إنّ تاريخ الإنسان تاريخ حروب وإن اختلفت في أسبابها وتبعاتها وضراوتها, غير أنّ ما يكشف عنه التاريخ حتماً هو مفارقتين: الأولى هي أنّ الحرب تتدعّم بقدر ما يزداد الإنسان تحضّراً وتقدّماً, فكّلما ازداد تقدّماً ازداد وللمفارقة توحّشاً, بقدر ما يصنع ويبدع يتضخّم شعوره بقوّته التسلّطية, فيميل أكثر إلى التصادم وإلى ممارسة السلطة والتسلّط وكأنّ كلّ ما يصنعه الإنسان من آلات ليسيطر بها على العالم تنقلب حسب “هايدغر” ضدّه لتأسره وليقوده صراعه مع الطبيعة إلى صراعه مع الإنسان. ثمّ إنّ المفارقة الثانية تتجلّى في أنّ جميع من تقاتلوا في التاريخ الإنساني كان كلّ منهم يزعم أنّ الحقّ معه وأنّ وجهة نظره تمثّل الحقيقة ناصعةً وأن لا شكّ أو لبس في هذا. لا ريب أنّ في هذا نوع من التمييع العامّ لمناقشة الأمور الكبرى ذات الإستدلالات المعقّدة والقضايا الجدّية. لكن قد لا يخلو الأمر من إمكانية ضبط, إذ إنّ كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى التقدّم في الحياة وتحرير الإنسان والإمتلاء الروحي والسموّ الأخلاقي واحتياجاته كي يبقى منعّماً كريماً على قيد الحياة يمكن أن يكون من قبيل “الحقّ” بمعناه الأكثر شمولاً, وليس مجرّد تصوّرات أيديولوجية أو سياسية عن الحقّ قاد بعضها إلى إتعاس البشرية عبر تاريخها المديد.
أنْ تُهزَم شيءٌ، وأن تتخلّى عن قضيّتك شيءٌ آخر، فمن أدبيات الحرب أنّ المهزوم هو الذي يعترف بهزيمته، ولكن أشدّ أنواع الهزائم ذلّاً هي التخلّي عن القضية التي تحملها. فالتاريخ لا ينصر دوماً القضايا العادلة، هذا صحيح, ولكن ليس لأنّ أصحابها انهزموا أو ارتضوا بالهزيمة، بل لأنّ شروط هزيمتها تستند في المقام الأول لعوامل عديدة أبرزها عاملان: مكر التاريخ حسب هيغل و عوامل غير أخلاقية تخفي وراءها -حسب أنجلز- محرّكات إقتصاديّة خفيّة. فمهما تباعدت القراءات أو تقاربت وجهات نظرها في رؤيتها للحرب, ومهما تنوعت منطلقات البحث فيها, فإنّ هذا الصراع المسلّح الذي نسمّيه حرباً ليس سوى ضرب من التواصل حلّ فيه القتال محلّ السلم والحوار, وهذا يكشف عن إجتماعية ظاهرة الحرب في ممارستها باعتبارها نتاج اجتماعي تجاوز الفرد وتجسّم في العقل الجمعي حسب دوركهايم. إذن الحرب ظاهرة غير غريزية, ذلك أنّ التنازع بين المجتمعات والأفراد بدأ مع بداية امتلاك الإنسان للأرض التي يسكنها ومع أول ابتكار مادّي اخترعه لاستغلال واستثمار الأرض التي شرع لنفسه حقّ ملكيتها, فكلّما امتلك الإنسان أكثر طالب بالمزيد ولا سلاح لتحقيق هذا “الحق” إلا بممارسة حقّ القوّة فيشرع للعنف ويعقلن القهر ويقنّع الإستغلال والإستعباد فتنشأ الحروب.
