها المصلحة العامة البشرية أو العالمية)، سيكون من المستحيل عملياً استيلاد “رأسمالية مُستدامة”. هذا بالطبع إلا إذا ما قامت الاشتراكية ببناء هذا النمط من الرأسمالية، كما تدّعي الصين أنها تقوم به الآن!
بيد أننا قد نتفق مع هذه النظرية في أمر آخر: البرمجة الخاطئة لأدمغتنا، والتي تدفعنا (كما كان أينشتاين يُردد) إلى “محاولة حل المشاكل، عبر استخدام النمط نفسه من التفكير الذي استعملناه حين خلقنا هذه المشاكل”.
فلنتلفت قليلاً حولنا. ماذا سنجد؟
حروب وصراعات. أحقاد وضغائن. أزمات نفسية تتحوّل إلى أمراض عضوية عضال. سعادة مفقودة وتعاسة مقيمة. قتل على الهوية الدينية أو العرقية، وقتال على الطريقة التي يقرر بها الله تعالى أن يتجلى في العالم.
إنها حقاً جهنم على الأرض.
وما أسبابها؟
ثمة سبب رئيس: البشر لازالوا يعتقدون أنهم يعيشون في العصر الحجري حيث الحيوانات الضارية والمفترسة، والبرد أو الحر القاتلين، والندرة في المأكل والمشرب. وهذا ما يدفعهم إلى وضع صراع البقاء أو البقاء للأصلح (Survival of the fittest) على رأس جدول أعمالهم.
الظروف الخارجية تغيّرت كلياً، لكن الساعات البيولوجية لأدمغتنا لاتزال متوقفة عند السنة المليون قبل الميلاد. هذا بالطبع عدا قلة قليلة كانت هي الناجية من هذا الجحيم الأرضي، لأنها اكتشفت أنه لايتعيّن عليها لكي تحصل على الخبز والسعادة أن تخوض الحروب الضروس، أو تنغمس في لجج الأحقاد الاجتماعية القاتلة.
والسؤال الآن هو: هل سيكون في وسع هذه القلة أن تقود (أو على الأقل تدل) الكثرة الكاثرة على كيفية الخروج من هذا الجحيم الأرضي؟
ثمة طريقان: أحدهما مستحيل والآخر لامفر منه.
الطريق الأول هو الخلاص الفردي، أو القومي، أو حتى الإقليمي. وهو كان ممكناً في الماضي القريب والبعيد، لكنه بات مستحيلاً الأن بعد أن استحال العالم إلى ما يشبه خلية نحل واحدة. فالروابط بين التغيرات فيه بات متشابكة إلى الدرجة التي لم يعد في المقدور معها تمييز ماهو محلي فيه بما هو عالمي، وماهو فردي بما هو جماعي. وهذا على كل المستويات: الاقتصادية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والديموغرافية، والثقافية التي تحدد نمط وجودنا اليومي على هذا الكوكب.
والطريق الثاني، القائم على الخلاص العالمي الجماعي، لم يعد ثمة مفر منه ليس للأسباب أعلاه وحسب، بل أيضاً لأن نمط حياتنا اليومية سيقرر مصير الوجود البشري نفسه، وربما ديمومة الحياة نفسها على الأرض. وهنا نقصد بالطبع التأثّر المشترك لكل الدول والأمم والقارات بظاهرة تغيّر المناخ وارتفاع درجة حرارة الأرض.
لكن، ما الشكل المُحتمل لهذا النوع من الخلاص؟
إنه ذاك الذي يستند إلى الإفادة من كل سقطات الجنس البشري، منذ بدء تأريخ الحضارات قبل عشرة آلاف سنة إلى “نهاية التاريخ” في القرن الحادي والعشرين.
وهي، بالمناسبة، سقطات مريعة.
فقد فشل معظم الحضارات في إقامة التوازن الدقيق والمطلوب بين المادة والروح، وبين المصالح والقيم، وبين الفردي والجماعي. وهذا انطبق على الحضارات الشرقية التي غلبّت كفة الروحانيات على المادة فخسرت في العصور الحديثة لعبة موازين القوى. كما انطبق على الحضارات الغربية التي تسربلت حتى النخاع بالنزعة المادية فخسرت روحها.
وما جرى على مستوى الحضارات، سرى على جبهة الإديولوجيات.
فـ”الاشتراكية العلمية”، التي علّق عليها الكثيرون كبير الآمال بأن تُنهي الحروب وتؤسس لنهاية تاريخ حقيقي، اسقطت من اعتبارها الجوانب الإيجابية في كلٍ من التجربة الرأسمالية ( الديمقراطية) والحضارات الشرقية (الروح)، فسقطت في لجج الديكتاتوريات على أنواعها.
والرأسمالية الليبرالية، وعلى رغم أنها نجحت في امتحان النمو الاقصادي والهيمنة (بدل السيطرة) الثقافية والفكرية، تسير الآن على الطريق نفسه الذي سبقته إليها الاشتراكية: ديكتاتورية السوق الأعمى والتدمير التدريجي للديمقراطية.
ثم جاءت السقطة المريعة الأخرى، حين حوّلت القوى الرأسمالية الثورة الكبرى في مجالي البيوتكنولوجيا وتقنية الاتصالات، إلى وسيلة لإغناء الأغنياء وإفقار الفقراء. وهكذا قسمت العالم برمته إلى قسمين: قسم لايتجاوز عدده الستة آلاف عائلة يقوم على خدمتها 20 في المئة من المجتمع، وتسيطر وحدها على كل مفاتيح هذه التكنولوجيا واستهدافاتها. وفريق يشمل ثلاثة أرباع البشرية يتم طرحه الآن بوحشية على ناصية التاريخ.
وبالطبع، لايجب أن ننسى الكارثة البئيية التي ولدت أساساً في حضن فكر مادي بحت، يرى إلى الطبيعة بوصفها بقرة يجب تقطيع أوصالها، لا أمّاً رؤوم يتعيّن الحنو عليها والتأقلم مع قوانينها.
هذه هي المعاصي الكبرى التي وقع فيها الجنس البشري. وهي تتشابك الآن للمرة الأولى في التاريخ مع بعضها البعض لتشكل تهديداً مباشراً لوجود هذا الجنس نفسه.
ولكي نطرق طريق الخلاص، علينا أن نعمل معاً لنحل كل هذه الرزايا معاً، عبر الانتقال من “صراع البقاء” إلى “صراع النقاء”.
ليس هناك خيار آخر، لأن بديله هو .. انقراض الجنس البشري.