أولاً: الأرض والهوية:
هل أرض الجنوب اللبناني هي فقط مساحة جغرافية؟
لقد أثبت التاريخ، أن الجنوب اللبناني هو الروح وهو الهوية، هو الامتداد الحضاري الطبيعي، هذا الجنوب الذي لطالما شكل خط الدفاع الأول عن كل لبنان، في هذه المنطقة زرع الفلاحون، والرعاة، والمثقفون، والمقاومون وحتى جنود الجيش الوطني ملحمة من الصمود والتصدي في سبيل البقاء بأرضهم في وجه الكثير الكثير من الاحتلالات.
نشهد اليوم خديعة جديدة ما يسمى (المنطقة الاقتصادية) والتي نقلها الموفد الأمريكي توماس براّك بلسان إسرائيلي خالص، تحت حجة التنمية الاقتصادية، بينما تمثل هذه الخديعة غطاء لمشروع استيطاني عسكري يخدم إسرائيل أولاً وأخيراً، وهو مشروع يمهد لإفراغ منطقة الجنوب من أهله.
أن مثل هذا المشروع بديل عن الأرض، ليس إلا إعادة إنتاج سياسة استعمارية باستعمال الأغراء المادي والذي سيكون من خلفه اقتلاع الجنوبّي من أرضه وبيته، وعليه أن التنبّه لهذه الخديعة لا يكون بخطاب سياسي (مايع) أو حتى بالدبلوماسية كما يتمنى كثيرين، بل بطرح علمي تاريخي – انثروبولوجي يفضح الخطة الخديعة وينجح في تثبيت الحق لأهله، وعليه أن يثبت أيضاً بأن الجنوبّي هو ليس سلعة اقتصادية للبيع أو الشراء، ولا هو مشروع اقتصادي، بل هو أنسان حيّ، أذا نجح تنفيذ هذه الخديعة باقتلاعه هذا يعني موت محتم لكامل الجسم أو الموت الجماعي.
أ – الاحتلال والمقاومة:
منذ فجر التاريخ كان الجنوب اللبناني مسرحاً لمرور كبرى الإمبراطوريات فمنذ العصر الكنعاني-الفينيقي الذين بنوا أعظم حضارة بحرية على شواطئ صور وصيدا والتي كادت أن تكسر الإسكندر الذي استطاع أن يحتل قسم كبير من العالم، إلى حملات الأشوريين، والمصريين القدماء، إلى الفرس، ثم إلى الاحتلال الروماني والعثماني بالرغم من كل ذلك بقيت هذه المنطقة محتفظة بإرثها الثقافي الحضاري الاجتماعي مرتبطاً بأرضه كالعلاقة العضوية، وهو الذي يعتقد اعتقاداً راسخاً أنها مصدر لحياته وامتداداً لوجوده.
ومع قيام دولة لبنان الكبير سنة 1920 في ظل الانتداب الفرنسي ظل الجنوب مهمشّاً من قبل الدولة، حتى تشير بعض المصادر إلى أن رجالات كانوا في سدة الحكم ليس فقط اجتمعوا مع اليهود، بل ساومت على بيع أو هبة أراضي جنوبية له. وبالرغم من كل ذلك بقىّ الجنوب يشكل الخزان البشري للجيش وللمقاومة في صدّ أي محاولة عدوان إسرائيلي.
هذا التهميش جعل من الجنوبي الاتكال على نفسه وعلى خيرات أرضه ورزقه وعلى حالة التضامن الاجتماعي في مواجهة العدوان أو التهميش فأصبح نموذجاً رائعاً بحق.
ب – الاحتلال الإسرائيلي:
منذ العام 1948 والساحة الجنوبية شكلت ساحة مواجهة وصراع وهذه الأرض وأهلها شاهدان على حجم الاعتداءات من مجازر وسياسيات كانت ولا تزال الهدف الأساسي منها هو تهجير أصحابها، ثم نفذ العدو اجتياح سنة 1978 أو ما يعرف ب (عملية الليطاني) ليتجلى تماماً المخطط الإسرائيلي في إقامة منطقة عازلة تفصل الجنوب اللبناني عن فلسطين المحتلة بحجة (أمن دولة إسرائيل).
أما الحقيقة هي اقتلاع أهل الجنوب من أرضه. ثم نفذ اجتياح سنة 1982 أو ما يعرف بعملية سلامة الجليل وعملية الصنوبر والذي وصل إلى العاصمة بيروت، وتم تدمير العديد من القرى والبلدات، آلاف المدنيين قتلوا أو هجروا، ورغم كل المآسي بقي الجنوب عصّياً على الافراغ. هنا تظهر جبهة المقاومة الوطنية والتي شكلت الحالة الطبيعية لوجود المحتل ومواجهته لتبني ملحمة بطولية قّل نظيرها في العالم. ووصلنا إلى عام التحرير والنصر أي عام 2000 حيث اُجبر العدو على الانسحاب مذلول صاغراً وبدون أي اتفاقية إذعان أو تسوية مذلة، بل غصباً عنه.
