قراءات سياسية فكرية استراتيجية

الصراع بين الغرب وروسيا: التاريخ والأسباب والآفاق (منذ سقوط القسطنطينية إلى اليوم) تقييم روسي لطبيعة الصراع (2-2)

كان أول حصار عثماني فعلي للعاصمة البيزنطية في خريف 1394، نتيجة رفض الإمبراطور مانويل الثاني المشاركة في الحملات العسكرية التي قادها بايزيد في آسيا الصغرى. واستمر الحصار العثماني للقسطنطينية نحو ثماني سنوات، إلا أن المدينة نجت بفضل هزيمة العثمانيين في معركة أنقرة 1402 على يد الأمير التيموري تيمور (تيمورلنك)، وهو ما اعتبره البيزنطيون معجزة إلهية استجابة لصلواتهم للعذراء مريم.
بعد معركة أنقرة، دخلت الدولة العثمانية فترة من الصراع الداخلي الطويل بين أبناء بايزيد الأول على الخلافة: سليمان، موسى، ومحمد. وخلال هذه الفترة، خرجت بيزنطة من حيادها ودعمت أحد الأطراف في النزاع العثماني.
في 1403، تم التوصل إلى اتفاق في جاليبولي بين السلطان سليمان والتحالف المسيحي الذي شمل بيزنطة والبندقية وجنوة وصربيا ودوقية ناكسوس ورهبان رودس. دعمت بيزنطة سليمان، وفي أيار 1410 بدأ البيزنطيون، بمساندة محتملة من الجنويين (جينوى)، حصار جاليبولي كجزء من هذا التحالف.
في 15 حزيران 1410، هزم السلطان العثماني سليمان جيش أخيه موسى تشيلبي في ضواحي القسطنطينية بمنطقة كوسميديون، واستُقبل حليفه التركي استقبالا احتفاليًا في المدينة. إلا أن موسى استعاد المبادرة بانتصار على سليمان في شباط 1411، مما هدد القسطنطينية ووضعها أمام مخاطر جديدة. في صيف ذلك العام، حاصر جيش السلطان، المدعوم بتحالف مع البندقية وصربيا وولاشيا، العاصمة البيزنطية مجددًا.
خلال هذه الفترة، أرسل الملك الروماني-الألماني سيغموند رسائل إلى الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني بين 1410 و1412، يقترح فيها التعاون العسكري مع البابا يوحنا الثالث والعشرين ودعم الكنيسة لمواجهة التهديد العثماني. وأشار سيغموند إلى أن مصائب القسطنطينية كانت نتيجة خيانة البندقية، التي دعمت الأتراك مباشرة.
فضّلت بيزنطة، مع ذلك، التعامل مع الحاكم العثماني محمد في الأناضول، الذي عبرت قواته بمساعدة السفن البيزنطية والجنوية إلى الضفة الأوروبية، وهزم موسى في ربيع 1412، منهية الحصار ومكرسة نفوذ حاكم عثماني موالٍ لها في المنطقة.
بعد وفاة محمد الأول (1413–1421)، دعمت بيزنطة أخاه مصطفى كمرشح للعرش، لكنه هُزم على يد ابن أخيه مراد الثاني، الذي قرر معاقبة الإمبراطورية البيزنطية بحصار جديد في 1422. وصلت أولى الفرق العثمانية بقيادة ميخالوغلو إلى أسوار القسطنطينية في 10 حزيران، وانضم إليها السلطان مراد الثاني مع التعزيزات في 20 حزيران.
بعد حصار دام شهرين، كانت المحاولة الحاسمة في 24 آب، وفق توقيت الهجوم الذي حدده الفلكي مرسايتا، إلا أن البيزنطيين فسّروا انسحاب العثمانيين على أنه معجزة ظهور العذراء على أسوار المدينة.
أدى الاتفاق المبرم في شباط1424 إلى تثبيت تبعية الإمبراطورية البيزنطية للأتراك: التزمت بيزنطة بإعادة الأراضي على ساحل بحر مرمرة والبحر الأسود ودفع جزية سنوية قدرها 30 ألف قطعة فضية، مع التقيّد بعدم المساس بمصالح الدولة العثمانية، إضافة إلى اعتبار مغادرة الإمبراطور يوحنا الثامن باليولوج إلى مجمع فيرارا-فلورنسا في تشرين الثاني 1437 خرقًا لمعاهدة 1424، ما أثار غضب السلطان الذي خشي من تقارب سياسي محتمل بين بيزنطة والغرب.
وفي ربيع 1438، ظهرت قوات مراد الثاني قرب أسوار القسطنطينية خلال حملة السلطان على البحر الأسود، فتوجهت بيزنطة بسرعة إلى البندقية طلبًا للمساعدة. وقرر مجلس الشيوخ في 24 أيار 1438 أن الجمهورية على استعداد لإرسال السفن، بشرط تحمل البابا والإمبراطور البيزنطي تكاليف تسليحها. وبذلك أصبح «العامل العثماني» حاسمًا في توقيع الاتحاد 1439، الذي حدّد فعليًا مصير القسطنطينية في حال رفض الغرب تقديم المساعدة العسكرية.
في شتاء 1451–1452، أمر السلطان محمد الثاني الفاتح (1444–1446، 1451–1481)، على غرار بايزيد الأول، ببدء بناء قلعة روميلي (بوغاز-كسن) في أضيق نقطة لمضيق البوسفور، مما قطع القسطنطينية عن البحر الأسود، وهو الخطوة الأولى نحو الحصار النهائي للعاصمة البيزنطية، بينما حاول البيزنطيون عبثًا إلزام السلطان بالحفاظ على وحدة الأراضي البيزنطية.
بحلول منتصف القرن الخامس عشر، لم تكن الإمبراطورية البيزنطية تملك إلا القسطنطينية وضواحيها وجزءًا من شبه جزيرة البيلوبونيز»، كما تقلص عدد السكان من أكثر من مليون نسمة إلى نحو 50 ألف نسمة تقريبًا، ومع ذلك استمرت المدينة في الصمود أمام الغزاة.
كان آخر أباطرة البيزنطيين هو قسطنطين الحادي عشر باليولوج، الذي يصفه المؤرخون بأنه حاكم نشط وموهوب. وعلى الرغم من جميع الصعاب، حاول تحفيز رعاياه والبحث عن حلول للأزمة التي اجتاحت الإمبراطورية. أجرى مفاوضات مع الأتراك وسعى في الوقت نفسه لكسب دعم الدول الأوروبية، لكنه لم يتمكن من إحداث تغيير جذري.
كان السلطان العثماني محمد الثاني مصممًا على القضاء على ما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية، ومن بين الحلفاء الغربيين، لم يقدم الدعم سوى بعض المدن الإيطالية فقط، وكان دعمًا محدودًا لقسطنطين..
في عام 1452، بنى العثمانيون قلعة عند أضيق نقطة من مضيق البوسفور ومنعوا مرور السفن الأجنبية دون تفتيش. وأُغرقت سفينة البندقية التي حاولت انتهاك هذا الحظر، وأُعدم طاقمها. وبهذا توقفت حرية الملاحة في المضائق، وفقدت القسطنطينية أحد أهم طرق الحصول على التعزيزات والإمدادات.
في بداية عام 1453، بدأ العثمانيون التحضير للهجوم الحاسم على العاصمة البيزنطية. وأجبروا المدن البيزنطية في تراقيا على الاستسلام، وبدأوا في جمع جيش يُقدّر معظم المؤرخين أنه وصل إلى 80–100 ألف جندي. كما أولوا اهتمامًا بالغًا بتطوير المدفعية والأسطول، وأُرسلت معظم السفن العثمانية إلى منطقة القسطنطينية.
معركة القسطنطينية الأخيرة- نسخة روسية لصورة الحصار
وفق المراجع الروسية، فإن دفاعات القسطنطينية استمرت في عام 1453 مدة 57 يومًا، من 2 نيسان حتى 29 أيار، وكان من الممكن أن تكون ناجحة إلى حد كبير لولا سلسلة من الأحداث المأساوية. في أوائل نيسان 1453، وصلت الطلائع التركية إلى محيط القسطنطينية. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي كانت تمر بها الإمبراطورية البيزنطية، كانت مهمة العثمانيين صعبة. فقد كانت أسوار المدينة، وفقًا لتقديرات المؤرخين، من أقوى الأسوار في العالم. كما كان خليج القرن الذهبي مغلقًا بسلسلة تمنع مرور السفن التركية إليه. لقد كانت أكبر مشكلة واجهها المدافعون عن القسطنطينية تتمثل بنقص القوى البشرية. فقد تمكنوا فقط من حماية الاتجاهات الأكثر خطرًا بشكل كافٍ.
