قراءات سياسية فكرية استراتيجية

 

اخر الاخبار

أزمة الزراعة في سوريا 2025: الجفاف والسياسات الحكومية تهدد الأمن الغذائي

شكّل القطاع الزراعي في سوريا قاعدة الاقتصاد الوطني ومصدرا حيويا للأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي، وكان موضع أولوية في خطط التنمية الحكومية، فمنذ ستينيات القرن العشرين، عمدت السلطات إلى توسيع رقعة الأراضي المزروعة بالقمح كهدف رئيسي ضمن الخطط الخمسية، مدركةً أنه ليس مجرد محصول زراعي بل رمزا لاستقلالية الغذاء والاستقرار الاجتماعي.

فبحسب البيانات كانت المساحات المزروعة بالقمح تحتل نحو 800 ألف هكتار في عام 1966، قبل أن تشهد توسّعا تدريجيا لتصل إلى ما يقارب 2 مليون هكتار بحلول عام 2005، ثم إلى نحو 1.5 مليون هكتار عام 2010.

هذه الزيادة لم تكن مجرد أرقام؛ بل انعكست في منحنى التنوع الاقتصادي وتعزيز البنية التحتية الزراعية، حيث دعمت الدولة مشاريع الري، والاستصلاح، وتوزيع الأراضي، ووفّرت البذور المُحسّنة بأسعار مدعومة.

لعقود، كان القمح يغذي الطاحونة الاقتصادية والسياسية، حتى في سنوات القحط، غير أن الواقع في عام 2025 يكشف عن تفكك هذه القاعدة، إذ يشهد القطاع انهيارا حادا، ينذر بأن ما بُني على مدى ثلاثة عقود مهدّد بالذوبان، ويطرح البلاد أمام اختبار وجودي يتجاوز المواسم الزراعية إلى جوهر السياسة والاقتصاد.

الجفاف: كارثة طبيعية تتحوّل إلى أزمة هيكلية

تشهد سوريا هذا العام أسوأ موجة جفاف منذ ستة وثلاثين عاما، وذلك وفق بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، غير أن خطورة الأزمة لا تكمن في قسوة الطبيعة وحدها، بل في تفاعلها مع هشاشة البنية التحتية المائية والزراعية، فتقلّص إنتاج القمح بنسبة 40% ليصل إلى ما بين 0.9 و1.1 مليون طن فقط، بينما يقارب الطلب المحلي 4 ملايين طن، وهذه الفجوة البالغة 2.7 مليون طن ليست مجرد رقم؛ إنها انعكاس لواقع أن أكثر من 16 مليون سوري مهددون بنقص الغذاء.

تضررت الأراضي الزراعية بشكل واسع، فثلاثة أرباع الأراضي البعلية دُمّرت، فيما لم تُزرع سوى 40% من الأراضي المخصصة للحبوب في الحسكة وحلب وحمص، ومع تهالك شبكات الري وانخفاض منسوب المياه الجوفية، لم تعد حتى الأراضي المروية قادرة على تأمين إنتاج مستقر.

تعكس هذه الصورة علاقة وثيقة بين التغير المناخي والخيارات التنموية الغائبة، حيث تلاقت الطبيعة القاسية مع إدارة هشّة المشغولة بالصراعات الداخلية لتنتج ما يسميه المزارعون “الموسم الصفري”.

عجز غذائي وواردات مثقلة بالقيود

العجز الهائل في القمح يعيد سوريا إلى معادلة خطرة حيث الاعتماد الكثيف على الاستيراد في ظل ضائقة مالية، الحكومة لم تتمكن من شراء سوى 373,500 طن محليا، وهو نصف ما اشترته حكومة النظام السابق العام الماضي، وحتى هذه الكميات لا تكفي لتغطية سوى جزء يسير من الاحتياجات، أما المساعدات الدولية فجاءت خجولة، 220 ألف طن من العراق وكميات رمزية من أوكرانيا.