يقول روسّو “إذا نظرت حولي رأيت شعوباً بائسة تئنّ تحت نير حديديّ ورأيت الجنس البشري تسحقه حفنة من الطغاة ورأيت طائفة الجياع يكبّلها الشقاء,وأنظر بعيداً فأرى القوي متسلّحاً ضدّ الضعيف بقوة القانون الرهيبة وأرى النيران تشعل أريافاً مقفرّة ومدناً منهوبةً, وأسمع صخباً مروّعاً..أدنو فأرى ساحة موت قد ذُبح فيها عشرة آلاف إنسان وتكدّس الموتى أكواماً وقد ديس الجرحى تحت سنابك الخيل وحيثما نظرت رأيت صور الموت والإحتضار.. تلك هي إذن ثمرة هذه النظم السلمية”. يستنكر جان جاك روسو في كتابه “حالة الحرب” ما وصل إليه العالم من حالة مدنية انتهكت فضائل الإنسان الطبيعي واستحكمت بحرّيته وعدالته. يربط روسو رفضه واستنكاره للمدنية بضرورة التنظير للعودة للحالة الطبيعية ذلك أنّه “لم يعد مباحاً للمرء أن يكون إنساناً وأن يدافع عن قضية الإنسانية, إذ يجب إخضاع العقل والحقيقة لمصالح من هم أشدّ قوّة, هذه هي القاعدة..”. قد يكون روسو محقّاً, فالمقارنات دائماً حاضرة بموضوعيتها, فإذا كان امتعاض روسو من المدنية قائم على أنّها جرّت الإنسان إلى البؤس على أنواعه, فإنّ الامر اليوم لا يختلف كثيراً عمّا سبق, ذلك أنّ التنوير كثمرة من ثمرات الإنتقال للحالة المدنية لم يقدّم للإنسان فيما قدّمه من “تحضّر” وتكنولوجيا وعقلانية, إلّا الأسى والإستعمار والعنصرية والفقر والحروب..
يطرح هذا الفهم إشكالية واضحة, فالعنف عند روسو بمستوياته المتفاوتة صار ملازماً للوجود الإنساني المدني, وبالتالي تجاوزت المسألة فكرة أن يكون الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان كما يفترض توماس هوبس, فتمخّض السلطة والعنف عن عقد إجتماعي شيء يختلف عن ممارسة الإنسان لطبيعته الأولى وإن خالطها عنف ما غير منظّم. إذن كيف يمكن أن يكون العنف( طالما أنّه ملازم للإنسان) سلوكاً حضارياً يرتقي بالإنسان ويساهم في إنقاص “الشر” المتجلّي في ما يمكن تسميته العمل الإجرامي؟ كيف يمكن أن يكون العنف خط تماس مجرّد, إمّا تعبره لتصبح جلّاداً وإمّا تعبره لتصبح ثوريّاً؟
لقد ناقش جورج بليخانوف في كتابه “الفنّ والتصوّر المادّي للتاريخ”, الكونت تولستوي حول قضيّة أنّ العنف لا يكون شرّاً بذاته إلّا إذا مُورس لذاته. بمعنى أوضح, كان تولستوي يؤمن أنّه لا ضرورة لمقابلة العنف بالعنف, لأنّ هذا يجرّنا إلى الويلات وسلسلة من القتل والإجرام لا تنتهي ويضع المعادلة التالية: “العنف بذاته شرّ, ومقابلة الشر بالعنف لا تعني وضع حدّ للشرّ بل إضافة شرّ جديد إلى القديم..”, في حين أنّ بليخانوف يعتبر أنّ العنف قضيّة أخلاقية في المقام الأول. فالعنف الذي يمارسه الثوري والمصلح والمناضل والبروليتاري, “يؤدّي إلى تحسين في التنظيم الإجتماعي ويساهم لا في زيادة الشر بل في إنقاصه.. فوضعك –والكلام لبليخانوف- في المجتمع هو الذي يجبرك على الأخذ بالعنف كممارسة واجبة, إذ قتل الشرير واجب حسب غوركي, وهذا ما يجعل المناضلَ, مناضلاً قادراً على اللجوء إلى أعنف الأعمال, وهذا الإلتزام بضرورة إبعاد الشر لا الوقوف بعيداً عنه هو ما يجعل من ممارسة العنف ممارسة أخلاقية. لم ينظر تولستوي للعنف من زاوية تاريخية تحليلية وقد فرّغه من أيّة غاية نبيلة محتملة, فمقابلة الشر بالعنف في نظره تعني إصدار حكم الموت مقابل جريمة القتل. فجريمة قتل+ جريمة قتل= جريمتا قتل ببساطة. إنّ كتابات فرانز فانون وماوتس تونع وجيفارا كلّها ركّزت على فضائل حروب التحرير وأعطت أهمية أساسية لدور الحرب والقوة والعنف في التاريخ. لذلك ليس مستغرباً ألاّ يكون الجلّاد مثلاً أو أي قاتل آخر ثوريّاً, فهو لا يساهم في تغيير البنية الإجتماعية ولا في قضيّة القتال من أجل التحرّر ولا يساهم في إنقاص الشرّ المتمثّل في مبلغ الإجرام.