ج – من 2000 إلى 2006:
إسرائيل هذه التي لم تستطع هضم النصر والتحرير، واصلت اعتداءاتها وخروقاتها الموثقّة البرية-والبحرية- والجوية، وصولا إلى حرب ال 2006 أو ما سميت بعملية الرد العادل، ثم غيرت الاسم إلى عملية تغير الاتجاه عندما قررت إسرائيل أن تسحق المقاومة وبيئتها الاجتماعية، مما أدى إلى نزوح أكثر من مليون
جنوبّي وتدمير الكثير من المنازل والجسور والمنشاءات الحيوية، لكن ومع ذلك ما كان الإعلان عن وقف إطلاق النار حتى عاد كل الجنوبيين إلى بلداتهم وقراهم والمباشرة بالاهتمام بها معلنين بذلك:
إن الأرض ليست خياراً وإنما قدراً”. ”
د – خديعة القرار ألأممي رقم 1701
في شهر أب ومثل هذه الأيام من سنة 2006 كان قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد أتخذ قراراً بالأجماع والهدف منه حل النزاع اللبناني الإسرائيلي ثم وافقت عليه الحكومة اللبنانية بالأجماع أيضاً في 12 آب 2006.
وفي مضمون هذا القرار إذ يؤكد على سيادة لبنان على كامل أراضيه، والجدير بالذكر أن لبنان قد التزم بكل بنود القرار، بالمقابل إسرائيل لم تلتزم ولم تنسحب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ولا توقفت عن الخروقات اليومية، ولا التزمت بوقف انتهاك السيادة الوطنية اللبنانية، ثم تأتي اليوم الخديعة الاقتصادية وتُفرض عبر (الوسيط) الأميركي لتشكل إعادة صياغة لمشروع الحزام الأمني ذات وجه تنموي اقتصادي زائف.
ثانياً: الأرض هي كائن بشري وليست ملكية.
أ- العلاقة بين الأنسان ولأرض:
إن العلاقة بين الإنسان والأرض يجب ألا تقتصر في المفهوم التجاري العقاري للملكية الفردية فقط، بل يجب أن تتجاوزها إلى المستوى الوجودي-الأنثروبولوجي.
الأرض هنا هي امتداد للجسد، حيث البلدة هي كالأسرة، وحقولها هي كالدم الذي يجري بالشرايين ويغذي الجسد. نعم أن الجنوبي أو غيره لا ينظر إلى الأرض على أنها مجرد مصدر للرزق، بل إن الأرض هي الهوية، هي الذاكرة، وهي التاريخ، وحين يهتم بأرضه وخيراتها فهذا يعني أنه يجدد العهد بالولاء وبالانتماء لها. من هنا نفهم أن محاولات اقتلاعه من أرضه أن كان على المستوى العسكري أو الاقتصادي، فهذا يعني بالضرورة اقتلاع جزء من ذاته.
ب – الأرض هي الذاكرة الحيّة:
يؤكد علم الأنثروبولوجيا، أن الأرض أو المكان هو ليس حيزاً مادياً فحسب، بل هو الذاكرة الجماعية، وهذا ما يفسر رغبة الجنوبيين الشديدة في العودة إلى قراهم اليوم حتى وهي مدمرة بالكامل، حتى ذهب البعض إلى شراء بيوت جاهزة أو خيم تم نصبها وهذا مما لا شك فيه انه فعل مقاومة بحد ذاته، ولأن الأرض ليست مكاناً مادياً فقط، بل هي خزان للذاكرة حيث كل شجرة وحجر تحمل قصة أو حكاية تُحمل للأجيال القادمة.
انطلاقاً من هنا لا بد لنا التأكيد أن طرح فكرة المنطقة الاقتصادية في الجنوب، هو ليس مشروع تنموياً قطعاً، بل هو مشروع لمحو الذاكرة الجماعية وتفكيك الهوية.
ج – الأرض كرمز مقدّس:
مما لا شك، أن الأرض في الجنوب قد أصبحت تأخذ بعداً مقدساً باعتبار أن كل حبة تراب في حولا، وكل شجرة زيتون في بنت جبيل، وكل حجر في مارون الراس، وكل حقل تبغ في النبطية، وكل زاروب في ميس الجبل أرتوى بدم الشهداء المقاومين والمدنيين، وعندما يصل الأمر إلى حالة من القداسة، عندها يصبح الأمر صعباً بتحويله إلى مشاريع اقتصادية وهمية.
