الأرقام ليست محايدة، هي قصص مختزلة، وحين يجيب آلاف السوريين على 420 سؤالا في استطلاع ضخم، فهم لا يلقون بأرقام عابرة، بل يكشفون عن حياتهم، وعن مخاوفهم، وعن أحلامهم الصغيرة، والسؤال: هل تسمع السلطة الجديدة هذه الأرقام؟
في تموز وآب 2025، أجرى المركز العربي للأبحاث استطلاعا غير مسبوق في سورية بعد انتهاء نظام البعث وصعود سلطة جديدة أغلب قيادتها من هيئة تحرير الشام التي حلت نفسها وفق التصريحات الرسمية، النتائج تقول الكثير، لكن أهمية الأجوبة بما تكشفه من فجوة عميقة بين السياسات الرسمية ووجدان الناس.
“الاتجاه الصحيح”… لكن البطون خاوية
لنبدأ من المفارقة الأكبر:
56% من السوريين قالوا إن البلد يسير في “الاتجاه الصحيح”.
لكن 43% اعترفوا بأن دخل أسرهم لا يغطي حتى الحاجات الأساسية.
كيف يمكن أن يجتمع التفاؤل مع الجوع؟ الأرجح أن الناس ربطوا “الاتجاه الصحيح” بانتهاء حكم الأسد ودخول مرحلة جديدة، لا بتحسن معيشتهم، وهو تفاؤل سياسي قصير النفس، يطفو فوق واقع اقتصادي يزداد قسوة.
السياسة هنا صامتة، فالقيادة الجديدة لم تقدم برنامجا اقتصادياً متماسكاً، اكتفت بآليات الجباية والزكاة، وكأن دولة حديثة يمكن أن تُدار بفقه الصدقات.
الثقة… ولكن بمن؟
حين سُئل الناس: هل تثقون بمؤسسات الدولة؟ أجاب57% بنعم.
لكن حين سُئلوا: هل يطبق القانون بالتساوي؟ قال30% إنه يُطبق بانتقائية، و12% إنه لا يُطبق إطلاقا.
إذن، ما معنى “الثقة”؟ إنها ليست ثقة نابعة من أداء عادل، بل ثقة خوف أو ضرورةفالناس يثقون لأن البديل هو الفوضى، لا لأنهم مؤسسات مثالية.
السلطة الجديدة تستثمر هذه الثقة، لكنها لا تفهم أنها هشة؛ يمكن أن تنهار مع أول أزمة كبرى، أما الفساد89% قالوا إنه ما يزال منتشرا، والأرقام تتحدث بوضوح فبعد سقوط النظام السابق لم تسقط المنظومة التي تغذي الفساد.
الديمقراطية كحلم… والشريعة كظل
هذا الاستطلاع يقدّم مفاجأة أخرى:
61% من السوريين قالوا إن “النظام الديمقراطي، رغم مشكلاته، هو الأفضل للحكم”.
53% قبلوا أن يتولى حزب لا يحبونه السلطة إذا حصل على أصوات كافية.
هذه لغة ناضجة سياسيا، وتؤمن بتداول السلطة، لكن السياسات الرسمية تمضي في طريق آخر فالسلطة الجديدة، ما تزال تستبطن مرجعية إسلامية متوجسة من الديمقراطية الكاملة.
الأرقام هنا أشبه بصرخة، فالناس يريدون انتخابات حقيقية، بينما السلطة تفكر في تعددية شكلية محكومة بخطوط حمراء دينية.
الطائفية: اعتراف بالمرض، ورغبة بالشفاء
الأرقام صادمة:
85% قالوا إن “الخطاب الطائفي منتشر”.
3% أكدوا أن التمييز الديني واقع.
لكن في المقابل، 67% رفضوا فكرة التشكيك في وطنية أي فرد بسبب معارضته للحكومة.
هذه مفارقة لافتة حيث أن السوريين يعترفون أن الطائفية موجودة، لكنهم لا يريدونها، فالمجتمع يطلب مواطنة جامعة، بينما السلطة الجديدة تميل لاستخدام “الهوية الدينية” كأداة تعبئة.
هنا تتضح القطيعة فالشعب يريد الخروج من سجن الهويات الضيقة، لكن السلطة ما تزال تراهن عليها لبناء ولاء.
فلسطين: بين المبدأ والاستثمار
بالنسبة للشعب، فلسطين ليست شعارا، بل جزء لا يتجزأ من الهوية السورية والعربية، فحين يقول 69% من السوريين إن القضية الفلسطينية “قضية العرب جميعا”، ويرفض74% الاعتراف بـ”إسرائيل”، فهم يضعون معيارا واضحا، فأي سلطة لا تنحاز إلى فلسطين تُفقد جزءا من شرعيتها في نظر الناس.
