ربما يكون ضم الضفة الغربية، أو أجزاء كبيرة منها، مع إبقاء الباقي تحت مظلة الكيان، أحد الأثمان التي قدمها ترامب لنتنياهو لإقناعه بتمرير وقف إطلاق النار، إضافةً إلى زيادة الضغط على إيران بالعقوبات.
كان لافتاً ضغط ترامب على نتنياهو للقبول باتفاق وقف إطلاق نار في غزة. بات واضحاً أنه الاتفاق ذاته الذي عملت إدارة بايدن على صياغته في أيار / مايو الفائت، وخصوصاً بالنظر إلى أن الحزب الجمهوري كان يزايد على الرئيس بايدن والديمقراطيين في مسألة دعم “إسرائيل”، وأنه تصدى أكثر من مرة في الكونغرس للعقوبات الخجولة التي سعى الديمقراطيون إلى فرضها على الكيان الصهيوني.
لكنّ السياسة في زمن هيمنة الصورة باتت تتحكم فيها البصريات: الفيديو، اللقطة، الكاريكاتور، والتعليق الذي يصيغ انطباعاً هو أقرب إلى صورة ذهنية. وترامب، رجل الأعمال والعقاري الكبير، القادم إلى السياسة من تلفزيون الواقع، بات ينظر إلى السياسة من خلال عدسة الكاميرا، وأثر الانطباع الذي تتركه الصورة جماهيرياً.
اشتهر ترامب نتيجة الدور الرئيس الذي أداه في برنامج “المتدرب” The Apprentice، بين عامي 2004 و2015، حتى جرى حظره جراء تفوّهه بإهانات بحق المهاجرين المكسيكيين، إضافةً إلى سلسلة أدوار ثانوية في أفلام ومسلسلات أخرى منذ التسعينيات.
واشتهر، حتى قبل الـ 20 مليون مشاهد الذين حظي بهم برنامجه في موسمه الأول، بإدارة شؤونه التجارية والشخصية بصورةٍ إشكالية واستعراضية، وكان فناناً في توظيف إشكالاته استعراضياً، حتى تحوّل إلى ظاهرة سياسية فريدة هي، في آنٍ واحد، نتاج تطور وسائل الاتصالات من جهة، ونتاج تلاؤم شخصية ترامب، من جهةٍ أخرى، مع فن الاستعراض المسطح القائم على قِصر فترة انتباه المستهلك الإعلامي، وبحثه عن الإثارة، وذاكرته السمكية، ونفوره من المعالجات المنهجية المعمقة، ونتاج طبيعة النظام السياسي الأميركي، من جهة ثالثة.
كان من نتائج ذلك، في الفترة الرئاسية الأولى لترامب، أنه كثيراً ما أدار الشأن السياسي، داخلياً وخارجياً، من خلال منشورات تلقائية، أقرب إلى التهور، لكنْ مثيرة، عبر حسابه في منصة “تويتر”، بدلاً من القنوات الرسمية، حتى جرى حظره.
وكان ذلك محسوباً لشد الأنظار ومراكمة الإعجاب، في عصر الوجبة الإعلامية السريعة والتواصل الجماهيري المباشر، بمقدار ما نبع غريزياً من نرجسيته وميله الطبيعي إلى الرسم والتلوين بفرشاة عريضة فوق مسائل دقيقة ومعقدة جداً، فجاء سلوكه لافتاً ومقنعاً، غير مفتعل، لأنه سلوكٌ منسجم مع قناعاته وشخصيته، ومع زمن الرداءة الذي تطفو الأجسام الأقل كثافةً على سطحه.
يخطئ من يظن أن ترامب كهذا، المكوّن في تلك الصورة، والساعي إلى الظهور بمظهر راعي البقر (الكاوبوي) الذي يدخل الحانة في أفلام “الوسترن” كي “ينفضها نفضاً”، يمكن أن يسمح لنتنياهو بأن يعكر صفو الاحتفال بتسلمه مقاليد الرئاسة بصور المزيد من المجازر والدمار القادمة من غزة، بل كان يجب أن يتوج ترامب رئيساً على خلفية إطلاق سراح الأسرى الصهاينة في غزة، وسيادة الهدوء الذي يأتي به هو، لا بايدن.