كان الجيش المدافع عن القسطنطينية صغيرًا نسبيًا، يبلغ نحو 7000 رجل، بينهم 2000 أجنبي. وكان قائد الدفاع عن أسوار المدينة هو القائد المرتزق جيوفاني جوستينياني، الذي دافع عن المدينة بنجاح. أما عدد العثمانيين المحاصرين للقسطنطينية، فكان أعلى بعشرة أضعاف تقريبًا، بين 50 و80 ألف جندي، بينهم 5000–10000 إنكشاري، وعدد من الجنود المسيحيين، بما في ذلك 1500 فارس صربي بقيادة جوراج برانكوفيتش. وكان هناك في المعسكر التركي، كمراقب عسكري، السفير المجري، الذي ساعد الأتراك، وفقًا لروايات المؤرخين، بنصائح حول كيفية ترتيب المدافع بشكل صحيح.
أدت مناورة محمد الثاني الناجحة يوم 22 نيسان، عندما أمر بسحب سفنه مباشرة إلى القرن الذهبي متجاوزًا الحاجز الحديدي، إلى إحباط معنويات المدافعين عن القسطنطينية جزئيًا. ازدادت المخاوف لدى المدافعين ليلة 24 أيار، عندما شهدوا خسوفًا للقمر، ما عزز شعورهم بالخطر والهلع.
في 27 أيار، عادت إحدى السفن التي أُرسلت عبثًا للبحث عن الأسطول الذي وعدت به حكومة البندقية، ولم يرسله مجلس الشيوخ بعد، ما عمّق شعور المدافعين بالعزلة والارتباك. خلال هذه الفترة، أُجبر الموكب الديني المنظم على التوقف بسبب الأمطار الغزيرة والبرد القارس، مما أضعف الروح المعنوية للمدينة أكثر.
مع ورود معلومات عن تدهور معنويات الدفاع عن القسطنطينية، أرسل محمد الثاني مبعوثين إلى المدينة في 21 أيار بعرض نهائي للاستسلام. رفض الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر العرض رفضًا قاطعًا، معلنًا أنه يفضل الموت مع مدينته على الخضوع للغزاة.
استشاط محمد الثاني غضبًا من إخفاقاته. وحثّه البعض م حاشيته السلطان على التراجع، لكنه عاند. أرسل الحاكم التركي عمال مناجم لحفر أنفاق تحت أسوار القسطنطينية، لكن المدافعين عن المدينة كشفوا هذه الخطة. في بعض الأماكن، نفخوا الدخان في الأنفاق، وفي أماكن أخرى، أغرقوها بالماء. عندما نصب العثمانيون أبراجًا هجومية على أسوار القسطنطينية، فجّروها. مع ذلك، لم تكن النجاحات الجزئية للبيزنطيين ذات أهمية تُذكر.
كانت المدينة تعاني من نقص في الغذاء. كان المدافعون عنها من البندقية وجنوة يتشاجرون فيما بينهم. عادت سفينة أُرسلت بحثًا عن تعزيزات محتملة خالية الوفاض. قرر مجلس الشيوخ إرسال أسطول البندقية في شباط 1453، لكن انطلاق الأسطول تأخر فعليًا حتى نيسان، وكان الوقت قد فات بحلول ذلك الوقت. غادرت سبع سفن حربية فينيسية العاصمة البيزنطية، مع طواقمها ومفرزة عسكرية يبلغ عدد أفرادها حوالي 700 رجل، هربًا من المدينة رغم تعهدهم بالدفاع عنها. كما فشل البابا نيقولاي الخامس في تنظيم تحالف واسع من الدول المسيحية وتجميع الأسطول الموعود سابقًا، إذ أرسل ثلاث سفن حربية جنوية فقط مع المؤن في نهاية آذار1453. وبهذا، ثبت خطأ حسابات الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر، الذي كان قد أكد الاتحاد مع روما بمرسومه الصادر في 12 كانون الأول1452، إذ لم يقتصر التخلف الغربي على عدم الدعم، بل أبرمت كل من البندقية وجنوة وجمهورية دوبروفنيك معاهدات سرية مع العثمانيين في حال سقوط المدينة.
في 25 أيار1453، عقد السلطان محمد الثاني مجلسًا عسكريًا قرر فيه الاستعداد لهجوم حاسم على القسطنطينية. تعرضت المدينة لقصف عنيف من المدافع، ثم منح السلطان قواته يومًا للراحة قبل بدء الهجوم. بدأ الهجوم على طول خط التماس ليلة 28–29 أيار، وواجه العثمانيون مقاومة شرسة من جميع سكان المدينة. لفترة من الوقت، لم يحقق الأتراك أي نجاح يذكر، ما أظهر قوة الدفاع البيزنطي رغم النقص في الدعم الخارجي.
