«الطائرات تطير/ والأشجارُ تهوي/ والمباني تخبز السكّان» (محمود درويش- «مديح الظلّ العالي).
في الميثولوجيا العربية القديمة، هناك أسطورة تحثّ على الثأر باعتباره راحة لنفس المقتول. ذلك الثأر الذي أصبح لاحقاً قيمةً أساسيةً من قيم المجتمع العربي القديم الذي يزخر تراثه بقصص ومرويّات عدة يشكّل منطق الثأر فيها ركناً أساسيّاً من أركان الثقافة العربية القديمة.
طائرٌ يخرج من رأس القتيل
تتحدّث تلك الأسطورة عن طائر يُسمّى الصدى أو الهامة، وهو في معتقدات العرب طائرٌ يخرج من رأس القتيل الذي لم يؤخذ بثأره بعد، فيبكي ويزعق عند قبره ويصرخ: «اسقوني، اسقوني، حتّى يؤخذ بثأره». يؤوّل بعضهم هذا الطائر بأنّه روح القتيل نفسه التي لا تهدأ إلّا حتّى تشرب وتُسقى من دم قاتلها، ثمّ بعد ذلك ترقد أو تطير.
وللصدى هنا دلالة عميقة، إذ لا يكرّر الصدى كلّ ما جاء في صوت النداء ولا كلّ ما نُطِق من كلام، فرجْعُ الصوت في ما يسمّى بالصدى، ينشغل بترديد آخر ما تمّ قولُه فقط.
ذاكرته تقف على حافّة النسيان، يتذكّر نهاية القول وينسى كلّ ما جاء قبله. ضمن هذا المعنى استخدم العرب كناية الصدى واستعارة الطير للترميز إلى قيمة الأخذ بالثأر بعد الموت.
ذلك أنّ الدم المسفوك من القتيل هو خاتمته، نهايته التي لا تنفكّ تُردَّد كنداء يستنجد بطلب الثأر من القتلة، وللنداء ذاك صدى… صدى لا يَسمعُ سوى نهاية ندائه المدمّى، فَصَيْحَةُ الدم المسفوك إذن يُرجعها الصدى بـ «اسقوني اسقوني من دم قاتلي».
انصهارٌ بين الروح وثأرها
في غزّة يقصف طيران العدو الإسرائيلي، فيصير الشهيدُ هناك طائراً، فلا حاجة إذن إلى أن يخرج طير الصدى من جسد القتيل طالما أنّ القتيل هو ذاته الذي يطير.
إذن ثمّة انصهارٌ هنا بين الروح وثأرها، بين صوت الأحياء والصدى الطالع من أصواتهم، بين الإنسان وطائره، تماماً كما أنّ هناك انصهاراً بين أجنحة الصاروخ والطائرة الحربيّة.
جميعنا شاهدنا الفيديو المصوَّر لأحد أهالي غزّة الذي طار في السماء مع غبار الردم ودخان قذائف العدوّ ثمّ سقط سقوطاً مدويّاً فوق الركام. إلّا أنّه كان سقوطاً حرّاً في المعنى النضالي للكلمة.
ذلك أنّ هناك دوماً حقّاً للعودة إلى الأرض يكشف عن نفسه بطريقته الخاصّة، فإذا كان الطيران استعارة لكلّ ما هو معلّق بين الأرض والسماء، فإنّ السقوط هو استعارة أوثق للتعلّق بالأرض.
ولذلك، يصبح معنى اللجوء هنا مساوياً لمعنى ذلك الطيران، وتصبح العودة مرادفاً لفعل السقوط الحرّ. على أنّ السقوط هنا هو فعل ارتقاء في جوهره، فالسماء لا تطير وطير صدى الشهداء لا يعرف كيف يقع.
ولذلك فإنّ السقوط الحرّ هنا يشبه من حيث الدلالة ما قاله الشاعر أحمد مطر في قصيدته انحناء السنبلة: «أجل إنّني أنحني تحت سيف العناء ولكن صمتي هو الجلجلة/ وذلّ انحنائي هو الكبرياء/ لأنّي أبالغ في الانحناء/ لكي أزرع القنبلة».
وبعيداً من الشعر، فإنّ العلم يثبت ذلك أيضاً، ففي عام 2005 أجرى الدكتور م. زامبنيني من «جامعة تورنتو» في إيطاليا تجربة علمية أثبت عبرها أنّ النظر إلى بنيان بصري يتحرّك من الأعلى إلى الأسفل بصورة متواصلة كالشلّال على سبيل المثال، يجعل الناظر الذي يتلمّس بيديه بنياناً ما، يقتنع بأنّ هذا البنيان يتحرّك إلى الأعلى.