بالمقابل, يرى أنصار المدرسة الواقعية أنّ الأمر يعود إلى أنّ الأفراد لا يملكون أي مسوّغ أو باعث أو سبب لاحترام ما تفرضه الأخلاق لتحقيق غاياتهم في حالة الحرب, فالحديث عن العدل والأخلاق والقوانين والفضائل لا مكانة له أثناء الحروب, فالحرب من وجهة نظر واقعية ليست موضوعاً للتقييم الأخلاقي ولا يمكن إجراء أي تسويغ أخلاقي لها, فإذا ضربت أوجع وقابل كل فعل عنيف ودموي بأشرس منه. فكلّ القوانين الأخلاقية حتّى في الأمم المتحضّرة من وجهة نظر الواقعية ينبغي أن تُعلّق أثناء الحرب.
إنّ كل حركة عدوانية في التاريخ هي بطبعها حركة غير أخلاقية من حيث مفاهيمها وسلوكها ووسائلها وغاياتها, وهي كذلك حتّى قبل أن يتم تأطيرها ببعد واقعي ونظري, ولذلك ينشأ الفعل المقاوم كطرف جدلي نقيض للعدوان ممارسةً وفكراً وغايةً, فالمقاومة ليست مبارزة أولمبية او اندفاع متهور نحو الحرية.هي اقصى مراحل الممارسة السياسية والاخلاقية إذ إنّه لوعيٌ حادّ أنْ تصل إلى خلاصة مفادها انّ الخيار الوحيد أمامك هو القتال. يأخذنا ذلك للحديث عن ثقافة الحياة وثقافة الموت اللتين رُوِّجا في مقابل الحرب والسلم مثلاً أو العدوان والمقاومة إلخ.., فيعتبر البعض أن الكفاح المسلّح والنضال هي أفعال تودي بصاحبها إلى موت مجّاني لا يصاحبه أيّ مبدأ أو غاية تستحقّ أن تُبذل النفس في سبيلها, ويعيبون أنّك “تنتحر” عبثاً وتدمّر قراك ومدنك بلا جدوى, بل إنّ موتك مستحقٌّ عليك طالما أنّك تقاتل عن غيرك ولغيرك بلا وطنية, بلا قضية, ولذلك عن أيّ حياة حرّة تبحث؟ إذن إنّ الحياة من منظورهم هي المسالمة مع الأعداء, أو قل هي أنسنة العدو.., يميّز إريك فروم بين نوعين من الإنسان, من يعشق الموت ومن يعشق الحياة, فيعتبر أنّ الإخفاق في حبّ الحياة هو الموت, في حين أنّنا نلاحظ –حسب فروم- “أنّ الميل للحياة موجود في كلّ الكائنات البشرية من حولنا, في الحشائش التي تخترق الأحجار كي تحصل على الضوء والحياة, وفي الحيوان الذي يحارب حتّى النهاية للهروب من الموت, وفي الإنسان الذي يفعل أي شيء للإبقاء على حياته.” بناء على الفهم ذلك تكون المقاومة وبالضرورة نجاح مطلق في حبّ الحياة, فالمقاومة تؤكّد على أسبقية الحياة في كل شيء, وعلى إمكانية أنّ الموت يُقاوَم ولا يُقاوِم.
يكتب مكيافيللي يقول بأنّ “الأمير يلقى بالغ الإحترام إذا برهن على أنّه إمّا يكون صديقاً مخلصاً وإمّا عدوّاً لدوداً, وهذا يعني أن يعلن بلا تحفّظ عطفه على إنسانٍ ما وعداءه لإنسان آخر, فهذا بلا ريب أفضل دائماً من البقاء على الحياد”. فالمنطق السليم للأمور يفترض أنّ جاذبية المقاومة أية مقاومة تكمن في أنّها تعيد للناس كرامة النفس والأرض باعتبارهما فكرة مكثفة لمعنى أن تكون. ولكن حينما يفلت المنطق من/عن “عقاله” تصبح فكرة الحياد أو الموقف من الذي يجري الآن ووصمه بأنّه باطل لا يمت للبطولة بشيء لأنه غير شرعي بمعايير “محبّي الحياة”, يصبح موقفاً لا ينفصل عن أنّه موقف من الصراع ذاته وليس من الحرب بوصفها حرب لا طائل منها. ومعنى أنّه موقف من الصراع الدائر هو بالضرورة انحيازٌ حاد يتلطّى بالهوية والتاريخ والنسب والثقافة ليعبّر عن “الخنوع في الحياة”. إنّ الحياد لا يحمل قضيّة ولا ينبغي أن يكون مساراً استراتيجيّاً, يكمل مكيافيللي بأنّه “إذا اشتبكت دولتان مجاورتان لك في حرب, فعليك أن تقف منهما ذلك الموقف الذي يؤدّي إمّا إلى خوفك من الدولة المنتصرة أو عدم الخوف منها, وفي كلتا الحالتين حريٌ بك أن تعلن عن موقفك بصراحة وأن تخوض الحرب, إذ إنّ عدم خوضك لها في الحالة الأولى يجعلك فريسة سهلة للمنتصر مما يبعث في نفس المهزوم الرضا والبهجة ولن تجد سبباً أو مبرراً للدفاع عن موقفك كما لن تلقى أحداً يرحّب بك. إذ إنّ المنتصر-أيّاً كان- لا يرغب في اتخاذ أصدقاء لا يطمئن إليهم ولا يسارعون إلى مساعدته في وقت شدّته. أما المهزوم فلن يرحّب بك بدوره لأنّك لم تخض المعركة إلى جانبه دفاعاً عن قضيّته..”