وفقًا للمؤرخين الروس، لا تزال الظروف الكاملة لسقوط عاصمة الإمبراطورية البيزنطية مجهولة، لكن حدثين لعبا دورًا رئيسيًا: اختراق مجموعة صغيرة من الجنود العثمانيين عبر بوابة كيركوبورتا (بوابة السيرك)، التي استخدمها المدافعون عن المدينة لأعمال المراقبة والاستطلاع، وإصابة جوستينياني بجروح خطيرة، أثناء الدفاع عن الأسوار، وإجلاؤه مع جزء من فرقه بطريقة مفاجئة وغير منسقة، ما أحدث ذعرًا وفوضى بين المدافعين.
لاحظ الأتراك الارتباك في صفوف العدو فكثّفوا هجومهم. اندفع الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بنفسه إلى المعركة، لكنه سرعان ما قُتل. هرب معظم المدافعين عن المدينة أو لقوا حتفهم بأسلحتهم. لم يتمكن العثمانيون من أسر سوى عدد قليل ممن قاتلوا ضدهم. بعد اقتحامهم المدينة، ارتكبوا مجازر وقاموا بأعمال النهب والسلب.
المذبحة والدمار بعد سقوط القسطنطينية (نقيض لما يرد في التاريخ العثماني)
بعد سقوط القسطنطينية في 29 أيار1453، وثّق العديد من المؤرخين والمراقبين المعاصرين مشاهد العنف والدمار التي اجتاحت المدينة. فقد وصف نيكولو باربارو الطبيب من البندقية، الذي كان حاضرًا خلال الحصار، مشهد المدينة بعد سقوطها قائلاً: “تدفقت الدماء في المدينة كالمطر في المزاريب بعد عاصفة مفاجئة، وطفت الجثث في البحر مثل البطيخ في قناة.” دون شك فإن هذا الوصف يعكس حجم العنف الذي شهدته المدينة أثناء وبعد اقتحامها.
وفقًا للمؤرخ جورج سفرانتزيس، تعرضت الكنيسة الكبرى آيا صوفيا لانتهاكات جسيمة، حيث تم اغتصاب رجال ونساء داخلها. كما ذكرت مصادر أخرى غير مؤكدة مقتل فتى أرثوذكسي قام السلطان محمد الثاني بقتله، وهو يبلغ 14 عاما من العمر، لأنه فضل الموت على الوقوع في الأسر.
تورد مصادر أخرى أنه بعد سقوط المدينة، تعرضت الكنائس والأبنية التاريخية للنهب والتدمير. السلطان محمد الثاني سمح بمرحلة من النهب، حيث تم تدمير العديد من الكنائس الأرثوذكسية، لكن حاول منع تدمير كامل للمدينة. في 2 حزيران، وجد السلطان المدينة شبه مهجورة ونصف مدمرة؛ الكنائس دُنسَت ونهبت، والمنازل أصبحت غير صالحة للسكن، والمتاجر والمحلات أُفرغت. يُذكر أنه تأثر بشدة بهذا المشهد، وقال: “يا لها من مدينة سلمناها للنهب والتدمير.”
وفقًا لمؤرخين، تعرض سكان المدينة للقتل والاغتصاب، وتم بيع حوالي 30,000 مدني كعبيد في سوق النخاسة أو تم ترحيلهم قسرًا. هذه الحوادث تشير إلى حجم الفوضى والدمار الذي حل بالقسطنطينية بعد سقوطها.
في كل حال تظهر هذه القصص التاريخية حجم التناقض الشاسع بين المصادر التاريخية العثمانية، والأخرى الروسية في المقلب الآخر، والتي لا تزال مدار سجال لم ولن ينتهي رغم بعد المدة الزمنية.
الاعتقاد الرائج إنه بعد سقوط القسطنطينية، زالت الإمبراطورية البيزنطية تمامًا. لكن مركز الأرثوذكسية إلى الدولة الروسية. شكّل هذا أساسًا لمفهوم روما الثالثة.
وصف ستيفان زفايغ سقوط القسطنطينية بأنه “أروع لحظة في تاريخ البشرية جمعاء”، وهو أحد تلك الأحداث التاريخية التي “حددت مسبقًا السنوات والقرون القادمة، ومصائر مئات الأجيال، ووجّهت حياة الأفراد، وأمم بأكملها، أو حتى البشرية جمعاء”. عادةً ما يرتبط هذا الاضطراب الكبير في القرن الخامس عشر بالحد الزمني بين نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، كما حدده الباحث الألماني كريستوف كيلر (1685).