ولذلك، فلا غرابة أن نرى في غزّة أنّ كلّ شيءٍ يتحرّك للأعلى، فالشهيد يرتقي. عدد الشهداء تعلو نسبته، الأكفّ ترتفع مع الأدعية للسماء، الصرخات عالية، الثأر يطير، الصدى يتجنّح، والقصف -كما يقول الشاعر فوزي يمّين- لن يتوقّف حتى يتزايد الركام ويتصاعد إلى أن يصبح هو إعادة الإعمار المنتظرة.
في الوجه الآخر للصدى
الصدى في أسطورة Echo الإغريقية، هو عقاب عاقبتْ به الإلهة هيرا زوجة كبير الآلهة زيوس، حوريةً لديها تسمّى «إيكو» لأنّها احتالت وتلاعبت عليها بفصاحتها وثرثراتها الممتعة بالاتفاق مع زيوس كي يتسنّى له الوقت الكافي بعيداً من زوجته هيرا في ممارسة شؤونه الغرامية الأرضيّة.
حكمت هيرا على حوريتها بأنْ أفقدتها الكلام الذي كانت تسحر به الألباب وقدرتها على رواية القصص والروايات. إذ صرخت هيرا في وجهها: «هِبَةُ الكلامِ التي خدعتني بها، لَنْ تكونَ لكِ بعدَ اليوم، فمنذُ الآن ستُصبحينَ صمّاءَ ولن تنطقي إلا لتُردِّدي ما تسمعينَه».
وعليه أصبح الصدى/Echo عقاباً من جنس الفعل. وهكذا أصبَحَتْ ايكو صمّاءَ وغيرَ قادرةٍ على الكلامِ إلا لتكون صدى يُرَدِّدُ كلامَ الآخرين، فانعَزَلَتْ عن أخواتها وعاشَتْ وحيدةً حزينةً في إحدى غابات الجبال. إلّا أنّ ايكو المعاصرة اليوم لم تعد أسطورةً، لم تعد فصاحة العربيّ التي اشتُهِر بها دوماً سوى خديعة يتلطّى وراء سحر بيانها حيناً أو ثرثرةً لِعَلْك المواقف من خلالها وهضمها على هيئة بيانات زائفة وتنظيرات جوفاء أحياناً أخرى. إنّ العربيّ قد خلع عنه ثأره، وحوّل صداه الأول المتلهِّف بصراخه «اسقوني اسقوني» إلى إيكو أصمّ يردّد ما يُطلب منه ترديده.
إذن ثمّة تحوّلٌ هنا في شخصيّة العرب من كونهم بلغاء اللسان حتّى في أصدائهم، إلى مجرّد أُذُنٍ كبيرةٍ تردّد ما تسمع ولا تحكي.
ولذلك لم يُسجن فقط طير صداهم، بل قُصّت أجنحته أيضاً وأُبْكِمَ لسانُه، وصار الإعلام العربي الجديد هو الصدى العقابيّ وصار كلّ إيكو في العالم العربيّ يحاول أنْ يخرج عن مسار موجة البثّ المطلوب منه ترديدها ليعود ويصبح صدى لقضاياه، مشكلةً وجبَ ليس قطع أذنيها فقط، بل إبادتها كما العادة. في تائية ابن الفارض ما يوحي بذلك:
«فعيني ناجت، واللسان مشاهدٌ/ وينطق منّي السمع، واليدُ أصغتِ/ وسمعي لسانٌ في مخاطبتي، كذا/ لساني، في إصغائه، سمْعُ مُنْصِتِ».
في بعض الأنظمة العربية، حيث تكثر جوائز الفصاحة وبرامج البلاغة، وحيث الأذن لا تسمع النداء الواجب سماعه، بل تصغي لنداءات تحتاج إلى ترجمان حتّى يستطيع الصدى ترديدها على العالمِين، هناك تنزل الأسطورة عن عرشها الميثولوجي وتنغمس في قذارة واقع لا تريده أنْ يتكلّم ولا أنْ يصيح، فيتحوّل طير الصدى المنتقِم والثأريّ، إلى إيكو مشلول يزحف بفصاحته الفارغة نحو التطبيع راضياً مرضيّاً.
فالصدى الذي يصمّ أذنيه عن صوت صاحبه المسفوك دمه ويفتحهما لأصوات القاتل، يصبح شريكاً في قتل نفسه، قبل أنْ يكون شريكاً في قتل سواه. ولذلك، تتساوى فصاحة اللسان هناك مع رداءة ما تنصت له الأذنان، ويصبح سحب الخناجر والتنافخ بالشرف والصراخ في وجه فلسطين صوناً للعرض، همّاً عربيّاً واعترافاً وقحاً بمشاركتهم في المأساة.
ذلك أنّ ما قاله مظفّر النواب كان كشطاً لتلك النوايا حين كتب في قصيدته «القدس عروس عروبتكم»: «ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها… فما أشرفكم أولاد».
رياض ملحم
المصدر: جريدة الاخبار