قراءات سياسية فكرية استراتيجية

العنف الجديد في سوريا: توثيق جرائم في الساحل وحمص وسهل الغاب

عند انهيار سلطة حزب البعث في سوريا، وثّق تقرير مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة (A/HRC/59/CRP.4، الصادر في 14 آب/أغسطس 2025) سلسلة من الانتهاكات الجسيمة التي تلت هذا الحدث السياسي المفصلي، وذلك بعد تقرير رويتر الصادم، الذي كشف عن تقاعس المؤسسات الدولية والمحلية في توثيق المجازر، ما دفع العديد منها للإسراع بإصدار رواياتها الخاصة.

لغة التقرير ظهرت أكثر هدوء مقارنة بلهجة التصعيد التي كانت تميّز تقارير مشابهة خلال عهد النظام السابق، وذكر أن الفترة اللاحقة مباشرة لسقوط النظام شهدت فراغا أمنيا سمح بانتشار جماعات مسلحة مختلفة، ما أدى إلى موجة من العنف الممنهج في مناطق الساحل وحمص وسهل الغاب.

يؤكد التقرير أن هذه العمليات اتسمت بأنماط متكررة من القتل الجماعي، والتهجير القسري، والاستهداف الممنهج للمدنيين، بما يشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي، مشيرا إلى أن انهيار السلطة المركزية غيّر طبيعة العنف، ففي حين كان النظام السابق يحتكر أدوات القمع، برزت في المرحلة اللاحقة أطراف متعددة تتقاسم السيطرة على الأرض، ما نتج عنه تصاعد في الانتهاكات، وغياب شبه كامل لآليات الحماية أو المساءلة.

هذا التحول البنيوي في النزاع أعاد إنتاج أنماط القتل الجماعي على نطاق جغرافي واسع، وأنتج بيئة معقدة تتداخل فيها الأهداف العسكرية مع سياسات انتقامية أو تطهيرية، وهو ما وثقه التقرير بالأرقام والشهادات الميدانية.

الساحل السوري: القتل على الهوية الجغرافية

بعد أسابيع من انهيار السلطة المركزية، شهدت قرى الساحل السوري عمليات اقتحام مسلحة قتل فيها ما لا يقل عن 312 مدنيا خلال عشرة أيام، بينهم 96 امرأة و84 طفلا, وأكثر من 1,200 شخص هُجّروا قسرا نحو الداخل، في انتهاك صارخ للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، فشهادات الناجين التي نقلها التقرير تصف مشاهد الإعدامات الميدانية في الساحات العامة، وعمليات الفرز على الحواجز وفق الانتماء الجغرافي أو الطائفي.

حمص: مدينة تتنفس عبر المقابر

في مدينة حمص، وخاصة حي بابا عمرو، وثق التقرير مقتل 428 مدنيا خلال ثلاثة أيام من شباط 2025، في عملية عسكرية مركزة شاركت فيها تشكيلات ميليشياوية متعددة، وعثر على152 وجثة في منازل أُحرقت عمدا، بينما تم اعتقال78 شخصا ما زال مصيرهم مجهولا حتى تاريخ صدور التقرير، التحليل القانوني يصنف هذه الأحداث كـ “جرائم ضد الإنسانية” نظرا للطابع المنهجي والإعداد المسبق.

أما في سهل الغاب، سجل التقرير قصفا أدى إلى مقتل267 مدنيا، بينهم 103 طفلا، خلال شهر واحد فقط (آذار 2025)، كما دُمرت سبع قرى بالكامل، ونزح أكثر من5,000 شخص في ظروف إنسانية قاسية، حيث استخدم الحصار والتجويع كوسيلة لإخضاع السكان، وهو ما يرقى إلى جريمة حرب بموجب المادة 8(2)(ب)(xxv) من نظام روما.

البنية القانونية للاتهام

يربط التقرير بين هذه المجازر وأركان الجرائم الدولية، ففي جميع الحالات من الساحل إلى حمص وسهل الغاب توافرت نية إجرامية واضحة لاستهداف المدنيين، من خلال اختيار مواقع مأهولة بعيدا عن أي أهداف عسكرية، واستخدام وسائل قتل جماعي، وهذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصاءات، بل أدلة كمية تدعم البنية القانونية للاتهام.

سردية الضحايا بالأرقام والوجوه

امرأة من الساحل فقدت زوجها واثنين من أبنائها في اقتحام قريتها، شيخ من حمص رأى سبعة من جيرانه يُعدمون أمامه. مزارع من سهل الغاب يروي كيف تحولت أرضه، التي كانت تنتج أطنانا من القمح سنويا، إلى مقبرة تضم عشرات الجثث، في أسلوب نادر، هذه الشهادات ليست مجرد قصص، بل عناصر في ملف إثبات أمام أي محكمة دولية.

المسؤولية بعد الدولة

بحسب التقرير مجلس حقوق الإنسان فإن المسؤولية الجنائية عن المجازر والانتهاكات التي أعقبت سقوط سلطة حزب البعث لا تقتصر على الفاعلين المحليين في الميدان، بل تشمل قيادات ميليشيات مسلحة محددة، حيث يسرد التقرير بالاسم13 قائدا يشتبه في ضلوعهم المباشر في التخطيط أو الإشراف على عمليات قتل جماعي وتهجير قسري في الساحل وحمص وسهل الغاب، ويبيّن التقرير أن هذه المجموعات المسلحة لم تعمل في فراغ مطلق، إذ بقيت السلطة في دمشق تحت سيطرة ائتلاف سياسي أمني وتحالفات فصائلية، وكان لهذا المركز سلطة فعلية أو ضمنية على بعض العمليات الميدانية، إما عبر التنسيق أو التغاضي عن الانتهاكات.

ويرى التقرير أن هذه الصلة، حتى وإن كانت غير مباشرة، تجعل من القيادات السياسية والعسكرية في دمشق مسؤولة بموجب مبدأ “مسؤولية القادة والرؤساء” المنصوص عليه في القانون الدولي، إذ يفرض هذا المبدأ المساءلة على كل من علم أو كان ينبغي أن يعلم بوقوع جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، ولم يتخذ إجراءات فعالة لمنعها أو معاقبة مرتكبيها.

كما يوضح التقرير أن الجهات الخارجية التي زوّدت الميليشيات بالسلاح أو قدّمت دعما لوجستيا وعسكريا يمكن أن تتحمل هي الأخرى مسؤولية المساعدة أو التحريض على ارتكاب الجرائم، ما يفتح الباب لمساءلة عابرة للحدود، فما بعد سقوط البعث لم يكن فترة فراغ قانوني أو سياسي، بل مرحلة انتقالية معقّدة، بقيت فيها السلطة المركزية في دمشق لاعبا مؤثرا ومسؤولا أمام القانون الدولي.

التوصيات: أرقام لواقع مرير

إنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق والمقاضاة.
فرض عقوبات على ما لا يقل عن25 مسؤولا عسكريا متورطين.
تمويل برامج لحماية أكثر من 7,000 شاهد وناج.
توفير ممرات آمنة لحوالي15,000 مدني محاصرين في جيوب النزاع.
العدالة تبدأ حين نعرف كل الأسماء ونحصي كل الضحايا، الأرقام الواردة في التقرير ليست فقط شهادة على فظاعة ما حدث، بل أدوات لاقتحام ساحات المحاكم، فمجازر الساحل وحمص وسهل الغاب هي فصل جديد في مأساة سوريا، وملف مفتوح ينتظر أن يتحول من وثيقة إلى حكم قضائي، ومن أرقام إلى عدالة حقيقية.

المصدر: سوريا الغد

اقرأ المزيد
آخر الأخبار