لقد كان هذا حدثًا عالميًا ذا أهمية تاريخية عالمية، إذ سقط مركز الثقافة العالمية، واختفى كنزٌ من الكنوز الثقافية، كان تأثيره محسوسًا في جميع أنحاء العالم. شكّل سقوط بيزنطة، في المقام الأول، وضعًا جيوسياسيًا جديدًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، التي فقدت على الفور توازن قوتها السياسية الذي دام قرونًا، والذي كان يعتمد على السلطة الدولية العليا للإمبراطورية البيزنطية. وجّهت خسارة القسطنطينية ضربةً قاصمة للعالم المسيحي بأسره، منهيةً بذلك عصر الحروب الصليبية، وموقعةً الغرب في مواجهة عدوٍّ قويٍّ في الشرق. وأدى سقوط القسطنطينية إلى قطع الطريق التجاري الرئيسي من أوروبا إلى آسيا، مما أجبر الأوروبيين على البحث عن طريق بحري جديد، وربما أدى إلى اكتشاف أمريكا وبداية عصر الاكتشافات. وقد مثّلت الهجرة الجماعية لليونانيين إلى إيطاليا نتيجةً لهذا الحدث المأساوي بداية عصر النهضة، الذي شهد انهيار النظام الديني القديم، وامتلأت العديد من جامعات أوروبا الغربية بالعلماء اليونانيين الذين فروا من بيزنطة.
وبذلك، بحلول منتصف القرن السادس عشر، كان هناك اختلاف جذري بين روسيا وأوروبا من حيث النظم السياسية والاقتصادية.
ومع ذلك، كان الغرب بالفعل يسعى منذ تلك الفترة للاستيلاء على روسيا اقتصاديًا؛ على سبيل المثال، كانت أنشطة التجار الإنجليز في أراضي دوقية موسكو، التي بدأت صدفة في البداية، تتطور تدريجيًا نحو التحكم في التجارة الخارجية الروسية بشكل احتكاري. ورغم تطور التبادل الاقتصادي بين الجانبين، الذي كان يعود بالنفع الأكبر على الجانب الإنجليزي مقارنة بالجانب الروسي، لم يتمكن إيفان الرابع (الرهيب) من الحصول على دعم ملموس من إنجلترا خلال الحرب الليفونية. وفي فترة الاضطرابات، بدأ البرلمان البريطاني في لندن فعليًا بطرح فكرة تحويل روسيا إلى حماية إنجليزية. وقد تم الحدّ من التوسع البريطاني في روسيا عمليًا فقط في منتصف القرن السابع عشر.
دور بولندا
منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن السابع عشر، كانت أوروبا الغربية تعيش حالة من الصراعات الدينية والسياسية. في هذا الوقت، دخلت روسيا في سلسلة من الحروب مع بولندا، الدولة التي ضمت بعض الأراضي التاريخية الروسية، والتي كادت في مرحلة ما أن تقضي على روسيا ككيان سياسي.
يجدر التذكير أن ريتش بوسبوليتا (الاتحاد الليفوني) نشأت نتيجة اتحاد مملكة بولندا مع دوقية ليتوانيا الكبرى، حيث كان جزء كبير من الأرستقراطية يتبع الديانة الأرثوذكسية. إلا أن في الدولة المتحدة الجديدة بدأت عملية تمييز منظمة ضد الأرثوذكس، وأُغلقت أمامهم جميع السلالم الاجتماعية تدريجيًا.
وقد كان مصير مشابه يهدد روسيا لاحقًا: فقد كان ديميتري الدجال الأول، الذي راهن عليه في البداية النبلاء البولنديون، قد وعدهم بـ إعادة كثلكة روسيا في فترة قصيرة جدًا. وخلال أحداث فترة الاضطرابات (Смутное время)، شارك اليسوعيون بنشاط، وكان خلفهم الفاتيكان. بشكل عام، كانت جميع تصرفات الأرستقراطية البولندية تجاه الأرثوذكس تتمتع بشعور مطلق بالتفوق والاستثنائية. في هذا الصدد، ظهر البولنديون كـ طلاب جديرين للفرسان الألمان، الذين خاضوا معهم حروبًا مستمرة سابقًا.
تاريخ الصراعات الروسية البولندية هو، في جوهره، تاريخ التقابل بين نظامين سياسيين متناقضين جذريًا: الأوليغارشية الأرستقراطية البولندية (الشلاختا) مقابل الحكم المطلق الروسي. وعلى الرغم من أن بولندا ضغطت على روسيا في البداية، فقد كانت النصر النهائي حليفًا لموسكو: فقد استعادت روسيا أولًا بعض الأراضي الروسية التاريخية، ثم قادت بولندا في النهاية نحو التفكك والانهيار.
