في ظهوره الإعلامي الأول كمستشار رئاسي للشؤون الإعلامية، بدا الدكتور أحمد موفق زيدان وكأنه يُجري جردة حساب خطابي لأزمات سوريا المركّبة، من الجنوب المتفجّر إلى الشمال الشرقي المعلّق، وبين مشاريع الداخل واستحقاقات الخارج.
لكن اللافت في الحوار بنيته اللغوية وشحنته الرمزية، التي تضع الدولة في موقع الضحية الصبورة، والمحتج في موقع “الخارج” المضلَّل أو المتورط في رهانات جيوسياسية مشبوهة، فهو ليس توصيف بل أشبه بإعلان نوايا مضمَرة، تتقاطع فيه لغة التهدئة مع خطاب التهديد الناعم، وتنصهر فيه المظلومية الوطنية مع الإنكار المؤسسي.
طغى على كلام زيدان طابع وجداني متوتر، تخلله توصيف الاحتجاجات بعبارات لاذعة من قبيل “عار”، و”جرح غائر”، و”شرذمة”، ما يعكس ميلا واضحا إلى شيطنة الخصم وتقديس الذات الوطنية، دون الاعتراف الواضح بشرعية المظالم أو أحقية المطالب، وبدلا من التعامل مع المحتجين كمواطنين سوريين يطالبون بإصلاح أو عدالة أو تمثيل، وُضعوا موضع التشكيك في انتمائهم نفسه، وتم تجريدهم من الرمزية الوطنية عبر مقارنة استدعائية لميراث سلطان باشا الأطرش.
هذه اللغة بقدر ما تسعى إلى حماية “رأس المال الرمزي” للدولة، إلا أنها تُظهر مأزقا أعمق في البنية الخطابية الرسمية، ويفضح مسافة متزايدة بين من يحتكر تعريف الوطنية ومن يُطالب بإعادة بنائها من الأساس، وهذا بالضبط ما يكشفه خطاب زيدان: محاولة ترميم السلطة لا عبر المصارحة والمحاسبة، بل عبر خطاب ناعم المظهر، عنيف الجوهر، يغلّف الأزمة بلغة الأبوّة العاقلة، لكنه لا يعرض سوى الانتظار والشكّ كحلّين وحيدين.
بلاغة “الصبر” كستار للإنكار
يخلق هذا الأسلوب نوعا من “الإدانة الجماعية”، حيث يُستثنى المكون الديني والثقافي وليس الحوار أو المطالبة بحق، واستخدام مثل هذه التعابير توظف خطابا معنويا يهدف إلى شيطنة الفاعل السياسي وتحجيم فاعليته، مستخدما التاريخ كدفاع مسبق عن الشرعية والتماسك الوطني.
ومن اللافت تعابير مثل “صبر أيوب”… إنه نمط بلاغي مبالغ في التضخيم، لكن ما هو الغرض البليغ هنا؟ هو تكريس موقف الدولة كالعقل الصبور الذي لا يستعجل الرد العسكري، بل ينتظر “تبريد الرؤوس”، وهذه اللغة في التجني، تُوظف لتعويم الدولة كأمة استعصمت على اللامعقول، وركنت إلى العقل والمنطق بدلا من القوة.
المخاطَب والغائب: الدولة والمحتج والقوى الخارجية
يكشف زيدان عن لقاء مفترض بين نجل “الشيخ حكمت الهجري” ومسؤول استخباراتي إسرائيلي، ما يرسم الصورة التالية:
“من الذي قال لكم أننا سندعم دويلة درزية؟”
“الاستقواء بالإسرائيلي لن يشرف أحفاد سلطان باشا الأطرش…”
هذا الخطاب يركّز على رجال الدين أو الذين يتزعمون الاحتجاجات كجهات “خيانة”، في حين يغيب عن المشهد شعور المضطهدين أو أسباب الاحتجاج، وهو خطاب يغرق في أيديولوجيا الطعن والانكار، دون أن يسعى لفهم ما دفع نحو الاحتجاج.
وتناول ملف “قسد” بلغة تشكك في مشروعهم السياسي؛ “مطار ليس عندها… السجل المدني في دمشق… أي دولة هذه؟”. خطاب ساخر يستهدف نزع الشرعية من هيكلية الإدارة الذاتية، مستفيدا من ثغرات في البناء الإداري لتحقيق مسار التهميش السياسي.
القطب الدولي والدولي الإقليمي
يحاول الخطاب الرسمي تجريد أي تواصل خارجي من شرعيته السياسية عبر توصيفه كتواطؤ أو خيانة، كما في حديث زيدان عن اللقاء المزعوم بين نجل الشيخ حكمت الهجري ومسؤول “إسرائيلي”، وقدّمه كـ”صفعة للرهانات الانفصالية”، وفي المقابل، حرص زيدان على إبراز مواقف الأردن والولايات المتحدة باعتبارها رسائل دعم غير مباشرة للدولة السورية، ما يعكس سعي الخطاب إلى إعادة توزيع مشروعية الفعل السياسي الخارجي عبر إدانة ما لا يخدم السلطة، وتوظيف ما يعزز سرديتها كضمانة للاستقرار.