ومن المنظور الأنثروبولوجي، فإن هذا البعد المقدس للأرض يفسر صعوبة تفكيك الجنوبين عبر مشاريع السوق الاقتصادية، لأن الإنسان هنا يكون مدافعاً عن أرضه وهويته وكرامته وعرضه وذاكرته بالتالي عن مصيره.
د – الجنوبي وأرضه:
ومن المنظور الأنثروبولوجي، فإن منطقة الجنوب تحتوي العديد من الرموز، وهذا أبرزها:
المقامات الدينية: والمنتشرة في كل منطقة، ووادي، وتل وهي التي تعكس قداسة المكان وبالتالي ارتباطها بالروح.
الحقول الزراعية: هي حتماً ليست مصدراً للرزق فقط، بل هي رمزاً للتجذّر
القرية أو البلدة:
التي هي بحد ذاتها وحدة أنثروبولوجية حيث تلتقي الأرض والهوية والذاكرة. وبناء عليه فإن هذا الترابط القوي يجعل من أي محاولة لتهجير الأهل يُعد قتلاً وانتحاراً لهم، وكما فشلت كل المحاولات السابقة، وإن مشروع المنطقة الاقتصادية هذا سيفشل حتماً.
ثالثاً: خديعة الانتقال من الأمن والعسكر إلى الاقتصاد:
واضح تماماً اليوم أن هناك تحولات في الاستراتيجية الصهيوامريكية تجاه منطقة الجنوب، بالماضي كان خطابهم دائماً يأخذ منحى أمني (حزام أمني، منطقة عازلة)، أما اليوم فقد أصبح خطاب اقتصادي (منطقة اقتصادية، مشاريع تنموية) أما جوهر استراتيجيتهم فواحدة هي إبعاد الجنوبي عن ارضه وتفريغ الجنوب ليخضع لاحقاً للسيطرة الإسرائيلية، وما كلام وزير المالية الإسرائيلي “يتسلئيل سموتريش” بالأمس إلا خير دليل عندما قال: “نحن لن ننسحب من النقاط التي اخذناها بلبنان، بل سندعو اليهود إلى بناء مستعمرات في داخلها”.
ومن منظور سياسي-تاريخي هذا ليس بجديد دائماً كان المستعمر يلجأ إلى خطاب “التنمية” كي تكون أداة استعمارية. هذه فرنسا وبريطانيا مثلاً ماذا فعلت في افريقيا وحتى في المشرق حين رفعت شعار المشاريع الاقتصادية، بهدف السيطرة على خيرات البلاد ونهبها، واليوم أمريكا وإسرائيل يرفعون الشعار ذاته ويسلكان الطريق والنهج ذاته.
الأمريكي اليوم يحاول إظهار نفسه بأنه (وسيط) لكن في حقيقة الأمر هو طرف كامل في الصراع إلى جانب إسرائيل منذ اتفاقات ترسيم الحدود البحرية وصولاً إلى اليوم مع مشروع (المنطقة الاقتصادية) من هنا يمكن التأكيد أن أمريكيا لا تتحرك إلا وفق المصالح الإسرائيلية، وأن القبول لمثل هذه المشاريع المطروحة اليوم يعني القبول بالوصايا الامريكية الإسرائيلية.
على السياسيين في لبنان أن يعوا أن الجنوب هو ليس مساحة جغرافية للتفاوض، بل يجب أن يشكل خطاً أحمراً استراتيجي، لأن أي محاولة لتسليمة تحت مسميات اقتصادية أو غير اقتصادية، هذا يعني الموافقة على احتلال بشكل ناعم وهنا تظهر الخديعة، على السياسيين فضحها وتثبيت الحق وإلزام إسرائيل بالانسحاب والتعويض.
رابعاً: الاقتصاد هو غطاء للاستعمار:
خلال حقبة التاريخ الحديث، لم يكن الاستعمار العسكري وحده كافياً ومقبولاً للسيطرة، عندها أدركت تلك القوى أن الوعود والخطاب الاقتصادي أكثر قبولاً. فبدأت ترفع الشعارات التنموية، والمساعدات، والمشاريع الاقتصادية كغطاء لانتزاع الأراضي من ثم يتم نهب الموارد (راجع بحثي التاريخي عن نهب الموارد في منطقة المشرق) واليوم يُعاد انتاج هذه الخديعة كما في غزة كذلك في لبنان، من هنا وجب التأكيد أن ما حمله الأمريكي من مشروع حول المنطقة الاقتصادية، ليس بريئاً لآنها ستخضع حتماً لشروط أمنية جداً قاسية، من الوجود الأمني الأجنبي الكبير بحجة حماية المشروع، إلى تقيد حركة السكان المحليين بحجة التنظيم وصولاً إلى إغراءهم مالياً تمهيداً لعملية التهجير الطوعي.
