قراءات سياسية فكرية استراتيجية

زمن التحرير: بين خيانة التطبيع وصدق البصيرة

لم تعد القضية الفلسطينية تمثل البوصلة الحقيقية للعديد ممن يتغنون بالعداء للصهيونية أو التمسك بالأرض والعقيدة. لطالما كان الارتباط الديني والجغرافي عاملاً حاسماً في صمود الشعب الفلسطيني، وفي تعزيز روح المقاومة، خاصة مع موجات التعاطف الشعبي التي اجتاحت العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتجسدت في وقفات تضامنية وأشكال فنية تعبّر عن الموروث الثقافي الفلسطيني. 

لكن الواقع كشف أن ما قُدّم للقضية لم يكن في الغالب سوى شعارات جوفاء استُخدمت لتسويق أجندات سياسية أو ثقافية، حتى بات البعض يظن أن النصر قريب، وأن الصلاة في الأقصى على بعد خطوات. إلا أن ساعة الحقيقة جاءت لتبيّن أن القضية تحوّلت لدى الكثيرين إلى ذريعة لتبرير الفشل الداخلي، أو إلى ورقة ضغط في صراعات إقليمية. فبدلاً من مواجهة العدو الحقيقي، تم تحميل طائفة أو فصيل معين مسؤولية الأزمات، بينما ظل المحتل يمدّد سيطرته دون رادع. 

فأين أصبحت القضية اليوم وسط هذا التآكل المستمر؟ وهل ما زالت فعلاً قضية أمة، أم أنها أصبحت ورقة تفاوض في يد أنظمة تبحث عن شرعية داخلية وخارجية؟ وما حجم النفوذ الذي تمارسه إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، في إعادة تشكيل الخريطة السياسية للشرق الأوسط؟ هل باتت الشعوب مجرد متفرج على صفقات تُعقد فوق دماء الفلسطينيين، أم ما زال هناك أمل باستعادة القضية إلى حضنها الشعبي والوجداني ؟

أصبحت فلسطين ورقة تفاوض في يد أنظمة تبحث عن شرعية أو مصالح آنية. فمنذ إعلان كوندوليزا رايس عن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” إبان عدوان تموز عام ٢٠٠٦، وهو يستهدف إعادة رسم المنطقة وفق الرؤية الأمريكية، تراجعت العديد من القوى التي كانت ترفع شعارات المقاومة، وارتمت في أحضان المشاريع الغربية أو الخليجية، متناسية دماء الفلسطينيين وحقوقهم. 
لكن في وجه هذا المشروع، وقفت مقاومة إسلامية صلبة أفشلت على مدى عقود طويلة كل المخططات الأميركية التي مرّت عبر لبنان، سواء عبر الحروب العسكرية أو التدخلات السياسية. وإذ لم تفلح تلك المشاريع، خرج الأميركيون بموجة “الربيع العربي” التي هدفت لإسقاط أنظمة، وخلق صراعات داخلية تمزّق المجتمعات، في إطار مشروع تفتيت المنطقة من الداخل. وقد صُرف لتحقيق هذا الهدف مئات الملايين من الدولارات، دعمًا للفوضى وسعيًا لتدمير البُنى الوطنية وبُغية محاصرة كل عمل مقاوم.

ففي سوريا، تحوّل الخطاب من وعود التحرير إلى قبول الأمر الواقع، بل والتطبيع مع من كان يُوصف بالعدو. فقد شهدنا في الأمس القريب لقاءً جمع الرئيس السوري احمد الشرع بالرئيس الأميركي برعاية سعودية، في مشهدٍ شكّل خيبة أمل لكثيرين. فالرجل الذي لطالما توعّد بالصلاة في المسجد الأقصى بعد التحرير، بات اليوم يعلن، بشكل مباشر ان لا تحريرها كلها ممكن ولا تحريرها كلها بدأ بل حقق العدو الاسرائيلي والاميركي أهداف توسعية لم يكن يفكر حتى بتحقيقها والسلطة منشغلة في قتل الأقليات واستفزازهم.
وفي لبنان، عاد الجنوب ليعيش حالة شبيهة بما كانت عليه الأوضاع قبل انطلاق المقاومة، التي كانت — ولا تزال — الضامن الأساسي للسيادة الوطنية. اليوم، تُستهدف الأراضي اللبنانية وصواريخ العدو تُسقط على البيوت الآمنة، في ظل صمت داخلي ودولي مشبوه، وكأن سيادة لبنان أضحت وجهة نظر. فالعدو الذي يحتل الأرض، بات في منطق البعض “يدافع عن نفسه”، بينما تُدان المقاومة التي تُدافع عن شعبها وأرضها. لم تبخل الأبواق الإعلامية والصحفية يومًا بجهد في تبرير الاعتداءات والدفاع عن المعتدي، بل ذهبت أبعد من ذلك، فهلّلت لضرباته، وحملت سيفه، وشاركت فرحته، وغضبت لغضبه، متجاهلةً شلالات الدم التي سُفكت على يد العدو. عدوٌ ينص عليه الدستور اللبناني صراحة، تحوّل عند البعض إلى حليف، مهما اختلفت المسميات وتغيّرت الخطابات. فهؤلاء، عند كل عدوان إسرائيلي، يرددون بوقاحة: “من حقه أن يدافع عن نفسه!”