لكن السلطة الجديدة في دمشق تتبنى خطابا مختلفا، فبدلا من تقديم نفسها كعدو لـ””إسرائيل، أخذت تصريحاتها تميل إلى فكرة أن “هناك أعداء مشتركين” بين الطرفين، في إشارة إلى إيران وبعض فصائل المقاومة، وهذا الخطاب يفتح الباب أمام نوع من التطبيع غير المعلن يقوم على التعاون الأمني الضمني لا على مواجهة الاحتلال.
المفارقة الصارخة أن الناس يربطون مصيرهم بالقدس وغزة، فيما السياسات الرسمية تحاول إدخال فلسطين إلى سوق المساومات السياسية، في ورقة تفاوض مع واشنطن لتحسين شروط رفع العقوبات، ومع أطراف عربية تسعى لصفقات تطبيع متدرّج.
هنا يظهر التباين بوضوح:
المجتمع السوري يرى في فلسطين مرآة لكرامته الوطنية، وجزء من قضيته الداخلية.
السلطة الجديدة تنظر إليها كعملة تفاوض، قابلة للصرف حين تتطلب مصالحها ذلك.
هذا التناقض ليس تفصيلا صغيرا؛ إنه خط صدع استراتيجي، فإذا واصلت دمشق الانخراط في قنوات تفاوضية مع إسرائيل بينما الشعب يرفض ذلك بقوة، فإنها ستفتح جبهة شرعية جديدة ضد نفسها، وتكرّر مأزقا تاريخيا يظهر في التباعد بين الهوية الشعبية والسياسة الرسمية.
الدين: التدين الشخصي لا يعني دولة دينية
الأرقام دقيقة هنا:
57% وصفوا أنفسهم بـ”المتدينين”.
لكن 57% أيّدوا فصل الدين عن السياسة.
و75% رفضوا فكرة أن “غير المتدين شخص سيئ”.
هذا يعني أن السوريين يعيشون تدينهم كقيمة شخصية، لا كإطار سياسي، لكن السياسات الرسمية تُعيد إنتاج نموذج “الدين كأداة حكم”.
المجتمع يقول نريد مدنية سياسية مع فضاء ديني حر، أما السلطة تقول نريد شرعية دينية مع فضاء مدني مضبوط، التناقض هنا واضح.
الإنترنت: مساحة الحرية البديلة
78% من السوريين يستخدمون الإنترنت، و76% يؤكدون أنهم قادرون على نشر نقد للحكومة بدرجات متفاوتة.
الفضاء الرقمي صار برلمانا موازيا، لكنه أيضا بحسب 80% ومساحة لترويج الأخبار المزيفة والخطاب الطائفي.
القيادة الجديدة أمام خيارين فإما أن تترك الفضاء مفتوحا وتخاطر بفقدان السيطرة، أو أن تقمعه وتفقد شرعيتها الوليدة، وكلا الخيارين مكلف.
الهجرة: النزيف الصامت
بلغ من قالوا إنهم يريدون الهجرة40% وتوزعوا ما بين 35% لأسباب اقتصادية و27% لأسباب أمنية، وهذه النسبة ليست مجرد رقم، بل تعني أن كل بيت سوري تقريبا يحمل داخله فكرة الرحيل.
السياسات الرسمية لا تعالج هذه الرغبة في الهجرة بخطط جذرية، بل تتعامل معها كـ”أمر واقع” فالخطاب الجديد يبررها أحيانا بالقول إن “الهجرة قرار فردي”، أو يعتبرها متنفسا يخفف الضغط عن سوق العمل والخدمات، لكن الأرقام تكشف حقيقة أخرى: الناس لا يهاجرون بحثا عن مغامرة، بل هربا من الكهرباء المقطوعة، والخبز القليل، والبطالة الممتدة، والخوف من الغد.
الأرقام كمرآة
هذا الاستطلاع يشبه مرآة ضخمة وُضعت أمام السوريين والسلطة معاً، المرآة تقول:
الناس متفائلون سياسيا لكن يائسون اقتصاديا.
يريدون ديمقراطية مدنية بينما السلطة تسير في اتجاه ديني سلطوي.
يرفضون الطائفية بينما السياسات توظفها.
يتمسكون بفلسطين بينما تُستغل القضية كأداة.
السؤال الذي يبقى: هل تتعلم القيادة الجديدة من هذه الأرقام؟ أم أنّها ستعتبرها مجرد “بيانات” لا تستحق أن تُغيّر سياسات صُممت في غرف مغلقة؟
المصدر: سوريا الغد