في مطلع أيلول، خرجت وزارة الطاقة السورية لتعلن للعالم عودة طال انتظارها، فتصدير أول شحنة نفطية منذ أربعة عشر عاما، يشكل سابقة بعد ما يقارب عشرة أشهر من سقوط النظام السابق.
ما أعلن عنه هو600 ألف برميل من الخام الثقيل غادرت ميناء طرطوس على متن ناقلة يونانية، متجهة إلى مشترٍ غامض اسمه B Serve Energy، وبعدها بأيام، أعلنت الرياض عن منحة نفطية لسوريا تفوق ثلاثة أضعاف تلك الكمية.
النتيجة صارت سوريا في لحظة واحدة دولة تُصدِّر النفط وتستجديه، دولة تعلن فائضا للتصدير وفي الوقت نفسه تبحث عن منحة لتشغيل مصافيها، وهنا تكمن المفارقة التي تستحق أن تُدرَّس، وربما تُصدَّر هي الأخرى.
600 ألف برميل: “عودة” أم عنوان دعائي؟
الرقم بحد ذاته مغرٍ للصحافة، بعد أربعة عشر عاما، يكفي أن نقول “عودة النفط السوري إلى الأسواق” حتى يبدو الأمر حدثا استثنائيا.
لكن ما لم يُذكر أهم مما أُعلن، فلم تُسمَّ الحقول المصدِّرة، ولم يُكشف السعر، ولم يُعلن عن الوجهة النهائية، وأما الشركة المشتريّة، فالتزمت صمتا كاملًا حيال تفاصيل العقد.
بعبارة أخرى، التصدير هنا هو خبر سياسي أكثر منه عملية اقتصادية واضحة، وأشبه بعرض افتتاحي قصير ليثبت أن صفحة العقوبات طُويت، وأن سوريا عادت إلى “الحياة الاقتصادية”، ولو برقم يتلاشى سريعا أمام أرقام السوق العالمية.
المنحة السعودية: النفط يدخل من الباب الخلفي
بعد أسبوع واحد فقط من نشوة “التصدير”، وصلت الأخبار من الرياض عن 1.65 مليون برميل من النفط الخام ستُمنَح لسوريا لتشغيل مصافي بانياس وتزويد السوق المحلي.
هنا لا مجال للغموض، فالكمية محددة، والجهة المانحة معلنة، والاستخدام واضح هو تخفيف أزمة الطاقة، لكن المفارقة أن المنحة تُعيد تذكيرنا بالواقع الذي حاولت دمشق إخفاءه عبر إعلان التصدير: أن سوريا ليست دولة مصدرة حقيقية بعد، بل مستوردة محتاجة إلى دعم خارجي.
يضاف إلى ذلك لم يكن الإعلان عن المنحة توقيعا مباشرا على تسليم المنحة، بل جاء بصيغة “مذكرة تفاهم”؛ وثيقة وسطية تترك الباب مفتوحا أمام التأجيل والتعديل وربما إعادة التفاوض، فما بين التوقيع على التصدير الذي بدا كاملا (رغم غموض تفاصيله)، والتوقيع على المنحة الذي جاء مشروطا بطقوس البروتوكول، يتضح أن اليقين في الحالة السورية يظل معلّقا بين إعلان رمزي هنا، ووعد إداري هناك.
ناقلة بلا وجهة، عقود بلا شفافية
الناقلةNissos Christiana غادرت طرطوس دون إعلان رسمي عن وجهتها، والتقارير الملاحية أشارت إلى أن المسار ظل غير معروف عند التحميل.
أما المشتري BServeEnergy فبقي بدوره بلا تعليق، تاركا مساحة للتكهنات حول ارتباطاته بشركات أخرى، وحول مصير البراميل المصدَّرة.
هذه الضبابية تجعل من التصدير أقرب إلى رسالة سياسية مغلفة بغطاء اقتصادي: نحن قادرون على البيع، ولو من دون إعلان المشتري، والسوق مفتوحة، ولو من دون معرفة الوجهة.
دورة النفط السوري: نصدر لنستورد، ونستورد لنزهو بأننا نصدر
المشهد بأكمله يبدو كلعبة مرايا:
نصدر كمية صغيرة لنعلن “العودة إلى الأسواق”.
نتلقى منحة أكبر بكثير لنعترف ضمنيا بأننا بلا قدرة حقيقية على تلبية الطلب المحلي.
نغطي الفجوة بين الاثنين بخطاب إعلامي يؤكد أن الخطوة “اقتصادية وتنموية”.
بهذا المعنى، تتحول سوريا إلى حالة فريدة، فهي دولة لا تبيع نفطها كي تربح، بل كي تُبرهن للعالم أنها مؤهلة لتلقّي منح نفطية.
المفارقة المربحة: تصدير الوهم أثمن من تصدير النفط
التصدير السوري الأخير لا يمكن اعتباره اختراقا اقتصاديا، لكنه بالتأكيد اختراق بلاغي؛ إنه يبيع صورة أكثر مما يبيع نفطا، ويصدّر مفارقة أكثر مما يصدّر براميل.
النفط الخام يذهب إلى أي وجهة، ويختفي في عقود غير معلنة، لكن المفارقة السورية أن تكون في آنٍ واحد مُصدِّرا ومتلقّيا للمنح، وستبقى حاضرة في كل تقرير دولي وكل تحليل اقتصادي.
ولعل القيمة الحقيقية ليست في سعر البرميل، بل في هذه المفارقة نفسها، التي تُظهر بلدا يعيش خارج المعادلة التقليدية للسوق، فلا يربح حين يبيع، ولا يخسر حين يستورد، بل يكتفي بتصدير رواية “العودة” في الوقت الذي يتلقى فيه وقود البقاء من الآخرين.
برميل المفارقة أغلى من برميل النفط
في أي اقتصاد عادي، التصدير يقود إلى العملة الصعبة، والمنح تعني العجز، أما في سوريا اليوم، فالتصدير يقود إلى العناوين الإعلامية، والمنح تقود إلى صيانة الحد الأدنى من الاستهلاك المحلي.
السؤال الجوهري أيهما أثمن؟ 600 ألف برميل تم شحنها دون أن نعرف لمن بيعت، أم برميل واحد من المفارقة السورية يُضاف إلى سجلّ التناقضات الاقتصادية والسياسية؟ والجواب واضح فـ”برميل المفارقة” لا يُقدَّر بثمن.
المصدر: سوريا الغد