بالتوازي مع ذلك، شهدت أوروبا عملية تاريخية جديدة تمامًا – وهي تشكّل الدول القومية، التي تميزت بإنشاء النظام الويستفالي، الذي وفَّق بين الكاثوليك والبروتستانت، وأكد السلطة المطلقة للدولة على أراضيها.
وقد أكد هذا الحدث مرة أخرى متانة البنية الداخلية الأوروبية وقدرتها على التكيف، فقد تمكنت أوروبا من جمع أطراف لم تكن في الأصل مستعدة لأي تسوية: فمن الصعب علينا اليوم تصور مستوى الكراهية الذي كان يشعر به ممثلو الطائفتين المسيحيتين المتنافستين تجاه بعضهم البعض. ومن الواضح أن هذا النظام من الروابط الداخلية غير المرئية والملتوية ساهم في تجميع أوروبا كوحدة واحدة، على الرغم من كونها تتألف من دول مستقلة متعددة.
ويمكن القول إن الدول الأوروبية استمرت في الحروب فيما بينها لثلاثمائة عام إضافية بعد ذلك، إلا أن أوروبا كمفهوم سياسي وثقافي ظلت متماسكة وغير متضررة.
في هذا السياق، بدأت الإصلاحات في روسيا تحت حكم بطرس الأول، الذي نجح بالفعل في جعل روسيا جزءًا من السياسة الأوروبية العامة. ومع ذلك، لا يزال السؤال قائمًا حول مدى نجاحه الفعلي في تحقيق هذا الهدف.
فقد أصبحت الطبقة الحاكمة الروسية مبنية على النمط الأوروبي في مظهرها وسلوكها، مما منحها إمكانية الاندماج الجزئي في النظام السياسي الأوروبي في مراحل معينة.
وأصبحت الإمبراطورية الروسية واحدة من الدول القليلة التي تحدد السياسات على نطاق عالمي، وفي بعض الفترات كانت تعتبر القوة العالمية الأكثر تأثيرًا. ومع ذلك، كانت العلاقات الروسية-الأوروبية تعمل غالبًا على مستوى الأفراد البارزين أكثر مما كانت تعمل عبر هياكل مؤسسية مستقرة ومستدامة.
النموذج الروسي الحديث: التوتر مع الغرب واستقلال السيادة
يبدو هذا منطقياً تمامًا: فقد كان الأمراء الروس يقدّرون سيادتهم بشكل طبيعي، وظهور أي منظمات مرتبطة بما يُعرف اليوم بـ”الدولة العميقة” الأوروبية في روسيا كان يؤدي حتمًا إلى تقويض هذه السيادة وتدميرها.
يمكن أن ندرج ضمن هذه المنظمات دون مواربة، على سبيل المثال، اللوائح الماسونية، التي حُظرت نشاطاتها في أوقات مختلفة من قبل يكاتيرينا الثانية وألكسندر الأول، بالإضافة إلى عدد من الهياكل الأخرى المماثلة، التي غالبًا ما أدت وظائف الاستخبارات بشكل مباشر. إضافة إلى ذلك، كانت روسيا تتوسع باستمرار جغرافيًا، ولذا كان من المستحيل دمجها بشكل كامل في النظام السياسي الغربي الأوروبي. كما أن النخبة الغربية لم تكن مستعدة لاستيعاب الروس كأوروبيين، رغم أن النخبة البطرسبرغية كانت واثقة من انتمائها الروحي لأوروبا.
هذا أدى إلى تباينات واضحة: إذ بدأ النبلاء والمثقفون الروس ينظرون إلى بلادهم “بعيون أوروبية”، فلاحظوا فيها العديد من الاختلافات عن المعايير الغربية، مما أدى إلى ظهور الروسوفوبيا الداخلية ونموها. ومع ذلك، تفوقت روسيا ثقافيًا على جيرانها الأوروبيين؛ فقد أصبحت الثقافة الروسية ذروة الحضارة الأوروبية.
شاركت بطرسبورغ بنشاط في الشؤون الأوروبية، حتى أن الجيران المذعورين شكلوا بحلول منتصف القرن التاسع عشر تحالفًا ضخمًا ضدها، مما أدى إلى هزيمة روسيا في الحرب القرمية.