إنّ فعل رفض العمل المقاوم ليس طرفاً جدلياً إذن في معادلتها، بينما المقاومة بذاتها هي الطرف الجدلي النقيض للإستعمار و”بزيارة جديدة للتاريخ” ينجلي بوضوح أنّ فعل رفض حركات المقاومة لا يذكره التاريخ ولا يسجّله كانعطافة بقدر ما كانت وتكون حركات المقاومة هي التي تملي على التاريخ حقيقتها, وبالتالي لا بدّ من إعادة النظر في معنى فلسفة المقاومة للبحث عن جدلية أخرى ترقى ولو بالجدل الشكلي الكتابي وسطحية أفكاره في أن تؤثّر ولو بفانتازيا النظرية على لامعنى أن يكون الإنسان حرّاً.
خاتمة:
إذن فالمقاومة فرصة لكي تدخل إلى التاريخ. وهنا محكّ إنسانيتك. المقاومة فكرة مجرّدة ولربّما تصبح من المقولات. ولكن أن تكون مقاوماً فذلك التعقيد والصعوبة. فليس السؤال كيف أكون مقاوماً إذن إنّما لماذا عليّ أنّ أقاوم؟اختيارك و إجابتك على أي من هذين السؤالين يحدّدان درجة تطورّك الحضاري. الفكرة كالتالي، هناك من لا خيار له سوى القتال؛ وهم إنسانُنا الأعلى بأرقى تجلياته، وهناك من له ترف أن يختار أيّ شكل من النضال يرتاح له، وبالتالي المقاومة مرنة لدرجة أنّ حتى اختيارك لما تستطيع أنّ تناضل به يعود لك، إذ أنّنا في زمن فكرة أن تكون مع المقاومة ولو داخل مقهاك دون ان تصوّب عليها هو سلوك حسن للإجابة على كيف تقاوم. فما بالك والخيارات شتّى فيمن يختار رفض المقاومة كجوهر؟،ولذلك سؤال كيف تقاوم هو سؤال ليس السؤال الذي ينبغي الدوران حوله، فالإستنزاف في الردّ عليه يوميّاً بالثرثرة مضيعة للوقت وانحراف عن المسائل المهمّة. ذلك أنّ سؤال لماذا نقاوم هو سؤال فلسفي وإنساني ويجب أن تكون إجابته منفصلة تماماً عن أي تحقيب تاريخي وسياسي أي يجب ألا تكون الإجابة عليه مرتبطة بحدث وبتفسير ضيّق للنظريات. لماذا نقاوم هو سؤال من أسئلة الكينونة لأنّه جزء من فكرة أعمّ هي لماذا أنا موجود. وأيضاً لماذا نقاوم هو سؤال ذو طبيعة مادّية لأنّه سؤال تؤسّس له وسائل الإنتاج وعلاقاته، لمن هم تحت، الذين لا خيار أمامهم سوى أنْ يقاتلوا بكل المعاني. إذن جوهر الإجابتين ينهل من وعيٍ واحد: أقاوم لأنّ من حقّي أن أكون، وأقاوم لأبقى محافظاً على هذا الحقّ أو لأستردّه.
فحركات المقاومة اليوم تكتب مصادر جديدة لتاريخ حركات التحرر فلا تجترّ ولا تعيد انتاج أساليب مكشوفة. ولذلك اذا كان الغرب قد كتب نهاية التاريخ فإنّ المقاومة هي التي تفتتح الآن بدايته من جديد. ذلك لأنّ بيننا وبينهم الأيام والليالي والميدان.