المسألة محض إعلامية، وتتعلق بالصورة، لحظة تتويج ترامب، إذ إن الضغط الشديد الذي مارسه ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب، على نتنياهو، كي ينصاع لاتفاق وقف إطلاق النار، ليس له منطق سياسي، ولا خلفية في سجل ترامب مع الكيان الصهيوني، بل له منطق إعلامي: إبراز قدرة ترامب على حل أعوص المسائل بطريقة “كاوبويجية”، وعلى فرض الهدوء بإشارة من سبابته في أعقد ميدان، وعلى جعل العالم يقف على رأسه عند الضرورة، كرمز للقوة الأميركية في العالم.
كان نتنياهو، من جهته، يتعامل باستخفاف مع بايدن، على الرغم من كل ما قدمه الأخير، لكنه لم يجرؤ على القيام بذلك مع ترامب. وكان ترامب حريصاً على صورة نتنياهو والكيان الصهيوني، لذلك قال له، بحسب وكالة “رويترز” في 15/8/2024: “احصل على نصرك، لكن انهِ الأمر بسرعة، فالقتل يجب أن يتوقف”، منتقداً أيضاً دعوات وقف إطلاق النار في ذلك الوقت.
وبحسب تقرير في “تايمز أوف إسرائيل”، في 30/10/2024، فإن ترامب أعطى نتنياهو مهلةً حتى اليوم السابق لتنصيبه رئيساً، أي الأحد الموافق 19/1/2025، من أجل إيقاف الحملة على غزة. ويضيف التقرير ذاته، نقلاً عن مصادر قريبة من ترامب، أن الأخير لم يكن “محدداً” في مطلبه من نتنياهو، ويمكن أن يدعم استمرار فعاليات “جيش الدفاع الإسرائيلي” في غزة، ما دام ذلك يجري في ظل إعلان وقف إطلاق النار رسمياً.
يقفز مثال لبنان إلى الأذهان هنا: استمرار الفعاليات العسكرية لقوات الاحتلال في ظل وقف إطلاق نار رسمي، مع الاستعداد لرمي المقاومة بانتهاكه فورياً إذا ردت على انتهاكات قوات الاحتلال.
كان نتنياهو ينتظر وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية كي ينطلق، وكانت المؤشرات طيبة بالنسبة إليه من ناحية ترامب الذي أقر، في فترة رئاسته الأولى، بـ”سيادة إسرائيل” على القدس والجولان ومستعمرات الضفة الغربية، والذي عيّن، في 12/11/2024، مايك هاكابي سفيراً أميركياً لدى الكيان الصهيوني، مع العلم أن الأخير من الأنصار المتحمسين لضم “يهودا والسامرة” رسمياً إلى “إسرائيل”، إلى درجة أنه صرح في 15/11/2024 لموقع تابع للصهيونية الدينية هو Arutz Sheva، أو Israel National News في النسخة الإنكليزية، بأنه يصر على مصطلحَي “الأرض الموعودة” و”يهودا والسامرة”، ويرفض استخدام مصطلح الضفة الغربية.
وربما يكون ضم الضفة الغربية، أو أجزاء كبيرة منها، مع إبقاء الباقي تحت مظلة الكيان الصهيوني أمنياً وعسكرياً، أحد الأثمان التي قدمها ترامب لنتنياهو لإقناعه بتمرير وقف إطلاق النار، إضافةً إلى زيادة الضغط على إيران بالعقوبات، بحسب مايك والتز، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، الذي قال إنها سوف تفعّل سياسة “الضغوط القصوى” على إيران لموقع “بلومبيرغ” قبل شهر.
الأهم هو ما قاله مايك والتز لقناة “فوكس” يوم 15/1/2025 في معرض دفاعه عن صفقة تبادل الأسرى واتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
د.ابراهيم علوش
المصدر: الميادين