قراءات سياسية فكرية استراتيجية

عن البعث والاستبداد…

كان ينبغي التمهل قليلاً بعد اسقاط النظام وتدمير الجيش وانجاز تقاسم الجغرافيا السورية بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا واسرائيل ليس فقط بانتظار الخطاب السياسي لقوى السلطة الجديدة، انما ايضاً لتهدأ عاصفة “القاذورات الاعلامية” التي ملأت الفضاء الاعلامي في ذروة شيطنة النظام البعثي (او الأسدي، او الدكتاتوري، او المجرم، او الطاغية، او هؤلاء كلهم معاً) وذلك تفادياً لعدم الانجرار في ظاهرة الاحتشاد (phenomene de masse) تطبيقاً للمثل الرائج : مين ما اخذ امي بعيطلوا عمي، ولقناعتي بأنه لا يمكن للمرء ان يكون ثورياً في قراءة الواقع، خصوصاً في لحظات التغييرات الكبرى، من خارج ادوات المنهج الماركسي اللينيني (وهذا الكلام صار اليوم بالنسبة لكثيرين من “رفاق” الامس المتحولين الى الليبرالية هو من الماضي وينسبوه الى اللغة الخشبية)، بحيث ان تحليل الظواهر الاجتماعية ينبغي ان يمر بموشور تاريخ الظاهرة والبحث في اساسها المادي الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وبترابط عناصر هذه الظواهر بما هي تجليات متنوعة ومشروطة بالصراع الطبقي.
وبالنسبة لجماعة “اليسار المتلبلر” (فمواقف اليمين والرجعيين من مختلف الملل والاتجاهات تجاه تفتيت سوريا هي طبيعية ومنسجمة مع طبيعة هذه القوى والمشاريع التي تنادي بها) المهللين لسقوط النظام بسبب ممارسته القمعية بحق المعارضين، والذين لم يروا في النظام البعثي سوى ادواته القمعية، فانهم يؤكدون محدودية نظرتهم وسطحية مفهومهم لوظيفة الدولة ودورها في المجتمعات الطبقية.
ان الاستبداد السياسي هو من وظيفة الدولة، والتي وبواسطتها فان الطبقة المهيمنة تمارس سيطرتها على المجتمع دفاعاً عن مصالحها وسعياً لاعادة انتاج نفسها باسم الصالح العام وبواسطة ادوات القمع المقوننة الخشنة والناعمة: القضاء، الشرطة، الجيش والاجهزة الامنية، التعليم، الاعلام، المؤسسات الدينية، والخ.
ان توصيف النظام البعثي بانه نظام استبدادي كتجريم له انما يأتي في سياق عملية الشيطنة التي مارستها وتمارسها الامبريالية (المركز، الوكلاء المحليين، الكيان الغاصب) كمقدمة لاسقاط الدولة السورية، التي وضعتها على لوائح الدول المارقة التي يجب تغيير النظام فيها بسبب عرقلته لمشروع الهيمنة على المنطقة. (تكرار لما جرى في رومانيا، العراق وليبيا).
وفي هذا السياق، فانه لا يوجد نظام سياسي واحد في العالم قد يشعر بان مصالح الطبقة التي يمثلها هي مهددة ويرضى بالتنازل لمصلحة العدو او الخصم الطبقي، بل سيكون مستعدا لاغراق المجتمع بالدماء منعا للتغيير. ما تروج له الدعاية البرجوازية عن ديمقراطية هي بالواقع ديمقراطية تداول السلطة بين احزاب البرجوازية، الجمهوري والديمقراطي في اميركا، المحافظين والليبرال في كندا، والخ.
ماذا فعلت السلطة الاميركية في فترة الماكارثية وما سبقها بالنقابات العمالية اليسارية وكيف دمرتها؟ ماذا فعلت سلطة مارغريت تاتشر بالحركة النقابية لعمال المناجم وما كان مصير مئات الوف العائلات؟ ماذا فعلت السلطة الفرنسيىة بتظاهرات السترات الصفر؟ ما هو عدد الانقلابات التي نظمتها المخابرات الاميركية في بلدان العالم بسبب تشكل انظمة سياسية حاولت الامساك بثروات بلادها وتوظيفها لخدمة شعوبها، وما هو عدد السياسيين الذين نُظم اغتيالهم على يد المخابرات الغربية؟
بالعودة الى منطقتنا، هل ان الانظمة السياسية في البلدان العربية، او تركيا، او الكيان الصهيوني “واحة الديمقراطية” بعيون الغربيين، فيها هامش من الحرية للمعارضين السياسيين ؟ هل سجون البحرين، او السعودية، او المغرب او مصر او الاردن او تركيا او. او.. هي فنادق او انه في كل هذه البلدان فان مصير المعارضين السياسيين هو التعذيب والاخفاء والتغييب والقتل والملاحقة والعزل الاجتماعي والتضييق في الوظيفة والخ.

