عندما ننظر إلى مسار الليرة السورية في شهري آب وأيلول 2025، لا نواجه مجرد تقلبات عابرة في سعر صرف عملة محلية، فما يتكشف أمامنا هو صورة مركّبة لأزمة اقتصادية ممتدة، حيث تتصارع العوامل النقدية والسياسية والاجتماعية لتفرض واقعا جديدا على الأسواق، ولتؤكد أن أي انفراج مؤقت ليس سوى انعكاس هش لأوضاع أكثر تعقيدا.
تبدو الليرة السورية عالقة بين ثبات رسمي متخشب يفرضه مصرف سوريا المركزي وواقع موازي مضطرب تتحكم به شبكات الصرافة، والطلب الشعبي على الدولار، وتقلّبات المزاج السياسي والاقتصادي.
ثبات رسمي وتراجع نسبي
دخلت الليرة شهر آب 2025 وسط تقلبات ملحوظة، ففي 11 من الشهر، شهدت قفزة أمام الدولار لم تتوفر بشأنها أرقام دقيقة، ما عكس هشاشة السوق واعتمادها الكبير على الشائعات وحركة المضاربين، ولاحقا، بحلول 24 آب، سجّل الدولار في دمشق وحلب وإدلب نحو 10,930 ليرة للشراء و10,980 للبيع، بينما تجاوزت الأسعار في الحسكة ذلك الحد بقليل، والمفارقة أن السعر الرسمي بقي متماسكا عند 11,000 –11,110 ليرة، كما لو أن المركزي يعزل نفسه عن ديناميكيات السوق.
مع نهاية الشهر، وتحديدا في 31 آب، بدا الضغط على الليرة أكثر وضوحا، فالسوق الموازي سجّل 10,925–10,975، فيما بلغت الأسعار في الحسكة 11,200–11,250، ورغم أن هذا التراجع الطفيف لم يتجاوز 1%، إلا أنه كان إشارة مبكرة على أن موسم المدارس وما يرافقه من زيادة الطلب على الدولار سيؤجج تقلبات أكبر في أيلول.
التصعيد المتسارع
في أيلول، بدا أن السوق الموازي دخل مرحلة صعود متسارع، ففي 6 أيلول، تجاوز الدولار11,100 في دمشق وحلب وإدلب، و11,400 في الحسكة، وبعد يومين فقط، في 8 أيلول، ارتفع إلى 11,265–11,315 في العاصمة والمدن الكبرى، و11,500–11,550 في الحسكة، وبحلول 9 أيلول، اتسعت الفجوة أكثر ليبلغ السعر 11,425–11,475، ثم وصل في 10 سبتمبر إلى 11,600–11,650، مع قفزات في الحسكة إلى 11,800–11,850.
لكن الصورة الأكثر إثارة جاءت من Trading Economics، حيث أظهرت بيانات التداول الفوري أن الدولار بلغ 13,005 ليرة في 7 أيلول، وهذا الرقم يكشف فجوة صارخة بين الواقع المحلي (الرسمي والموازي) وبين تقديرات السوق العالمية، ما يعكس اختناقات حادة في سوق التحويلات السورية.
ديناميكيات الانقسام: بين المحافظات والسوق الرسمي
أحد أبرز ملامح الأزمة هو التباين بين المحافظات، فالحسكة تسجّل باستمرار أسعارا أعلى من دمشق أو حلب، ما يوحي بضعف السيولة هناك، وربما باعتماد أكبر على الدولار في التعاملات اليومية، في المقابل، يتمسك المصرف المركزي بثباته الصارم عند 11,000–11,110، في محاولة لتصدير صورة من الاستقرار النقدي، لكنها في الواقع صورة مشوهة لا تصمد أمام موجات السوق السوداء.
ما وراء الأرقام: عوامل الضغط
تأثير موسمي ومجتمعي
زيادة الطلب على الدولار مع بداية العام الدراسي كانت محركا مهما لارتفاعات أيلول، حيث ارتبطت حاجات الأسر بشراء مستلزمات التعليم المستوردة بالدولار.
