يواجه عشرات التجّار في دمشق تهديد الإخلاء؛ بعد قرار أصدرته غرفة التجارة ومحافظة دمشق يقضي بإفراغ المحلات المستأجرة في الأحياء التجارية العريقة، وذلك بحجة تطبيق نظام الفراغ ومراجعة العقود غير المسجّلة رسميا، لكن ما يبدو كبداية إجراءات تنظيمية، هو في الواقع قمة جبل جليدي تشريعي متراكمة منذ عقود.
منذ العام 1952، استُحدث نظام التمديد الحكمي (حسب المرسوم 111)، الذي حرّم على المؤجّر إنهاء العقد أو زيادة الأجرة بحرية، وأفقده القدرة على التصرف في ملكه، جاء بعد ذلك توازن محدود في 2001 (قانون 6) عندما سُمح للمالك بطلب الإخلاء مقابل تعويض بنسبة 40%، لكنه لم يشمل سوى بعض العقارات )، ثم تتالت التعديلات،10/2006 و32/2010 و20/2015، حيث حاولت تلك الإجراءات إدخال حرية التعاقد جزئيا وتقليص الملكية غير القابلة للتصرف، لكن “الفروغ” والتطبيق القضائي بقيا عقبة رئيسية.
القرار الأخير يأتي كخطوة ضمن “إصلاح” منظومة معقدة تاريخيا، لكنه لا يلامس جوهر أزمة أعمق، فكيف ننتقل بسوق دمشق من نظام يسجّل التمديد الإجباري إلى نموذج يسمح بالتعاقد الحر دون الإضرار بمصالح التجّار أو المالكين؟ فهل يكون الإخلاء بداية لتصحيح تشريعي أم بداية فصل مظلم جديد من النزاع القانوني والاقتصادي؟
عقود قديمة ونظام هش
مع دخول ما يُعرف بـ”نظام الفراغ” حيّز التنفيذ، فُرض على أصحاب العقارات التجارية إعادة تسجيل عقودهم رسميا في الدوائر المعنية، وهو شرط قانوني يُلزِم بإخلاء ما لم تُسجل المحال وتُستوفَ الشروط، وتمّت مراجعة العقود المنتهية أو غير الموثقة، وصدرت سلسلة من القرارات الإدارية والقضائية التي قضت بإخلاء محلات تجارية يعود تاريخها إلى أكثر من خمسين عاما، حتى تلك التي كانت تعمل بنظام “الفروغ” القانوني.
كان يحتكم المالكون سابقا إلى سحب “الفروغ” أي الحق القانوني للمستأجر عن طريق دفع قيمته حسب التاريخ، أي تعويض رمزي للمستأجر، أما اليوم، ومع عدم تسجيل العديد من العقود التجارية القديمة (خاصة غير الموثقة في سجلات الأوقاف أو السجل العقاري)، أصبح الإخلاء مباشرةً هو الأداة الأساسية للتنفيذ، إذ يُنظر إلى هذه المحلات على أنها “شاغلة بلا سند قانوني” وتخضع للإفراغ الإداري بموجب النظام الجديد.
هذه القرارات فتحت الباب أمام نزاعات متعددة، إذ يطالب المالكون بتطبيق النظام والتسجيل، بينما يجادل المستأجرون، خاصة أصحاب “الفروغ الوراثي” بأن العقود كانت قائمة بقوة المجتمع والعرف، وأن نظام الفراغ لا يحميهم من الإقصاء القانوني، ما يعكس حجم التعقيد القانوني والتضارب في السلطة والتوثيق بين السلطات التنفيذية والقضائية والإدارية.
أبرز خطوات توثيق وتنفيذ الفراغ الإداري
احتجاجات في وجه الغموض
في 3 تموز نفذ عدد من التجار وقفة احتجاجية أمام غرفة تجارة دمشق، رافعين لافتات تطالب بوقف تنفيذ الإخلاءات حتى توضيح الأسس القانونية، وتوفير بدائل اقتصادية عادلة، في وقت لم تُصدر الغرفة أو المحافظة حتى الآن بيانا يوضح عدد المحلات المتأثرة أو الآلية الزمنية للتنفيذ، بينما أكد بعض المحتجين أنهم تلقوا بلاغات إخلاء خلال أيام دون إنذار مسبق أو تعويض.
لم تربط الجهات الرسمية القرار صراحة بقانون الآثار أو إعادة تنظيم الأسواق القديمة، إلا أن كثيرا من المحلات المشمولة تقع ضمن مناطق أثرية أو خاضعة لتنظيم خاص، ما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت الغاية الحقيقية هي “تحرير العقارات” لمشاريع استثمارية، على حساب صغار التجار.
وتم سابقا فسخ 17 عقدا في منطقة باب مصلى كانت مستأجرة من الأوقاف، وذلك في خطوة وُصفت بأنها “تطهير إداري”، ما يفتح الباب أمام استهداف أوسع للممتلكات التجارية الوقفية أو العامة.
آثار اقتصادية واجتماعية محتملة
الإخلاء القسري دون خطة تعويض أو تمويل بديل يهدد بتفريغ وسط دمشق من تجارها التقليديين، خاصة في ظل الانهيار المستمر للقوة الشرائية وهجرة رؤوس الأموال الصغيرة نحو الخارج، كما أن ضرب الحلقة التجارية التاريخية في دمشق يؤدي إلى تفكك شبكات التوزيع القديمة، وهو ما سينعكس على الأسعار وتوفر السلع في الأسواق.
من جهة أخرى، يشكل القرار إشارة مقلقة لتجّار المحافظات الأخرى الذين يتخوفون من تعميم الإجراءات على أسواق حلب وحمص وحماة وغيرها، ضمن سياسة إعادة “فرز المشهد التجاري”.
ما يجري اليوم في دمشق ليس نزاعا قانونيا عابرا حول عقد إيجار فحسب، بل هو صراع جوهري على هوية السوق القديمة ومكانتها في مستقبل العاصمة، فهذه المحلات التراثية لا تمثل مجرد مبانٍ بل تُجسّد ذاكرة اقتصادية واجتماعية رواها آلاف التجّار عبر أجيال.
حسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، تشكّل الأسواق القديمة جزءا لا يتجزأ من الهوية الحضرية لدمشق، وتواجه خطرا مزدوجا التخريب العمراني سلفًا، ثم التهجير القانوني اليوم.
هناك مخاوف حقيقية من أن يؤدي تطبيق نظام الفراغ دون رؤية واضحة، أو خطة حماية حقيقية، إلى تهجير غير معلن للتجار ليس من بيوتهم فحسب، بل من أسواقهم ومحلاتهم التي يعتبرونها إرثا لهم ولدمشق القديمة، فالأرقام تشير إلى أن آلاف السكان تحولوا إلى “سياح” في مدينتهم بعد النزوح، ومع انسحابهم يتآكل النسيج العمراني والتجاري معا.
المصدر: سوريا الغد