من خلال هذا التوظيف الانتقائي للمواقف الإقليمية والدولية، يعيد الخطاب الرسمي إنتاج الدولة بوصفها الطرف العقلاني والمحاصر، لا الفاعل القامع، وبهذا الشكل تُصاغ سوريا الرسمية كـ”مركز ثقل” إقليمي، لا بوصفها دولة مأزومة بل كضحية لمخططات الآخرين، حيث تُعاد هيكلة السردية الدولية لتخدم سردية الداخل، عبر تظهير النظام كعنصر توازن لا كأحد أسباب الانفجار.
السيناريوهات الغائبة: أي تصور للحل السياسي؟
من “صبر أيوب” إلى “الخيارات كلها مطروحة” ثم “لن نقاتل أبناءنا… سنقنعهم أن مصلحتهم في البقاء”، تتوالى عبارات تبدو متناقضة في ظاهرها بين الدعوة للسلم والتلويح بالقوة.، وهذا التوتر اللغوي ليس ارباكا، بل تقنية مقصودة لبناء خطاب مزدوج؛ يحمل تهدئة ظاهرية للداخل عبر “نبرة أبوية”، وإبقاء كل أدوات الردع قائمة ضمنيا، فهي محاولة لصناعة توازن هشّ، تتحوّل فيه الدولة إلى كيان يمارس سلطته من خلال “الاحتواء المؤجل” لا المصارحة، ومن خلال تطمين العمق المجتمعي بيد، وتذكيره بقبضتها الأمنية باليد الأخرى.
ما يُفتقد في هذا الخطاب هو اقتراح بخارطة طريق واضحة، فهل ستتولى لجنة مستقلة التحقيق؟ هل ستُعقد حوارات محلية بمشاركة فعليّة؟ هل ستعدّل الدولة هيكليا من ممارساتها لتفادي تجدد “الجرح الغائر”؟
ما نراه هو خطاب يظل عالقا بين التهديد والمهادنة، دون أن يقدّم جسورا فعليّة للمعالجة أو رؤية مؤسسية للعدالة الانتقالية أو الحكم الديمقراطي.
في الخلاصة: خطاب يُبرر الدولة ولا يُعلي المواطن
عند التوقف أمام بنية الخطاب الذي قدمه المستشار الرئاسي، يصعب تجاهل طابعه الدفاعي الممنهج، لا بوصفه توضيحا لمواقف الدولة، بل كتمرين على تبرير سياساتها ومحو مسؤولياتها، فلا يظهر المواطن في هذا الخطاب كفاعل سياسي أو شريك في المصير، بل كمُعاد مضلَّل حين يحتج، و”ابن مخطئ” حين يعترض، و”رهينة خارجية” حين يطالب، فيُعاد إنتاج الدولة لا كمنصة لخدمة العموم، بل كذات متعالية فوق المحاسبة، تطالب شعبها بالصبر وتمنح نفسها حق التريّث والإنكار، بينما يُعاد تعريف الوطنية من موقع السلطة وحدها، فهو:
خطاب إدانة مناطقي موحّد يستخدم مصطلحات مثل “الشرذمة” و”العار” ليصوّر المحتجين كخارجين عن السياق الوطني.
خطاب إقصاء للرموز التاريخية المشتركة فيقتلع الاحتجاج من سياقه الاجتماعي ويحول المنتفضين إلى متلاعبين بدوافع خارجية.
غياب الرؤية السياسية البناءة فلا طرح لمحددات سياسية لحل الأزمة، ولا خلق لأفق للحوار الحقيقي، فقط وحده “الصبر الاستراتيجي”.
توظيف الخطاب الدولي لشرعنة الدولة عبر استنكار الاتجاهات الانفصالية، ورفع راية التضامن الأردني، مع زرع مفهوم “الاستقرار مقابل التدخل”.
يكشف تحليل خطاب زيدان عن تصور لدولة تسعى إلى صيانة صورتها لا عبر الحلول، بل عبر التجميل البلاغي للأزمات، فالمعاناة تُرفع إلى مستوى الرمز، بينما تبقى الجراح السياسية والاجتماعية معلّقة في فضاء المجاز، لا تُعالَج بل تُؤجَّل، وهذا الخطاب يجرد الساحة من أي تصور مدني حقيقي يعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع على أساس المؤسسات والمساءلة، ويكتفي بلغة أبويّة مفرغة من أدوات الفعل.
يظل صوت السلطة عالقًا بين خطاب الوعظ وواقع الإنكار، دون أن يقدّم خطوة ملموسة نحو الإصلاح أو التغيير، إنه خطاب يراوح بين القمع الصامت والمهادنة المموّهة، بلا أفق سياسي واضح ولا إرادة حقيقية للقطيعة مع الماضي.
المصدر: سوريا الغد