قراءات سياسية فكرية استراتيجية

تطبيع حكومات، لا تطبيع شعوب

أنه زمن العولمة، زمن التطور التكنولوجي الرقمي حيث لا محرمات فيه، أنه زمن للأسف تتسابق فيه بعض الأنظمة (العربية) إلى التطبيع مع (إسرائيل) والتي بدورها تطرح الكثير من التساؤلات حول عمق الصراع منها:
هل التطبيع محصوراً فقط بين الحكومات؟
هل التطبيع هو خضوع لاستعمار جديد يثّبت حق (إسرائيل) في الوجود؟
ما هو ثمن هذا التطبيع؟
وهل يمكن تعايش مشروع توراتي توسعّي مع شعوب رافضة أصلاً لهذا التطبيع؟!
ما هو مستقبل المنطقة برمتها؟
أنها مجموعة أسئلة نتركها في يد القراء لمناقشتها والرد عليها بشكل علميّ ومنطقي، انطلاقاً من هنا سنحاول وعبر هذه المقالة أن نتناول أربعة نقاط نراها نحن رئيسة لمعالجة الموضوع:

1 – إسرائيل ومشروعها التوسعّي:
لأن (إسرائيل) هي ليست دولة ذات حدود طبيعة، بالتالي هي كيان استيطاني، هي كيان تستند إلى سردية توراتية يفرضونها على الواقع السياسي في المنطقة، ألم يقل (بن غوريون) صراحة: “علينا أن نكون مستعدين للحرب دائماً، لأن حدود (إسرائيل) هي من الفرات إلى النيل”.
ألم تدعم تلك السرديات التوراتية هذا الاتجاه، مثل ما ورد في سفر التكوين 15:18 “بأن أرض (إسرائيل) تمتد من نهر مصر إلى النهر الكبير” أليست هذه الأدبيات أصبحت بوصلتها الإستراتيجية في السياسية وفي الحرب؟

2 – التطبيع ومن خلفة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب:
أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها بريطانيا وفرنسا والعديد من دول الغرب، لم تكن يوماً بعيدة عن المشروع التوراتي وكانت الداعمة الأساس له، منذ (وعد بلفور) سنة 1917 وصولاً إلى (صفقة القرن) وما يجري اليوم من قضم للأراضي في سورية ولبنان، ومما لا شك فيه أن هذا التطبيع اليوم هو استكمال للمشروع (الكولونيالي) لكن بنسخة متطورة ومعاصرة.
وفي هذا السياق تناولت الدكتورة هبة جمال الدين من خلال دراستها حول (الديانة الإبراهيمية) كيف يستخدم هذا المفهوم كغطاء أيديولوجي والذي يهدف إلى قتل المسألة الفلسطينية.
وتكمل جمال الدين لتؤكد “أن الدين الإبراهيمي الجديد هو ليس حوارًا بين الأديان بل دمجاً سياسياً سيفرغ الأديان من محتواها المقاوم وسيفتح الباب لشرعنة الاحتلال”

3 – سلام حكومات لا سلام شعوب، مصر والأردن نموذجاً:
أذا أردنا أن نراقب تجارب التطبيع في مصر 1979 أو في الأردن 1994، نجد أن الشعوب رفضت رفضاً قاطعاً إقامة علاقات مع العدو وهذا أن دل على شيء فهو يدل على فشلها على المستوى الشعبي.
ويقول محمد حسنين هيكل في هذا السياق: “ما وقّع في (كامب دايفيد) ليس سلاماً بل فصل مؤقت لإطلاق النار، لا تدفئه فيه للقلوب، ولا قناعة فيه بالتعايش”
وبعد كل هذه السنون التي مضت لقد ُسجل على (إسرائيل) فشلها في اختراق البيئة الشعبية لكل من مصر والأردن ما يؤكد أن عملية التطبيع هذه، ستبقى مفصولة ما بين الأنظمة وشعوبها.

4 – لبنان المقاوم
أظهرت الحرب الأخيرة التي اندلعت تاريخ 7 أكتوبر 2023 وهي الحرب الخامسة منذ العام 2008 في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إذ تعتبر هذه الحرب من أهم الحروب العسكرية منذ نكبة 1948 وإلى يومنا هذا والتي كان من نتائجها أزمات على مستوى المنطقة إلى يومنا هذا. وجود أصوات لبنانية تاريخها كان حافلاً بالتعامل مع العدو، والتي تدعو بدورها إلى التطبيع تحت حجج مختلفة منها: السلام، الحياد، الأمان…
إلا أن الموقف الرسمي والشعبي ظل متمسكاً بمقاومة هذا العدو أقله إلى الآن، وذلك طبعاً بفعل أعمال المقاومة البطولية والمواجهة المباشرة مع العدو والتي نجحت المقاومة في تكبيد الخسائر المتتالية في صفوف العدو منذ العام 2000 وقبل إعلان وقف إطلاق النار، إضافة إلى تثبيت حالة التوازن التي ثُبتت في الميدان.
كما ويرى أنطون سعاده في صراعنا مع العدو، أن هذا الصراع هو صراع بنيوياً وليس سياسياً عندما قال:
” الصهيونية خطر جسيم على الأمة، لآنها لا تكتفي باغتصاب فلسطين فقط، بل تستهدف الأمة السورية كلها، وهي حركة ذات أبعاد استعمارية تتخطى الجغرافيا”
وبناء عليه نؤكد أن الصراع مع (إسرائيل) هو صراع وجود لا صراع حدود، كون الاعتراف بها هو في جوهره الغاء للآخر، أي نحن.
ما هي نتائج هذا التطبيع؟
أ – عبر إدخال السردية التوراتية في مناهجنا التعليمية والأعلام المضلل سيتم إعادة تشكيل الهوية وستكون الخسارة السياسية والثقافية مدوية.
ب – تحت حجة الاقتصاد، والتكنولوجيا والأمن ستتمكن (إسرائيل) من السيطرة على كامل مقدراتنا.
ج – ضرب المجتمع وتقسيمة إلى مجتمعات ما بين المطبعين والمقاومين للتطبيع.

كيف يمكن مواجهة هذه النتائج؟:
الوعي ثم الوعي ثم الوعي خاصة على المستوى الشعبي، والتأكيد بإن (إسرائيل) هذه ليست سوى مشروع إلغائي للهويتنا ولتاريخنا ولجغرافيتنا.
فضح مشروعهم الجديد “الديانة الإبراهيمية”.
تبني الاستراتيجية المقاومة لهذا المشروع وذلك عبر الكثير من الأساليب والتركيز على المناهج التربوية والتعليمية والأبحاث الجامعية.
تفعيل القوانين التي هي ضد التطبيع ودعم الحملات الشعبية ضدها.
أخيراً نقول إن التطبيع مع هذا الكيان المؤقت ليس سياسياً بالمعنى التقليدي، بل هو مشروع لنفي الوعي والذاكرة والتاريخ، وقد أثبتت كل التجارب التي مرينا بها أن الشعب لا يطبّع، بل يُقاوم. وأن أي عملية تطبّيع يعني تدميرًا للذات وللأوطان وللتاريخ وللجغرافيا، هي معركة بين النهب والحرية، بين السردية التوراتية المزيفة وبين الحقيقة التاريخية المدعمة آثارياً، بين من يريدون فرض (إسرائيل) علينا بالقوة وبين من يحمون هذه البلاد بالدم والتضحيات ووقفات العزّ، فمارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب، بل خافوا الفشل وتدمير الذات.

الكاتب: نجا حماده باحث في علم التاريخ

اقرأ المزيد
آخر الأخبار