بعد ذلك، بدأت روسيا تدرك بوضوح أن الغرب ليس راغبًا في استقبالها ضمن صفوفه. ومن الناحية العملية، كانت هذه الفترة بداية سياسة احتواء روسيا، التي سيعيد الأمريكي جورج كينان التأكيد عليها بعد نحو قرن تقريبًا، وما زالت تمارس حتى اليوم.
وقد تصدى الغرب باستمرار للجهود الدبلوماسية الروسية، بما في ذلك السعي لتحرير الشعوب السلافية الأرثوذكسية تحت نير الدولة العثمانية. كما حاول التدخل صراحة في الشؤون الداخلية الروسية، كما حدث في عام 1863 خلال ثورة بولندا. فقد قدمت الدول الأوروبية دعمًا مفتوحًا لأعداء روسيا أو، على الأقل، لم تقدم أي دعم حقيقي.
خلال الحرب العالمية الأولى، شاركت الإمبراطورية الروسية ضمن أحد التحالفات الأوروبية إلى جانب بريطانيا وفرنسا، ومع ذلك، وجهت لندن ضربة من الخلف لروسيا: فقد قامت الاستخبارات البريطانية بكل ما في وسعها للإطاحة بالملكية وإدخال البلاد في فوضى ثورية. ونتيجة لذلك، لم تحصل روسيا، التي كان من المفترض أن تكون ضمن المنتصرين الذين يحددون النظام السياسي العالمي الجديد، إلا على ثورة دموية أخرى، حرب أهلية، وفقدان أراضٍ رئيسية. وبهذا، انتهى تواجد روسيا في السياسة الأوروبية بشكل فعلي.
الوضع المعاصر
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حصل الاتحاد السوفيتي على نصف أوروبا كمجال نفوذ، وبدأ في إعادة تشكيل العالم بشكل نشط. من جهتها، أنهت الدول الغربية خلال الحرب الباردة عملية التوحيد تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت انتصارها في المواجهة مع المعسكر الاشتراكي بمثابة لحظة انتصار غير مسبوقة. منذ ذلك الحين، ركزت جميع جهود الدول الغربية على ترسيخ هذا النجاح، الذي يتمثل في سيطرتها على العالم كله، حرفيًا.
من الواضح مدى سخافة محاولة إقناع الغرب بأن لروسيا مصالح وطنية مستقلة. لم تخض الولايات المتحدة وحلفاؤها الحرب الباردة من أجل الاعتراف بمثل هذه المصالح لأي طرف. واستغلت الدول الغربية السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي لترسيخ هيمنتها المطلقة، ولا تنوي التخلي عنها. وبالواقع، كل السياسة الخارجية الحالية للولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وحلفائهم المباشرين مبنية على انتصارهم في الحرب الباردة. وأي محاولة للمشاركة أو التنازل تعتبر تهديدًا لهذا الانتصار، وهو أمر غير مقبول إطلاقًا.
تكمن جذور سلوك الغرب في الصراع الأوكراني في هذا المنطق بالذات. فـ الحدود ما بعد السوفيتية بالنسبة لهم غير قابلة للمساس، وأي مراجعة لها تحمل خطرًا هائلًا، لأنها ستلغي السيطرة العالمية التي حققتها الحضارة الغربية. فـ “السيد” لا يتنازل ولا يشارك، بل يفرض شروطه، وإلا لم يعد “سيدًا”.
ويزداد الأمر وضوحًا مع روسيا – الدولة التي يُنظر إليها على أنها هُزمت سابقًا (كممثل للاتحاد السوفيتي). أي تنازل لها يعتبر غير مقبول إطلاقًا. لذلك ستواصل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها الضغط إلى أقصى حد، خاصة عندما تظهر موسكو استعدادها للتنازل. ويجب أن تفهم روسيا أخيرًا أن لا أحد في الغرب ينوي التعامل معها على قدم المساواة، لأن ذلك سيخالف عدة مبادئ أساسية للحضارة الغربية الحديثة. أولًا، الغرب بحكم طبيعته لا يتنازل لأحد ولا يحسب حساب أي طرف بجدية. ثانيًا، مثلما في العصور الوسطى، يتمتع الغرب بالوعي التام باستثنائيته الأيديولوجية والروحية.
أما اليوم، فالإيديولوجيا مختلفة، فقد كانت حتى وقت قريب الديمقراطية. فالدول الغربية تسمح لشعوبها باختيار أي حكام شكليين، لأن هؤلاء الحكام في النهاية يخضعون للنظام المعقد من الروابط الأفقية الذي تم بناؤه على مدى قرون.