الإغراق بالمستوردات وضعف الإنتاج المحلي
إجراءات فتح السوق أمام السلع الأجنبية بجمارك منخفضة دمرت ما تبقى من القاعدة الصناعية الوطنية، والنتيجة زيادة الاعتماد على المستوردات وزيادة الطلب على الدولار، هنا، كل انخفاض في السعر يصبح وهميا لأنه غير مرتبط بزيادة إنتاجية حقيقية أو صادرات.
سياسات نقدية متناقضة
رفع الرواتب بنسبة 200% ضَخَّ أكثر من 600 مليار ليرة إضافية شهريا في السوق، دون أي زيادة مقابلة في الإنتاج، وهذه الخطوة، بدلا من دعم القوة الشرائية، غذّت التضخم النقدي وسرّعت تآكل قيمة العملة.
النيو ليرة وفقدان الثقة
قرار إصدار “النيو ليرة” زاد من عزوف السوريين عن الادخار بالعملة المحلية، وكثيرون فضلوا تحويل مدخراتهم إلى الدولار تجنبا لمخاطر القيود على الاستبدال، وهذه الديناميكية ساهمت في ضخ المزيد من الطلب على العملة الأجنبية.
دور الصرافين وشبكات المضاربة
المضاربون الكبار، في الداخل ودول الجوار، استغلوا السيولة المتوفرة والتلاعب عبر منصات فيسبوك مجهولة المصدر لتحديد السعر، وهنا يصبح كل ارتفاع سريع انعكاسا لتكتيكات مضاربة وليس لحقيقة اقتصادية راسخة، والاستقرار يصبح وهميا لأنه قائم على “تجميد” الأموال وليس على تصحيح هيكلي.
تحولات رأس المال والتجارة
الاستيراد الكثيف للسيارات (بما يقارب 3.5 مليار دولار) أدى إلى نزيف إضافي في سوق القطع، ومع بدء المستوردين استرجاع رأس المال بالدولار، تصاعد الضغط على الليرة، وبالتوازي، تراجع تدفق العملة الأجنبية مع نهاية موسم المغتربين في الصيف، ما عمّق الاختناق.
الوهم والواقع: أيهما يحكم السوق؟
يُجمع خبراء محليون أن السعر “الحقيقي” للدولار يتراوح بين 17,000 و20,000 ليرة، بينما تظل السوق السوداء في نطاق 11,000–12,000، وهذا التناقض يكشف فجوة بين قيمة الليرة الاسمية وقيمتها الفعلية في ظل قوة شرائية منهارة، وإذا كان كل ارتفاع حقيقيا وكل انخفاض وهميا فإننا أمام مسار أحادي الاتجاه يؤكد أن الليرة ستواصل الانحدار.
البعد السياسي والاقتصادي الأعمق
تقلبات الليرة لم تعد مجرد مسألة نقدية، بل هي انعكاس لسياسات اقتصادية قصيرة النظر، فالسماح غير المدروس بالانتقال إلى السوق الحر، مقابل غياب أي حماية للمنتج الوطني، أدى إلى تدمير القاعدة الإنتاجية. في الوقت ذاته، يواصل المصرف المركزي تمسكه بسعر رسمي ثابت لا يعكس الواقع، ما يفاقم الفجوة بين المواطنين والسلطة النقدية.
بين آب وإيلول 2025، تطور المشهد من تراجع طفيف إلى صعود متسارع، في مسار يعكس أزمة عميقة لا يبدو أنها ستتوقف قريبا، وثبات المركزي على سعر 11,000–11,110 بات أقرب إلى وهم إداري، بينما السوق السوداء تكشف الوجه الحقيقي للاقتصاد، فالتحدي اليوم ليس فقط في كبح المضاربة، بل في إعادة بناء الثقة والإنتاجية، وإلا ستظل الليرة رهينة لتقلبات بين وهم الاستقرار وواقع الانهيار.
إن قدرة أي عملة على الصمود لا تقاس فقط بما يعلنه المصرف المركزي أو بما تفرضه السوق السوداء، بل بمدى تماسك الاقتصاد الذي يقف خلفها، وفي الحالة السورية، حيث تتداخل السياسات الفاشلة مع اقتصاد الحرب والعقوبات والمضاربات، يبدو أن الليرة محكومة بمسار تنازلي طويل، ما لم يحدث انقلاب جذري في السياسات الاقتصادية والمالية.