أ – الاقتصاد الوطني في مواجهة الاقتصاد التابع:
لمواجهة هذا المشروع لا بد لنا أن نميزّ بين نوعين من الاقتصاد، الاقتصاد الوطني، والاقتصاد التابع الأول قائم على اعتماد أهل الأرض من خلال استثمارها، أما الثاني فهو قائم على الإغراءات الخارجية التي تجعل الأهالي يبيعون أرضهم متوهمين الربح السريع بالتالي نكون أمام خسارة للأرض بشكل طوعي وليس قصري وهذا الأخطر. هنا تكمن الخديعة بأن المشروع الاقتصادي المقدم هو اقتصاد تابع، بينما المطلوب من السياسيين اللبنانيين تعزيز الاقتصاد الوطني بالتالي ربح الأرض.
ب – التعويض:
على الحكومة والمسؤولين اللبنانيين الانتباه لمسألة ألا وهي، وقبل الحديث عن أي من المشاريع يجب أن يُطرح سؤال مركزي: مَن يعوض على الجنوبيين؟
منذ سنة 1948 وإلى يومنا هذا وإسرائيل هذه لم توقف تدمير البلدات والأرزاق بشكل ممنهج وبالتالي لم تدفع شيئاً، حتى لم تتحمل أي من المسؤولية، وعليه بدل الموافقة على مشروع الخديعة، يجب إلزام إسرائيل بالتعويض أولاً، لا القبول بتقديم الهبات او الاستثمار وهذا حق لنا وليس مِنّة. لآن عند القبول بأي مشروع اقتصادي من دون تعويض هذا يعني اقفال ملف الجرائم الإسرائيلية دون محاسبة، وهذا طبعاً يُبقي الباب مفتوحاً أمام اعتداءات جديدة. من هنا لا بد أن يكون الموقف الرسمي اللبناني واضحاً جلياً، بأن لا مشاريع اقتصادية في الجنوب على حساب الأرض وأهلها والسيادة الوطنية.
وفي الختام وبعد أن أصبح الأمر جلياً وبعد قراءة مشروعهم الخدعة، تاريخياً، وانثروبولوجياً، وسياسياً واقتصادياً تأكد لنا أن هذا المشروع ليس سوى مشروع احتلالي جديد، فالجنوب اللبناني ليس مجرد أرض بل هوية وذاكرة وانتماء. انطلاقا من هنا أن أي تنازل أو الوقوع في فخ الخديعة يعني تسليم مستقبل لبنان كله للهيمنة الخارجية لمئة سنة قادمة وأن الرد العلمي على الخديعة ليس فقط بفضح النوايا بل تأكيد حق الجنوبي في السيادة الكاملة والتعويضات وبناء اقتصاد وطني غير تابع يعزز اشكال الصمود.
التوصيات:
أولاً: على الحكومة اللبنانية رفض أي مشروع اقتصادي ما لم يكن مرتبط مباشرة بحقوق اللبنانيين خاصة من جهة السيادة والتعويضات، وإطلاق خطة وطنية جامعة للتنمية في الجنوب يكون ركيزتها دعم الزراعة والصناعة والتجارة وربطها عبر ممر محلي وعربي ودولي، ومطالبة الأمم المتحدة بإلزام إسرائيل دفع التعويضات عن الأضرار التي كانت هي السبب منذ العام 1948 وإلى يومنا هذا، ثم تعزيز قدرات الجيش والقوى الأمنية جدياً وليس فقط بالوعود كي تكون الرسالة واضحة بأن أرضنا ليست للبيع.
ثانياً: على الشعب التمسك بالأرض وعدم السقوط أمام أي من المغريات المالية، فاعلم أيها الجنوبي أن البقاء في الأرض هو فعل مقاومة، وإقامة حملات توعية جماعية للإضاءة على الخدع الاقتصادية الاستعمارية.
ثالثاً: على الباحثين، والمثقفين، والإعلاميين كشف حقيقة الخديعة الاقتصادية أمام الرأي العام، عبر المزيد من الأبحاث والمقالات والظهور الإعلامي وإعادة خطاب علمي-انثروبولوجي سياسي-تاريخي بالتأكيد على أن الأرض ليست سلعة بل هوية وانتماء، وفضح المؤامرة والتواطؤ الأمريكي الذي يعتبر نفسه (وسيطاً) وهو في حقيقة الأمر ليس سوى جزء مهم من الخديعة.
الكاتب:نجا حماده – باحث في علم التاريخ