بذلك يجد السوريون أنفسهم أمام معادلة قاسية، فالطلب الغذائي متزايد مقابل عرض شحيح، وإمكانات استيراد محدودة بفعل الضغوط المالية والجيوسياسية، وهذا الوضع يُحوّل الأمن الغذائي من قضية اقتصادية إلى ورقة سياسية في صراع النفوذ الدولي والإقليمي.

مقارنة السياسات الزراعية في سوريا قبل 2025 وبعدها

انعكاسات إنسانية: من انعدام الأمن الغذائي إلى الجوع الحاد

الأبعاد الإنسانية للأزمة تكشف عمق الكارثة، فأكثر من نصف السوريين يعيشون حالة انعدام الأمن الغذائي، فيما يواجه ثلاثة ملايين خطر الجوع الحاد، والمزارعون أنفسهم أصبحوا ضحايا الدورة الزراعية، إذ اضطر بعضهم لاستخدام القمح غير الناضج كعلف للمواشي، بينما لم يجْنِ آخرون شيئاً يُذكر، وهذا الانهيار يهدد ليس فقط لقمة العيش اليومية، بل أيضا النسيج الاجتماعي في الريف السوري الذي كان يشكل تاريخيا قاعدة الاستقرار الاقتصادي والسياسي.

السياسة كعامل مضاعف للأزمة

تأتي هذه الكارثة الزراعية في لحظة سياسية انتقالية حساسة، حيث تشهد البلاد سيطرة سلطة أمر واقع ما تزال عاجزة عن تثبيت ركائزها وسط واقع أمني متدهور وانقسامات مؤسسية عميقة، مع غياب خطة طوارئ واضحة من جانب الحكومة المؤقتة ما عمّق هشاشة المشهد، وترك المزارعين والسكان أمام أزمة بلا إدارة فعالة.

هذا الفراغ في القيادة حال دون بلورة سياسات زراعية متماسكة أو اتخاذ خطوات عاجلة لتأمين استثمارات إنقاذ، بينما أبدى المانحون الدوليون ترددا ملحوظا في تقديم الدعم، ما أبطأ وصول المساعدات، فعلى الرغم من إعلان بعض القوى الإقليمية، مثل المملكة العربية السعودية، استعدادها لاستثمارات ضخمة تصل إلى ستة مليارات دولار تشمل القطاع الزراعي، إلى جانب مؤشرات أولية عن رفع جزئي للعقوبات الغربية، فإن هذه التحولات تظل رهينة الحسابات الجيوسياسية أكثر من كونها استجابة فعلية لحاجات طارئة وملحّة.

التغير المناخي: التحدي الممتد

حتى مع وجود دعم مالي وسياسي، فإن التغير المناخي يظل تحديا جوهريا، ارتفاع درجات الحرارة، تراجع معدلات الهطول المطري، وتدهور الموارد المائية ليست أحداثاً عابرة، بل اتجاهات بنيوية تضع مستقبل الزراعة السورية على المحك، فأي استراتيجية إنقاذ لا بد أن تدمج بين معالجة العجز الآني عبر المساعدات والاستيراد، وبين الاستثمار طويل الأمد في تقنيات الزراعة المقاومة للجفاف، وتحديث شبكات الري، وإعادة هيكلة السياسات المائية.

الزراعة كاختبار لشرعية الدولة الجديدة

الواقع الزراعي في سوريا لعام 2025 ليس أزمة ظرفية، بل مرآة تكشف التقاء ثلاثية قاتلة: الطبيعة القاسية، البنية التحتية المتدهورة، والسياسة المتقلبة، إن قدرة الحكومة الانتقالية على الاستجابة لهذه التحديات ستشكّل اختباراً جوهرياً لشرعيتها أمام شعب أنهكه الجوع والحرب.

إنقاذ الزراعة السورية يتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الإغاثة إلى التنمية، وتجمع بين الدعم الدولي والإصلاح المحلي، بين الاستثمارات الاستراتيجية وحماية الفلاحين الصغار. فبدون أرض مثمرة وغذاء كافٍ، لن يكون لأي مشروع سياسي أو اقتصادي في سوريا أساس للبقاء.

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار