قراءات سياسية فكرية استراتيجية

الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين: مقامرة ديبلوماسية؟!

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه الاعتراف رسميًا بدولة فلسطين خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، في خطوة تحمل دلالات رمزية كبيرة، لكنها أيضًا تعبّر عن مقامرة سياسية تحاول كسر الجمود الدولي حيال القضية الفلسطينية. وبينما يشكل هذا الإعلان ضغطًا على رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر للسير في الاتجاه نفسه، فإن أصداء الخطوة الفرنسية تتردد عالميًا، من واشنطن وموسكو وتل أبيب، وصولًا إلى العواصم العربية.

باريس تتصدر المشهد ولندن أسيرة حساباتها

فرنسا، التي لطالما تبنت خطابًا داعمًا لحل الدولتين، قررت هذه المرة أن تتحرك خارج دائرة البيانات الداعمة، نحو فعل سياسي واضح. وبحسب ماكرون، فإن الاعتراف بدولة فلسطين لا ينبغي أن يكون جزءًا من التسوية النهائية فقط، بل يمكن أن يكون مدخلاً إليها. فالحالة الإنسانية الكارثية في غزة، والتعنت الإسرائيلي، يستدعيان ـ بحسب القراءة الفرنسية ـ “صدمة دبلوماسية” تعيد ترتيب الأولويات الدولية.” وفي زيارته الأخيرة إلى لندن، حاول ماكرون إقناع النواب البريطانيين بأن الاعتراف المتزامن من فرنسا وبريطانيا كقوتين دائمتي العضوية في مجلس الأمن، يمكن أن يشكل نقطة تحول في المقاربة الدولية، ويضغط على الأطراف المترددة

في المقابل، لا تزال الحكومة البريطانية متحفظة. فبينما أكد كير ستارمر أن “الاعتراف بدولة فلسطين هو حق لا يمكن التنازل عنه”، إلا أنه ربطه صراحة بوقف لإطلاق النار، ما يشير إلى أن القرار ما زال يخضع لحسابات سياسية دقيقة. وقد اعرب وزير خارجيته عن موقف أكثر صراحة حين قال إن “الاعتراف لا يُنتج بحد ذاته حل الدولتين، بل هو عمل رمزي”، مؤكدًا أن التوقيت والأسلوب يجب ان يكون “قرارا بريطانيا صرفا“. إلا أن الضغط الداخلي من النواب وحتى بعض الوزراء يتزايد، ما يجعل من ملف الاعتراف نقطة توتر متنامية داخل الحكومة.

معارضة أميركية ودعم روسي لحل الدولتين

الموقف الأميركي، كما هو متوقع، لا يزال معارضًا لأي اعتراف أحادي بدولة فلسطين خارج إطار اتفاق نهائي. فإدارة الرئيس دونالد ترامب تعلن معارضتها بحل الدولتين وتتبنى الاجندة الإسرائيلية بالكامل، وهي تعتبر الخطوة الفرنسية بمثابة “مكافأة غير مستحقة” للسلطة الفلسطينية، وتهديدًا للأمن الإسرائيلي. وقد أكدت وزارة الخارجية الأميركية في أكثر من مناسبة أن “الاعتراف يجب أن يكون جزءًا من تسوية تفاوضية”، كما عبّرت عن “خيبة أملها” من توجه بعض الدول الأوروبية نحو خطوات أحادية. وعلى الأرجح، فإن واشنطن لن تضغط على لندن لتتبنى موقفًا مشابهًا لباريس، بل ستشجعها على الاستمرار في موقفها المتردد.

روسيا، من جهتها، وجدت في الإعلان الفرنسي فرصة لتموضع دبلوماسي يعزز حضورها في الشرق الأوسط. فموسكو تدعم منذ زمن طويل الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وتعتبر فرنسا الآن قد التحقت بموقفها المؤيد للقضية الفلسطينية. وترى موسكو في التحرك الفرنسي ـ الأوروبي فرصة لإبراز التناقضات الغربية، واستغلالها لصالح تعزيز علاقاتها مع الدول العربية. كما أن أي توتر إضافي بين الغرب وإسرائيل، قد يخدم الموقف الروسي، خاصة في ظل العلاقة المتوترة بين موسكو وتل أبيب بسبب دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للرئيس الاوكراني المنتهية ولايته فلاديمير زيلنسكي.

غضب إسرائيل وترحيب عربي

أعلنت إسرائيل عن “غضبها” من الخطوة الفرنسية، معتبرة أن الاعتراف الأحادي بدولة فلسطين يشكل “انتهاكًا واضحًا للاتفاقيات الدولية”، ويعزز ـ بحسب تعبير مسؤوليها ـ “الإرهاب ويضعف فرص السلام.” وترى الحكومة الإسرائيلية أن الخطوة تمثل انحيازًا سياسيًا واضحًا، وتخشى من أن تؤدي إلى تحركات مماثلة من قبل دول أخرى، ما يضعها في موقف دولي أكثر عزلة. كما حذّرت تل أبيب من أن الاعتراف سيُستخدم من قبل حماس والفصائل المسلحة كدليل على “فشل المقاربة التفاوضية”، مما قد يضعف مكانة السلطة الفلسطينية أكثر فأكثر.

في المقابل لاقى الموقف الفرنسي ترحيبا عربيا لا سيما من الدول التي سبق أن اعترفت بدولة فلسطين مثل الجزائر، وقطر، والأردن. فقد اعتبر وزير الخارجية الأردني أن “الخطوة الفرنسية تعبّر عن إرادة دولية لكسر الجمود وإعطاء الأمل للشعب الفلسطيني”، بينما رحبت السلطة الفلسطينية بها بوصفها “خطوة شجاعة تأخرت كثيرًا.” لكن دولًا عربية أخرى، وعلى رأسها مصر والسعودية، أبدت ترحيبًا حذرًا، من دون إعلان تأييد صريح للاعتراف من قبل دولها، مفضلة التريث وعدم استفزاز الولايات المتحدة أو الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل في هذا الوقت الذي يندفع فيه نتنياهو للانتقال من حرب الى أخرى في المنطقة.

خلاصة

على الرغم من أن أكثر من 140 دولة اعترفت بدولة فلسطين، إلا أن الأثر الواقعي لتلك الاعترافات يبقى محدودًا طالما بقيت القوة العسكرية والدبلوماسية بيد إسرائيل، والدعم الأميركي دون شروط. ومع ذلك، فإن تحرك فرنسا ـ وإن كان رمزيًا ـ قد يشكل بداية تحول سياسي في الموقف الأوروبي، وخاصة إذا تبعته بريطانيا. كما قد يعزز هذا الاعتراف موقع الفلسطينيين في المؤسسات الدولية، ويمنحهم أدوات قانونية وسياسية جديدة للمواجهة، خصوصًا في ظل محاولات تقديم ملفات أمام محكمة الجنايات الدولية.

وتعتبر خطوة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نوعا من مقامرة دبلوماسية على أمل إعادة الزخم لقضية كادت أن تُنسى في زحمة الصراعات الدولية. لكن ما إذا كانت هذه المقامرة ستنجح، يتوقف على مواقف قوى كبرى مثل بريطانيا، وعلى قدرة العرب على استثمار هذه اللحظة دبلوماسيًا. أما الواقع على الأرض، فسيبقى مرهونًا بوقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وإنهاء الاحتلال.

اقرأ المزيد
آخر الأخبار