ما حدث لاحقًا معروف: فقد كان على الاتحاد السوفيتي، الذي نشأ مكان روسيا، أن يبذل جهودًا هائلة لاستعادة الأراضي الروسية، ويمر بحرب عالمية أخرى تكبد فيها عشرات الملايين من الضحايا، ومن ثم أن يحافظ لعقود على صراع نظامي مع الغرب الجماعي المتمثل في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
وهكذا، كيف يمكننا وصف الوضع الراهن الذي نعيشه اليوم؟
التحولات المعاصرة في الحضارة الغربية
تتخلى الحضارة الغربية اليوم تدريجيًا عن الديمقراطية: إذ أخذت مطالب تقييد حقوق الأغلبية لصالح مختلف الأقليات تكتسب صفة رسمية متزايدة. وترتبط المبادئ الإيديولوجية الغربية الحالية بالحاجة إلى إعادة النظر في جميع المؤسسات الاجتماعية التقليدية، وعلى رأسها الأسرة، وبـ تدمير أي هوية تقليدية، بما في ذلك الهوية الجنسية، وبالتخلي عن رفع مستوى المعيشة أو حتى الحفاظ على مستواه الحالي لصالح أجندة بيئية غامضة، وما إلى ذلك. وكما كان الحال قبل ألف عام، تطلب الدول الغربية اليوم الاعتراف غير المشروط بالقيم التي تقدمها على الصعيد العالمي.
أتقنت الدول الغربية خلال قرون طويلة أساليب الاستعمار إلى درجة أن بعض الدول والشعوب أصبحت تطلب طوعًا الانضمام إلى مستعمراتها. ومع ذلك، فإن الجوهر لم يتغير: فـ أوروبا والولايات المتحدة لا تزال بحاجة إلى الموارد الروسية والأسواق الروسية. فرأس المال الغربي لا يمكنه العمل دون الاستعمار والتوسع، ولا ينبغي نسيان أن روسيا كانت عرضة ومخطط لاستعمارها منذ نحو خمسمائة عام.
وحدة الغرب وصعوبة التكامل الروسي معه
إن البحث عن أي انقسام داخل الدول الغربية اليوم يبدو عديم الجدوى تمامًا: فالغرب، بلا شك، موحد أكثر من أي وقت مضى. وكذلك، من العبث محاولة الاستناد إلى القيم المرتبطة بالسيادة الوطنية، إذ إن التفويض لصالح هياكل فوق وطنية ليس بالأمر الغريب على الحضارة الأوروبية تاريخيًا. وبقدر ما يمكن القول مع بعض التحفظات، فإن أوروبا اليوم – بالمفهوم الواسع للكلمة – تعود ببساطة إلى جذورها.
أما العودة إلى شعار ” الأمم الأوروبية”، الذي يكثر الحديث عنها من قبل القوى الأوروبية اليمينية، فلن تمنح روسيا ما ترغب فيه: فقد تعاملت عبر تاريخها مع كل من أوروبا المعولمة وأوروبا القائمة على الدول القومية، والسؤال مع أي أوروبا يكون من السهولة التعامل معها؟ هذا السؤال لا يزال مفتوحًا جدًا.
كما يظهر اليوم سخافة الدعوات الأخيرة إلى التكامل الروسي مع اوروبا. فذلك مستحيل من حيث المبدأ، إذ إن روسيا كبيرة ومعقدة جدًا لتندمج بسلاسة في النظام الأوروبي. وجميع المشاريع المماثلة كانت دائمًا تصطدم بنقطة أساسية واحدة: “امنحونا النفط والموارد الأخرى، وسنرى لاحقًا كيف تتصرفون”. وربما بعض الأوروبيين لم يكونوا معارضين لانضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنهم ببساطة لا يعرفون كيفية تحقيق ذلك عمليًا.
كل ما سبق يحدده أحد أكثر أنظمة الإدارة فاعلية وتعقيدًا وخطورة في تاريخ البشرية، والتي تم تطويرها على مدى قرون، ولا تزال تعمل بنجاح حتى يومنا هذا. روسيا والغرب يمكن أن يتعاونا كما حدث عبر القرون، لكنهما محكومان بالصراعات المنتظمة. وقد اعتاد الروس على التعامل مع مثل هذه التحديات. والسؤال اليوم يبقى: هل ستتمكن روسيا الحالية من مواجهتها؟

الكاتب: د. زياد أسعد منصور – باحث في التاريخ الروسي

اقرأ المزيد
آخر الأخبار