المقابلة التي أجراها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مع قناة الإخبارية السورية تكشف عن أكثر من مجرد مواقف سياسية آنية؛ إنها نص يحاول رسم ملامح سلطة جديدة في سوريا ما بعد النظام السابق.
لكن ما يطفو على السطح ليس فقط وعودا بالاستقرار والتنمية، بل أيضا شبكة من التناقضات بين اللغة والممارسة، وبين الطموحات المعلنة والواقع المعقد، فالخطاب يسعى من جهة إلى إقناع السوريين والعالم بأن صفحة جديدة فُتحت، لكنه في الوقت نفسه يعيد إنتاج أدوات مألوفة في إدارة السلطة وتبريرها.
من هنا تبرز أهمية تفكيك هذا الخطاب ومساءلته: هل يمثل فعلا قطيعة مع الماضي أم مجرد إعادة صياغة له بأسلوب مختلف؟
الاقتصاد كخطاب شرعية
ركز الشرع في مستهل حديثه على الأزمة الاقتصادية، لكنه لم يطرح الاقتصاد بلغة الأرقام والإحصاءات وحدها، بل صاغه كإطار شامل يتقاطع مع القضاء، والتعليم، والبنية التحتية، والعلاقات الدولية، فالاقتصاد هنا يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج الشرعية السياسية.
اللافت أن الرئيس الانتقالي لجأ إلى مفردات دينية (“أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”) لتبرير مشروعه الاقتصادي، وهذا المزج بين المقدّس والمدني يبدو محاولة لتأطير السلطة بوصفها راعية للناس لا مجرد جهاز إداري، غير أن هذه الاستعارات الدينية تطرح إشكاليات؛ فهل تكفي الرمزية الدينية لإقناع مجتمع أنهكته سنوات من الفقر؟ أم أنها مجرد زخرفة لغوية يعوّض فيها عن غياب حلول ملموسة؟
إعادة الإعمار كمنهج لا كحدث
عندما تحدث الشرع عن إعادة الإعمار، رفض لغة “المشاريع العملاقة الفورية” لصالح خطاب “المنهج التدريجي”، هذه المقاربة تبدو عقلانية، لكنها تحمل أيضا بُعدا تبريريا حيث تُستخدم لإقناع الجمهور بأن البطء ليس فشلا، بل خيارا واعيا.
النتيجة أن الخطاب يخفف من التوقعات الشعبية ويعيد توجيهها نحو قبول التأجيل المستمر، لكن ذلك لا يبدّد الإحباط العميق الذي يعيشه الناس بعد سنوات من الحرب، ولا يقدّم لهم التغيير الملموس الذي ينتظرونه.
الانفتاح والاستثمارات بوصفها لغة السيادة
طرح الشرع فكرة فتح سوريا أمام الاستثمارات الخارجية بلغة السيادة والاستقلال.. “لا نريد أن نعيش على المساعدات أو القروض المسيسة”، والخطاب هنا يحوّل الارتهان إلى السوق إلى شكل من أشكال الاستقلال الوطني، إنها مفارقة لافتة فالانفتاح على رأس المال الأجنبي يُسوَّق كضمانة للسيادة، رغم ما يحمله من مخاطر التبعية الاقتصادية، وهذا التحويل الدلالي يعكس براعة خطابية، لكنه لا يخفي التناقض؛ فكيف يمكن الحديث عن استقلال القرار الاقتصادي في وقت تُربط فيه بنية الإعمار بمستثمرين خارجيين لهم أجندات سياسية؟
والأشد إشكالية أن هذا الخطاب لا يعترف بواقع الارتهان الكامن في تلك السياسات؛ فالانفتاح الواسع على رؤوس الأموال الأجنبية يتحول إلى شكل مستتر من الوصاية، حيث يُفرض على الداخل السوري جدول أعمال خارجي تحت غطاء الاستثمار، وتقديم هذا الخيار كأنه فعل سيادي هو في جوهره قلب للمعادلة، فما يُسوَّق كاستقلال في حقيقته مسارا للتبعية، يضع القرار الوطني تحت رحمة حسابات المستثمرين والدول الداعمة لهم.
إسرائيل وإيران وروسيا… خرائط التحالف في لغة جديدة
في حديثه عن إسرائيل، قدّم الشرع سردية تقوم على “الصدمة” من سقوط النظام السابق، ليؤسس لفكرة أن الصراع لم يعد وجوديا بقدر ما هو تفاوضي، وهذا التخفيف من حدّة العداء التقليدي يبدو محاولة لفتح باب التطبيع غير المعلن، مع تغطية ذلك بخطاب “الأمن والاستقرار”.
أما مع إيران، فجاء الخطاب باردا ومقتضبا عبر عبارة “الجرح أعمق… لسنا في قطيعة”، وهنا يرسم الشرع حدودا جديدة للعلاقة، لكن دون حسم، ما يكشف عن لغة رمادية تخفي توترا حقيقيا أكثر مما تعكس وضوحا استراتيجيا.
أما روسيا، فاستُحضرت بذاكرة الحرب لتثبيت شرعية “التزامات متبادلة”، وهذا الاستدعاء للتاريخ يمنح الخطاب مظهرا عقلانيا، لكنه أيضًا يُستخدم كآلية لإخفاء اختلال موازين القوة لصالح موسكو.
السياسة الداخلية بين المؤقت والدائم
صاغ الشرع المرحلة الانتقالية كسلسلة من “التحولات المؤسسية المتوازية”: مؤتمر وطني.. حكومة.. انتخابات.. دستور، وشدد على أنها “مرحلة مؤقتة”، وهذا التوازن بين المؤقت والدائم ينتج خطابا ملتبسا بين الاستقرار الموعود، ولكن مرهون بمرحلة انتقالية تمتد بلا نهاية.
في ملف السويداء والجزيرة، جاء الخطاب مشبعا بلغة الوحدة، فـ”سوريا لا تقبل القسمة”، لكن الأمثلة التاريخية (كتالونيا، تكساس) بدت بعيدة عن السياق السوري، وكأنها محاولة لشرعنة موقف الدولة عبر مقارنات لا تقنع جمهورا يواجه تحديات ملموسة على الأرض.
المقارنة مع كتالونيا أو تكساس تبدو أقرب إلى محاولة بلاغية منها إلى تحليل سياسي واقعي؛ إذ إن خصوصية التجربة السورية، لا يمكن إسقاطها على تجارب غربية محكومة بسياقات ديمقراطية راسخة ومؤسسات قوية، وهذه الأمثلة، بدل أن تعزز خطاب الوحدة، تكشف عن فجوة بين اللغة المستخدمة والواقع المعيش، حيث يطالب السوريون بإجابات عملية على أسئلة الأمن، والتمثيل السياسي، والتنمية المتوازنة، لا باستدعاء أمثلة من جغرافيا بعيدة لا تمس حياتهم اليومية.
الإعلام والحرية… من الخصم إلى الشريك؟
في محور الإعلام، حاول الشرع أن يجمع بين النقيضين؛ حرية واسعة من جهة، وضوابط صارمة من جهة أخرى. هذا الخطاب المزدوج يطرح إشكالية فهل هي حقا حرية أم مجرد مساحة مراقبة؟
تأكيده أن النقد البنّاء يغذي السلطة” يبدو اهتماما بالرأي العام، لكنه ربط الحرية بضوابط عبر تكريس الرقابة، والنتيجة أن الحرية تُقدّم كمنحة مشروطة لا كحق أصيل.
خطاب أحمد الشرع قدّم نفسه كبديل عن خطابات النظام السابق، محاولا رسم صورة قيادة براغماتية، عقلانية، منفتحة لكنه في جوهره مليْ بالتناقضات:
الاقتصاد يُقدَّم كشرعية لكن بلغة رمزية أكثر من واقعية.
إعادة الإعمار تُطرح كمنهج لكنها تتحول إلى تبرير للبطء.
الانفتاح على الاستثمارات يُسوَّق كسيادة لكنه يفتح أبواب التبعية.
السياسة الداخلية تُقدَّم كمراحل مؤقتة لكن ربما تتحول إلى انتقال دائم.
الإعلام يُوصف بالحرية لكنه محاط بشبكة من الضوابط.
إنه خطاب يسعى إلى إعادة بناء الثقة المفقودة، لكنه يكشف أيضا عن استمرار آليات الهيمنة، وإن جاءت بشكل جديد، والسؤال الذي يفرض نفسه هل نحن أمام ولادة سلطة جديدة بحق؟ أم في مواجهة تحديث للغة السلطة دون تغيير جوهري في بنيتها؟
المصدر: سوريا الغد