هل كان على عبد الناصر منح حرية العمل السياسي للاخوان المسلمين في مصر، وهم كانوا يتأمرون عليه مع الغرب ضد سياسته المعادية للاستعمار وحاولوا غير مرة اغتياله؟ هل كان على نظام البعث في سوريا ان يمنح الاخوان المسلمين حرية العمل السياسي وهم الذين لم يكتفوا بالمعارضة السياسية انما استخدموا العنف والقتل في حماة وبلغت ذروة دمويتهم في المجزرة التي ارتكبوها في الكلية العسكرية؟

ان نظام البعث لم يكن ليصمد كل هذا الوقت في السلطة لو انه لم يطبق سياسات اقتصادية واجتماعية تنموية ضمن خطط للنهوض الاقتصادي تمثلت باحتكار الدولة للمرافق الاستراتيجية (ملكية وادارة) وتطبيق خطة النهوض الزراعي ضمن الاطر التعاونية بعد توزيع الملكيات الكبرى للارض على الفلاحين، واقامة المشاريع الضخمة لانتاج الطاقة، وانشاء شبكات الطرقات والانارة والري، وجعل التعليم والاستشفاء والطبابة متاحين لكل الناس، وغيرها الكثير من الاجراءات التي وجدت فيها شرائح واسعة من الكادحين والشغيلة وابناء الارياف تجسيداً مباشراً لمصالحهم، وبالتالي، فان النظام ومن خلال هذه السياسات تكرس كقوة سياسية تحظى بحاضنة شعبية واسعة منحته القدرة على الاستمرار (المستوى الاقتصادي) ، وليس عامل القمع فقط (المستوى السياسي) الذي منحه هذه القدرة.
والنقد الذي يجب اخضاع التجربة البعثية السورية يمكن اختصاره بما يلي:
١- بدلاً من تعميق التوجهات الاقتصادية ذات المنحى الاشتراكي فان النظام تراجع عن السياسات الاولى لمصلحة الخصخصة وانتهاج سياسات “انفتاح” اقتصادي تسببت بتدهور مستوى المعيشة في الارياف والانفكاك التدريجي لحاضنة النظام الشعبية عنه، وطبعا تفاقم الوضع مع فرض الحصار من جهة وتدفق المال الخليجي لفصائل المعارضة المسلحة من جهة اخرى.
٢- ان التحولات ذات المنحى الاشنراكي والالتزام بالقضية الوطنية لتحرير الارض المحتلة ومواجهة الكيان الصهيوني هي عناوين لا يمكن تحقيقها من دون سلطة سياسية مؤهلة لذلك، شرطها جبهة وطنية واسعة تمثل الى جانب البعث، كل الاحزاب والتيارات والقوى الوطنية والتقدمية من شيوعية وقومية وناصرية ونخب ثقافية، جبهة حقيقية وليست شكلية مُلحقة بالحزب الحاكم، لها حرية العمل السياسي والتنظيم في القطاعات والنقابات المختلفة. في حين انه في الواقع فان حكم البعث تحول الى حكم لجهاز المخابرات بتفرعاته المختلفة، والذي امسك الخناق على الفضاء العام ومارس كل الموبقات بالتشبيح والقمع والتخويف، وصار افراده من ضباط وجنود يعتاشون ويثرون مستخدمين سلطتهم المطلقة.

٣- تحول حكم البعث الى حكم الرجل الواحد (و العائلة) (والانتقاد هنا لان هذا النظام “التقدمي” لا يجب مقارنته بنظام الملوك مثل آل سعود، او آل الصباح، او آل خليفة والخ) الذي تم توريت السلطة لأبنه بعد تعديل الدستور، وما جرى بالممارسة من امتيازات حظي بها المقربون من ابناء الطائفة من خارج الاصول المعتمدة، وهكذا، تماهى النظام مع الشخص، بل ان كل سوريا بارضها ومؤسساتها تماهت مع شخص الرئيس.

انها ملاحظات أولية وهي ليست كل ما يمكن وينبغي ان يقال في وقت اصبحت سوريا المحكومة من قبل هيئة تحرير الشام دولة منتدبة من قبل تركيا (في اليوم التالي لسقوط النظام قام مسؤول المخابرات التركية بزيارة لدمشق وادى الصلاة في المسجد الاموي تنفيذا لما قاله اردوغان) واراضيها الباقية محتلة من قبل اسرائيل وتركيا واميركا. ويبقى السؤال ما العمل؟

دكتور طنوس شلهوب

اقرأ المزيد
آخر الأخبار