أما غزة، فقد تحوّلت في نظر بعض النخب إلى عبءٍ يجب التخلص منه، أو قضية خاسرة لا تُجدي سوى بإشعال الحروب. وهي اليوم تُباد تحت نيران آلة القتل الصهيونية، بينما تتفرج الأنظمة المجاورة، وكأن الدفاع عن المظلومين لم يعد شأناً عربياً، بل تحوّل إلى “مسؤولية طائفية” في نظر البعض. 

وها هي 85 طنًّا من المتفجرات تُلقى على جبل العزّ والشموخ، في محاولة يائسة لكسْر ظهر المقاومة عسكريًّا وسياسيًّا. انقطعت خطوط الإمداد، وتخلّى الحلفاء الواهنون، ليحلَّ محلَّهم مَن ينحني للإرادة الأمريكية دون وَقْرٍ من مبدأ أو قضية. ولا عَتبَ عليهم، فما اعتادوا سوى الخطابات المُزهِرة والبيانات الفارغة؛ إسنادهم حبرٌ على ورق، وشعاراتٌ تذروها الرياح.  إذ طالما كان الموقف عندهم كلامًا يُردَّد، لا دمًا يُبذَل.

لكن رغم كل هذا، تبقى المقاومة – رغم كل الضربات والمحاولات لإضعافها – الحصن الذي يفشل المخططات التفتيتية. فالأمة التي تخذل قضيتها المركزية اليوم، ستجد نفسها غداً أمام عدوان لا يُبقي ولا يذر. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ما زال هناك أمل باستعادة القضية من براثن الاستغلال السياسي، وإعادتها إلى حضنها الشعبي والوجداني؟ أم أن الزمن قد تجاوزنا، وصارت فلسطين مجرد ذكرى في سجل الهزائم؟

الخيار بين الاستسلام والمقاومة ما زال قائماً.. ولكن إلى متى؟
ههنا بالتحديد تبرز أهمّية المقاومة كجدوى وجودية في معنى أن نكون. إنّ عيد المقاومة والتحرير مناسبة للإحتفال بالكرامة والحرّية، ولكنّها أيضاً مناسبة للتذكّر أنّنا بالمقاومة فقط نستطيع أنْ ننتصر.
ففي زمن “التكويع”.. حين تصبح الخيانة “انفتاحًا” والعمالة عملاً واقعياً وفي زمنٍ يُغسل فيه العقلُ الجماعيُّ بخطابٍ مسموم، يُقدّم الخيانةَ على أنها “حكمة”، والانبطاحَ على أنه “خيار عقلاني”، بات يُشيطَن كلُّ من تشبث بالعزّ ورفض المساومة على الأرض والعرض. إنه مشروع متكامل لتصفية المقاومة معنويًّا قبل عسكريًّا: تشويه رموزها، وتبييض وجه المحتل، وترويج أكذوبة “العدو الضحية” الذي “يدافع عن نفسه” أمام “إرهاب” المقاتلين المدافعين عن أرضهم!

ذكرى التحرير.. حين انتصرت إرادة الحديد
في هذه الأيام، نحتفي بذكرى تحرير الجنوب، عندما أجبرت بندقيةُ المقاومةِ، المدعومةُ بإرادة الشعب، آخرَ جندي صهيوني على الفرار. لم تكن الدبابات هي من حرّرت الأرض، بل إيمانُ أبنائها بأن الحقَّ لا يُنتزع إلا بالدم. لقد كذّب التاريخُ، هنا، كلَّ مقولات الاستسلام: فالمشروع الصهيوني لم يسقط بغير المقاومة، ولم تتراجع آلةُ الاحتلال إلا أمام سلاحٍ شريفٍ وُجد للدفاع لا للعدوان.

السيّد نصر الله.. حين يتحوّل التحذير إلى نبوءة
لم تكذب بصيرةُ السيد الشهيد حسن نصر الله يومًا. حين حذّر من أن حربَ سوريا هي حربٌ على القدس، لم يكن يلوّح بشعارات، بل كان يقرأ خريطةَ المؤامرة بوعيٍ ثاقب. اليوم، تتكشف الحقائق: فمن وقف مع سوريا وقف مع فلسطين، ومن تآمر عليها ساهم في تقويض القضية الأم. لقد فهم أن المعركة كانت – وما زالت – على وعي الأمة قبل أرضها، وأن سقوطَ أيّ حصنٍ ممانعٍ هو بوابةٌ لتصفية المشروع المقاوم كله.

وها هي الحلقات تتكامل: تدميرُ الدول الممانعة، تجفيفُ منابع المقاومة، ثم دفعُ المنطقة إلى التطبيع تحت شعارات “السلام الزائف”. لكن التاريخ يعيد نفسه: فكما أنزلت المقاومةُ بالعدو هزيمةَ أيار، فإنها قادرةٌ على إفشال كلّ مشاريع الاستسلام. لأن منطقَ القوةِ هو الوحيدُ الذي يفهمه عدوٌّ لا يعرف لغةً غير لغةِ الغلبة.

فليُزيّنوا الخيانةَ بأسماء برّاقة، وليُلبسوا الانبطاحَ ثوبَ “الواقعية”، لكنّ دروسَ الماضي تُعلّمنا أن العدوَّ لا يتراجع إلا حين يواجه إرادةً لا تنكسر، وسلاحًا لا يخون. والموقفُ ليس تفاخرًا بالماضي، بل استعدادٌ للمعركة القادمة.. فما زال في الأمّةِ من يعيدون للأرض عزَّها، وللدماء قيمتَها.

منذر ادريس

اقرأ المزيد
آخر الأخبار